الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 93 ] وقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني - رضي الله عنه ونور ضريحه - : الحمد لله رب العالمين . " قاعدة نافعة في وجوب الاعتصام بالرسالة " وبيان أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الضلال والشقاء في مخالفته وأن كل خير في الوجود . إما عام وإما خاص فمنشؤه من جهة الرسول وأن كل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به وأن سعادة العباد في معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة .

                والرسالة ضرورية للعباد لا بد لهم منها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة ; وهو من الأموات قال الله [ ص: 94 ] تعالى : { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نورا يمشي به في الناس . وأما الكافر فميت القلب في الظلمات . وسمى الله تعالى رسالته روحا والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فذكر هنا الأصلين وهما : الروح والنور فالروح الحياة والنور النور .

                وكذلك يضرب الله الأمثال للوحي الذي أنزله حياة للقلوب ونورا لها بالماء الذي ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار التي يحصل بها النور وهذا كما في قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } .

                فشبه العلم بالماء المنزل من السماء ; لأن به حياة القلوب كما أن [ ص: 95 ] بالماء حياة الأبدان وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم كما أن الأودية محل الماء فقلب يسع علما كثيرا وواد يسع ماء كثيرا وقلب يسع علما قليلا وواد يسع ماء قليلا وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء وأنه يذهب جفاء أي : يرمى به ويخفى والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات فإذا ترابى فيها الحق ثارت فيها تلك الشهوات والشبهات ثم تذهب جفاء ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي ينفع صاحبه والناس وقال : { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل } فهذا المثل الآخر وهو الناري فالأول للحياة والثاني للضياء .

                ونظير هذين المثالين : المثالان المذكوران في سورة البقرة في قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } إلى قوله : { أو كصيب من السماء } إلى آخر الآية . وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير حي وإن كانت حياته حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها سبب الإيمان وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ; فإن الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله وتعريف الطريق الموصل إليه وبيان حالهم بعد الوصول إليه .

                [ ص: 96 ] فالأصل الأول يتضمن إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه وهي القصص التي قصها على عباده والأمثال التي ضربها لهم .

                والأصل الثاني يتضمن تفصيل الشرائع والأمر والنهي والإباحة وبيان ما يحبه الله وما يكرهه .

                والأصل الثالث يتضمن الإيمان باليوم الآخر ; والجنة والنار ; والثواب والعقاب .

                وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر والسعادة والفلاح موقوفة عليها ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل ; فإن العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه .

                وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب ; فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي [ ص: 97 ] شقاوة لا سعادة معها أبدا فلا فلاح إلا باتباع الرسول فإن الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره كما قال تعالى : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } أي : لا مفلح إلا هم كما قال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فخص هؤلاء بالفلاح كما خص المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم ويؤمنون بما أنزل إلى رسوله وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة وبالهدى والفلاح فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما .

                وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء وبعث به جميع الرسل ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل وما صارت إليه عاقبتهم وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة . وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم وكذلك من خسف به ; وأرسل عليه الحجارة من السماء وأغرقه في اليم ; وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه .

                وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به [ ص: 98 ] واتبع غير سبيلهم ; ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ ; لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم كما قال تعالى : { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } { ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون } وقال تعالى : { ثم دمرنا الآخرين } { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين } { وبالليل أفلا تعقلون } أي : تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل ثم قال : { أفلا تعقلون } وقال تعالى في مدائن قوم لوط : { وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } { وإنها لبسبيل مقيم } يعني : مدائنهم بطريق مقيم يراها المار بها . وقال تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } .

                وهذا كثير في الكتاب العزيز : يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسلين ; ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم ثم يختم القصة بقوله : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة { وهو العزيز الرحيم } فانتقم من أعدائه بعزته وأنجى رسله وأتباعهم برحمته .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية