الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 336 ] وسئل : عن أحاديث : هل هي صحيحة ؟ وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح ؟ وهي قوله : { أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل . ثم قال له : أدبر فأدبر . ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك : بك آخذ وبك أعطي ; وبك أثيب وبك أعاقب } . وقوله : { أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم } وهل هذا اللفظ هو لفظ حديث ؟ أو فيه تحريف ؟ أو زيادة أو نقص ؟ وقوله : { إن الله من علي فيما من علي : أن أعطيتك فاتحة الكتاب وهي من كنوز عرشي قسمتها بيني وبينك نصفين } وقوله : { الناس شركاء في ثلاث : الماء والكلأ والنار } .

                التالي السابق


                فأجاب : أما الحديث الأول فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة وإنما يرويه مثل داود ابن المحبر وأمثاله من المصنفين في العقل ويذكره أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ونحوهم من المتفلسفة وقد ذكره أبو حامد في بعض [ ص: 337 ] كتبه وابن عربي وابن سبعين وأمثال هؤلاء وهو عند أهل العلم بالحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما من المصنفين في علم الحديث .

                ومع هذا فلفظ الحديث : { أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر قال ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ . وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب } وفي لفظ { لما خلق الله العقل قال له : كذلك } ومعنى هذا اللفظ أنه قال للعقل في أول أوقات خلقه ; ليس فيه أن العقل أول المخلوقات لكن المتفلسفة القائلون بقدم العالم أتباع أرسطو هم ومن سلك سبيلهم من باطنية الشيعة والمتصوفة والمتكلمة رووه أول ما خلق الله العقل بالضم ليكون ذلك حجة لمذهبهم في أن أول المبدعات هو العقل الأول وهذا اللفظ لم يروه به أحد من أهل الحديث بل اللفظ المروي مع ضعفه يدل على نقيض هذا المعنى فإنه قال : { ما خلقت خلقا أكرم علي منك } فدل على أنه قد خلق قبله غيره والذي يسميه الفلاسفة العقل الأول ليس قبله مخلوق عندهم .

                وأيضا فإنه قال : { بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب } فجعل به هذه الأعراض الأربعة وعند أولئك المتفلسفة الباطنية : [ ص: 338 ] أن جميع العالم صدر عن العقل الأول وهو رب السموات والأرض وما بينهما عندهم وإن كان مربوبا للواجب بنفسه وهو عندهم متولد عن الله لازم لذاته وليس هذا قول أحد من أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى إلا من ألحد منهم ولا هو قول المجوس ولا جمهور الصابئين ولا أكثر المشركين ولا جمهور الفلاسفة بل هو قول طائفة منهم .

                وأيضا فإن العقل في لغة المسلمين عرض من الأعراض قائم بغيره وهو غريزة أو علم أو عمل بالعلم ; ليس العقل في لغتهم جوهرا قائما بنفسه فيمتنع أن يكون أول المخلوقات عرضا قائما بغيره فإن العرض لا يقوم إلا بمحل فيمتنع وجوده قبل وجود شيء من الأعيان وأما أولئك المتفلسفة : ففي اصطلاحهم أنه جوهر قائم بنفسه وليس هذا المعنى هو معنى العقل في لغة المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب المسلمين بلغة العرب لا بلغة اليونان فعلم أن المعنى الذي أراده المتفلسفة لم يقصده الرسول لو كان تكلم بهذا اللفظ فكيف إذا لم يتكلم به .



                وأما الحديث الثاني وهو قوله : { أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم } فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية وليس هو في شيء من كتبهم وخطاب الله ورسوله للناس [ ص: 339 ] عام يتناول جميع المكلفين كقوله : { يا أيها الناس } { يا أيها الذين آمنوا } { يا عبادي } { يا بني إسرائيل } وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس على منبره بكلام واحد يسمعه كل أحد ; لكن الناس يتفاضلون في فهم الكلام بحسب ما يخص الله به كل واحد منهم من قوة الفهم وحسن العقيدة .

                ولهذا كان أبو بكر الصديق أعلمهم بمراده كما في الصحيحين عن أبي سعيد : { أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال : إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله قال : فبكى أبو بكر وقال : نفديك بأنفسنا وأموالنا فجعل الناس يعجبون منه ويقولون : عجبا لهذا الشيخ ; بكى أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة قال : فكان رسول صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به } فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبدا مطلقا لم يعينه ولكن أبو بكر عرف عينه .

                وما يرويه بعض الناس عن عمر أنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما } فهذا كذب مختلق وكذلك ما يروى أنه أجاب أبا بكر بجواب وأجاب عائشة بجواب فهذا كذب باتفاق أهل العلم .




                الخدمات العلمية