الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .

                سؤال ورد على الشيخ رحمه الله قال السائل : الحمد لله رب العالمين

                يا متقنا علم الحديث ومن روى سنن النبي المصطفى المختار     أصبحت في الإسلام طودا راسخا
                يهدي به وعددت في الأحبار     هذي مسائل أشكلت فتصدقوا
                ببيانها يا ناقلي الأخبار     فالمستعان على الأمور بأهلها
                إن أشكلت قد جاء في الآثار     ولكم كأجر العاملين بسنته
                بينتموها يا أولي الأبصار

                [ ص: 6 ] الأولى : ما حد الحديث النبوي ؟ أهو ما قاله في عمره أو بعد البعثة أو تشريعا ؟ .

                الثانية : ما حد الحديث الواحد ؟ وهل هو كالسورة أو كالآية أو كالجملة ؟ .

                الثالثة : إذا صح الحديث هل يلزم أن يكون صدقا أم لا ؟ .

                الرابعة : تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف تسمية صحيحة أو متداخلة ؟ .

                الخامسة : ما الحديث المكرر المعاد بغير لفظه ومعناه من غير زيادة ولا نقص ؟ وهل هو كالقصص المكررة في القرآن العظيم ؟ .

                السادسة : كم في صحيح البخاري حديث بالمكرر ؟ وكم دونه ؟ وكم في مسلم حديث به ودونه ؟ وعلى كم حديث اتفقا ؟ وبكم انفرد كل واحد منهما عن الآخر ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله الحمد لله رب العالمين . الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف [ ص: 7 ] إلى ما حدث به عنه بعد النبوة : من قوله وفعله وإقراره ; فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة . فما قاله إن كان خيرا وجب تصديقه به وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه ; فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه .

                ولهذا كان كل رسول نبيا وليس كل نبي رسولا وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } وقد اتفق المسلمون على أنه لا يستقر فيما بلغه باطل سواء قيل : إنه لم يجر على لسانه من هذا الإلقاء ما ينسخه الله أو قيل : إنه جرى ما ينسخه الله فعلى التقديرين قد نسخ الله ما ألقاه الشيطان وأحكم الله آياته والله عليم حكيم ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق .

                وقد روي أن { عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كلما تسمع فسأل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 8 ] عن ذلك فقال : اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق - يعني شفتيه الكريمتين - } .

                وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو ; فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده وقالوا : هي نسخة . - وشعيب هو : شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص - وقالوا عن جده الأدنى محمد : فهو مرسل ; فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وإن عنى جده الأعلى فهو منقطع ; فإن شعيبا لم يدركه .

                وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا : الجد هو عبد الله ; فإنه يجيء مسمى ومحمد أدركه قالوا : وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أوكد لها وأدل على صحتها ; ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب [ ص: 9 ] من الأحاديث الفقهية التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام .

                والمقصود : أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة وذكر ما فعله ; فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله : لتأخذوا عني مناسككم } وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص ; ولهذا قال : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ولما أحل له الموهوبة قال : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } .

                ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح وكان إذا قيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : { إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده } ومما يدخل في مسمى حديثه : ما كان يقرهم عليه مثل : إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها وإقرارهلعائشة على اللعب بالبنات وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين ومثل لعب الحبشة بالحراب في المسجد ونحو ذلك وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته وإن [ ص: 10 ] كان قد صح عنه أنه ليس بحرام . إلى أمثال ذلك فهذا كله يدخل في مسمى الحديث وهو المقصود بعلم الحديث ; فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره .

                وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة مثل : تحنثه بغار حراء ومثل : حسن سيرته ; لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة : من كرائم الأخلاق ومحاسن الأفعال كقول خديجة له : كلا والله لا يخزيك الله أبدا : إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق ومثل المعرفة فإنه كان أميا لا يكتب ولا يقرأ وأنه لم يجمع متعلم [ مثله ] وإن كان معروفا بالصدق والأمانة وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته وصدقه فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرا ; ولهذا يذكر مثل ذلك من كتب سيرته كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك بما يعلم أحواله وهذا أيضا قد يدخل في مسمى الحديث .

                والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير ومنها كتب السيرة والمغازي ومنها كتب الحديث . وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة ; فإن تلك لا تذكر لتؤخذ وتشرع فعله قبل النبوة بل قد أجمع المسلمون على أن الذي [ ص: 11 ] فرض على عباده الإيمان به والعمل هو ما جاء به بعد النبوة .

                ولهذا كان عندهم من ترك الجمعة والجماعة وتخلى في الغيران والجبال حيث لا جمعة ولا جماعة وزعم أنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه كان متحنثا في غار حراء قبل النبوة في ترك ما شرع له من العبادات الشرعية التي أمر الله بها رسوله واقتدى بما كان يفعل قبل النبوة كان مخطئا ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه الله بالنبوة لم يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية وفي غزوة الفتح وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء وكذلك أصحابه من بعده لم يكن أحد منهم يأتي غار حراء ولا يتخلون عن الجمعة والجماعة في الأماكن المنقطعة ولا عمل أحد منهم خلوة أربعينية كما يفعله بعض المتأخرين بل كانوا يعبدون الله بالعبادات الشرعية التي شرعها لهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله عليهم الإيمان به واتباعه ; مثل الصلوات الخمس وغيرهما من الصلوات ومثل الصيام والاعتكاف في المساجد ومثل أنواع الأذكار والأدعية والقراءة ومثل الجهاد .

                وقول السائل : ما قاله في عمره أو بعد النبوة أو تشريعا فكل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع لكن التشريع [ ص: 12 ] يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب . فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به فهو شرع لإباحته وقد يكون شرعا لاستحبابه ; فإن الناس قد تنازعوا في التداوي هل هو مباح أو مستحب أو واجب ؟ . والتحقيق : أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح ; ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب وهو : ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره كما يجب أكل الميتة عند الضرورة فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء وقد قال مسروق . من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار فقد يحصل أحيانا للإنسان إذا استحر المرض ما إن لم يتعالج معه مات والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف وكاستخراج الدم أحيانا .

                والمقصود : أن جميع أقواله يستفاد منها شرع وهو { صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم : ما أرى هذا - يعني شيئا - ثم قال لهم : إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله } وقال : { أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي } وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن ( الخيط الأبيض و ( الخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود .



                [ ص: 13 ] فصل وأما الحديث الواحد فيراد به ما رواه الصاحب من الكلام المتصل بعضه ببعض ولو كان جملا كثيرة مثل حديث توبة كعب بن مالك وحديث بدء الوحي وحديث الإفك ونحو ذلك من الأحاديث الطوال ; فإن الواحد منها يسمى حديثا وما رواه الصاحب أيضا من جملة واحدة أو جملتين أو أكثر من ذلك متصلا بعضه ببعض فإنه يسمى حديثا كقوله : { لا صلاة إلا بأم القرآن } { الجار أحق بسقبه } { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } وقوله : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } إلى آخره فإنه يسمى حديثا .

                وكذلك قوله : { لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا } وقوله في البحر : { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } وقد أكمل من أجناس مختلفة لكن في الأمر العام تكون مشتركة في معنى عام كقوله : { لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يبيع على بيع أخيه ولا يستام على سوم أخيه ولا [ ص: 14 ] تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها ولتنكح فإن لها ما قدر لها } فإن هذا يتضمن النهي عن مزاحمة المسلم في البيع والنكاح وفي البيع لا يستام على سومه ولا يبيع على بيعه وإذا نهاه عن السوم فنهيه المشتري على شرائه عليه حرام بطريق الأولى ونهاه أن يخطب على خطبته . وهذا نهي عن إخراج امرأته من ملكه بطريق الأولى ونهي المرأة أن تسأل طلاق أختها لتنفرد هي بالزوج فهذه وإن تعلقت بالبيع والنكاح فقد اشتركت في معنى عام .

                وكذلك قوله : { ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر } فهؤلاء الثلاثة اشتركوا في هذا الوعيد واشتركوا في فعل هذه الذنوب مع ضعف دواعيهم ; فإن داعية الزنا في الشيخ ضعيفة وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة ; لاستغنائه عنه وكذلك داعية الكبر في الفقير فإذا أتوا بهذه الذنوب مع ضعف الداعي دل على أن في نفوسهم من الشر الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم .

                وقل أن يشتمل الحديث الواحد على جمل إلا لتناسب بينهما وإن كان قد يخفى التناسب في بعضها على بعض الناس فالكلام المتصل بعضه ببعض يسمى حديثا واحدا .

                [ ص: 15 ] وأما إذا روى الصاحب كلاما فرغ منه ثم روى كلاما آخر وفصل بينهما : بأن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأن طال الفصل بينهما فهذان حديثان وهذا بمنزلة ما يتصل بالكلام في الإنسان والإقرارات والشهادات كما يتصل بعقد النكاح والبيع والإقرار والوقف فإذا اتصل به الاتصال المعتاد كان شيئا واحدا يرتبط بعضه ببعض وانقضى كلامه ثم بعد طول الفصل أنشأ كلاما آخر بغير حكم الأول كان كلاما ثانيا فالحديث الواحد ليس كالجملة الواحدة ; إذ قد يكون جملا ولا كالسورة الواحدة فإن السورة قد يكون بعضها نزل قبل بعض أو بعد بعض ويكون أجنبيا منه بل يشبه الآية الواحدة أو الآيات المتصل بعضها ببعض كما أنزل في أول البقرة أربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين ; وكما في قوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } فإن هذا يتصل بعضه ببعض وهو نزل بسبب قصة بني أبيرق إلى تمام الكلام .

                وقد يسمى الحديث واحدا وإن اشتمل على قصص متعددة إذا حدث به الصحابي متصلا بعضه ببعض فيكون واحدا باعتبار اتصاله في كلام الصحابي مثل حديث جابر الطويل الذي يقول فيه : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وذكر فيه ما يتعلق بمعجزاته وما [ ص: 16 ] يتعلق بالصلاة وبغير ذلك فهذا يسمى حديثا بهذا الاعتبار وقد يكون الحديث طويلا وأخذ يفرقه بعض الرواة فجعله أحاديث كما فعل البخاري في كتاب أبي بكر في الصدقة وهذا يجوز إذا لم يكن في ذلك تغيير المعنى .



                فصل وأما قول السائل : إذا صح الحديث هل يكون صدقا ؟ .

                فجوابه : أن الصحيح أنواع وكونه صدقا يعني به شيئان . فمن الصحيح ما تواتر لفظه كقوله : { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار } . ومنه ما تواتر معناه : كأحاديث الشفاعة وأحاديث الرؤية . وأحاديث الحوض وأحاديث نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك . فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق ; لأنه متواتر إما لفظا وإما معنى ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول فعملوا به كما عملوا بحديث الغرة في الجنين وكما عملوا بأحاديث الشفعة وأحاديث سجود السهو ونحو ذلك . فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق ; لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقا وعملا بموجبه والأمة لا تجتمع على ضلالة ; فلو كان في نفس الأمر كذبا لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل [ ص: 17 ] به وهذا لا يجوز عليها .

                ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث البخاري ومسلم ; فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث فإجماع أهل العلم بالحديث على أن هذا الخبر صدق كإجماع الفقهاء على أن هذا الفعل حلال أو حرام أو واجب وإذا أجمع أهل العلم على شيء فسائر الأمة تبع لهم ; فإجماعهم معصوم لا يجوز أن يجمعوا على خطأ .

                ومما قد يسمى صحيحا ما يصححه بعض علماء الحديث وآخرون يخالفونهم في تصحيحه فيقولون : هو ضعيف ليس بصحيح مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم إما مثله أو دونه أو فوقه فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل مثل : حديث ابن وعلة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أيما إهاب دبغ فقد طهر } فإن هذا انفرد به مسلم عن البخاري وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره وقد رواه مسلم ومثل ما روى مسلم أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف ثلاث ركوعات وأربع ركوعات } انفرد بذلك عن البخاري فإن هذا ضعفه حذاق أهل العلم وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم وفي نفس هذه الأحاديث التي فيها الصلاة بثلاث ركوعات [ ص: 18 ] وأربع ركوعات أنه إنما صلى ذلك يوم مات إبراهيم ومعلوم أن إبراهيم لم يمت مرتين ولا كان له إبراهيمان وقد تواتر عنه أنه صلى الكسوف يومئذ ركوعين في كل ركعة كما روى ذلك عنه عائشة وابن عباس وابن عمرو وغيرهم ; فلهذا لم يرو البخاري إلا هذه الأحاديث وهذا حذف من مسلم ; ولهذا ضعف الشافعي وغيره أحاديث الثلاثة والأربعة ولم يستحبوا ذلك وهذا أصح الروايتين عن أحمد وروي عنه أنه كان يجوز ذلك قبل أن يتبين له ضعف هذه الأحاديث .

                ومثله حديث مسلم : { إن الله خلق التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة } فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما وذكر البخاري أن هذا من كلام كعب الأحبار وطائفة اعتبرت صحته مثل أبي بكر ابن الأنباري وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما والبيهقي وغيره وافقوا الذين ضعفوه وهذا هو الصواب ; لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد وهكذا هو عند أهل الكتاب وعلى ذلك تدل أسماء الأيام وهذا هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر ; [ ص: 19 ] ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة وهو خلاف ما أخبر به القرآن مع أن حذاق أهل الحديث يثبتون علة هذا الحديث من غير هذه الجهة وأن رواية فلان غلط فيه لأمور يذكرونها وهذا الذي يسمى معرفة علل الحديث بكون الحديث إسناده في الظاهر جيدا ولكن عرف من طريق آخر : أن راويه غلط فرفعه وهو موقوف أو أسنده وهو مرسل أو دخل عليه حديث في حديث وهذا فن شريف وكان يحيى بن سعيد الأنصاري ثم صاحبه علي بن المديني ثم البخاري من أعلم الناس به وكذلك الإمام أحمد وأبو حاتم وكذلك النسائي والدارقطني وغيرهم . وفيه مصنفات معروفة .

                وفي البخاري نفسه ثلاثة أحاديث نازعه بعض الناس في صحتها مثل : حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن : { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } فقد نازعه طائفة منهم أبو الوليد الباجي وزعموا أن الحسن لم يسمعه من أبي بكرة لكن الصواب مع البخاري وأن الحسن سمعه من أبي بكرة كما قد بين ذاك في غير هذا الموضع وقد ثبت ذلك في غير هذا الموضع .

                والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم ; ولهذا لا يتفقان على [ ص: 20 ] حديث إلا يكون صحيحا لا ريب فيه قد اتفق أهل العلم على صحته ثم ينفرد مسلم فيه بألفاظ يعرض عنها البخاري ويقول بعض أهل الحديث . إنها ضعيفة ثم قد يكون الصواب مع من ضعفها : كمثل صلاة الكسوف بثلاث ركعات وأربع وقد يكون الصواب معمسلم وهذا أكثر مثل قوله في حديث أبي موسى : { إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا } فإن هذه الزيادة صححها مسلم وقبله أحمد بن حنبل وغيره وضعفها البخاري وهذه الزيادة مطابقة للقرآن فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن فإن في قوله : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص .

                ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد وهذا قول جمهور السلف والخلف وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه وهو أحد قولي الشافعي واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة .

                وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف : أنه [ ص: 21 ] لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر ; فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما .

                وفيها قول ثالث : أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات .

                ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور ; لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام : هل تبطل صلاته ؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد . وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة ; بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه . وبسط هذا له موضع آخر .

                [ ص: 22 ] والمقصود هنا : التمثيل بالحديث الذي يروى في الصحيح وينازع فيه بعض العلماء وأنه قد يكون الراجح تارة وتارة [ المرجوح ] ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في في الأحكام وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام وهذا لا يكون إلا صدقا وجمهور متون الصحيح من هذا الضرب وعامة هذه المتون تكون مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه رواها هذا الصاحب وهذا الصاحب من غير أن يتواطآ ومثل هذا يوجب العلم القطعي ; فإن المحدث إذا روى حديثا طويلا سمعه ورواه آخر ذكر أنه سمعه وقد علم أنهما لم يتواطآ على وضعه علم أنه صدق ; لأنه لو لم يكن صدقا لكان كذبا إما عمدا وإما خطأ ; فإن المحدث إذا حدث بخلاف الصدق : إما أن يكون متعمدا للكذب ; وإما أن يكون مخطئا غالطا . فإذا قدر أنه لم يتعمد الكذب ولم يغلط لم يكن حديثه إلا صدقا والقصة الطويلة يمتنع في العادة أن يتفق الاثنان على وضعها من غير مواطأة منهما وهذا يوجد كثيرا في الحديث يرويه أبو هريرة وأبو سعيد أو أبو هريرة وعائشة أو أبو هريرة وابن عمر أو ابن عباس وقد علم أن أحدهما لم يأخذه من الآخر مثل حديث التجلي يوم القيامة الطويل : حدث به أبو هريرة وأبو سعيد ساكت لا ينكر منه حرفا بل وافق أبا هريرة عليه جميعه إلا على لفظ واحد في آخره .

                [ ص: 23 ] وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم حدث به في مجلس وسمعه كل واحد منهما في مجلس فقال هذا ما سمعه منه في مجلس وهذا ما سمعه منه في الآخر وجميعه في حديث الزيادة والله أعلم .



                فصل وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله وقد بين أبو عيسى مراده بذلك . فذكر : أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب ولم يكن شاذا وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم . وقال : الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ ; فإنه إذا رواه المجهول خيف أن يكون كاذبا أو سيئ الحفظ فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعا وقد يكون بعيدا ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنا نزل من درجة الصحيح .

                وقد أنكر بعض الناس على الترمذي هذه القسمة وقالوا : إنه يقول : حسن غريب . والغريب الذي انفرد به الواحد والحديث قد [ ص: 24 ] يكون صحيحا غريبا كحديث { إنما الأعمال بالنيات } وحديث { نهى عن بيع الولاء وهبته } وحديث { دخل مكة وعلى رأسه المغفر } فإن هذه صحيحة متلقاة بالقبول والأول : لا يعرف ثابتا عن غير عمر والثاني : لا يعرف عن غير ابنه عبد الله والثالث : لا يعرف إلا من حديث الزهري عن أنس ولكن هؤلاء الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله ; فإن أهل الحديث قد يقولون : هذا الحديث غريب أي : من هذا الوجه وقد يصرحون بذلك فيقولون : غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحا معروفا من طريق واحد فإذا روي من طريق آخر كان غريبا من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحا معروفا فالترمذي إذا قال : حسن غريب قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق ; ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن .

                وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه فقد يضعف حديثا ويصححه البخاري ; { كحديث ابن مسعود لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ابغني أحجارا أستنفض بهن قال : فأتيته بحجرين وروثة قال : فأخذ الحجرين وترك الروثة وقال : إنها رجس } فإن هذا قد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي فجعل الترمذي هذا الاختلاف [ ص: 25 ] علة ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه وأما البخاري فصححه من طريق أخرى ; لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب وتارة عن أبي سلمة وتارة يجمعهما فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط وكلاهما صحيح . وهذا باب يطول وصفه .

                وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف والضعيف عندهم نوعان : ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي .

                وضعيف ضعفا يوجب تركه وهو الواهي وهذا بمنزلة مرض المريض قد يكون قاطعا بصاحبه فيجعل التبرع من الثلث وقد لا يكون قاطعا بصاحبه وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره ; ولهذا يقولون : هذا فيه لين ، فيه ضعف ، وهذا عندهم موجود في الحديث .

                [ ص: 26 ] ومن العلماء المحدثين أهل الإتقان : مثل شعبة ومالك والثوري ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي هم في غاية الإتقان والحفظ ; بخلاف من هو دون هؤلاء وقد يكون الرجل عندهم ضعيفا لكثرة الغلط في حديثه ويكون حديثه إذا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به ; فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا حتى قد يحصل العلم بها ولو كان الناقلون فجارا فساقا فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط . ومثل هذا عبد الله بن لهيعة فإنه من أكابر علماء المسلمين وكان قاضيا بمصر كثير الحديث لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصحة قال أحمد : قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به : مثل ابن لهيعة .

                وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئا وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب ; لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد .

                ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب ويقول : إنه [ ص: 27 ] يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه ويذكر أنه يعرف ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها . وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب




                الخدمات العلمية