الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وسورة { قل هو الله أحد } أفضل من { قل يا أيها الكافرون } وتلك أمر بأن يقال : ما هو صفة الرب وهذه أمر بأن يقال ما هو إنشاء خبر عن توحيد العبد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذلك الصنف كقوله في الحديث الصحيح : { اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك حق والجنة حق والنار حق [ ص: 390 ] والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت } .

                فهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة . فقدم ما هو خبر عن الله واليوم الآخر ورسوله ثم ذكر ما هو خبر عن توحيد العبد وإيمانه ثم ختم بالسؤال . وهذا لأن خبر الإنسان عن نفسه سلوك يشهد فيه نفسه وتحقيق عبادة الله عز وجل . وأما الثناء المحض فهو لا يشهد فيه إلا الله عز وجل بأسمائه وصفاته وما جرد فيه ذكر الله تعالى أفضل مما جرد فيه الخلق أيضا ولهذا فضلت سورة { قل هو الله أحد } وجعلت تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن وذكره محضا لم تشب بذكر غيره لكن في ابتداء السلوك لا بد من ذكر الإنشاء ولهذا كان مبتدأ الدخول في الإسلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . بخلاف حال العبادة المحضة فإنه يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله الله أكبر . فإن الشهادة بها يصير مسلما وهو الأصل والأساس ولهذا جعلت ركنا في الخطب : في خطب الصلاة وهي التشهد يختم بقوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . وفي الخطب خارج الصلاة : كخطبة [ ص: 391 ] الحاجة . خطبة ابن مسعود والخطب المشروعة خطبة الجمعة وغيرها .

                وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء } .

                والذين أوجبوا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة كأصحاب الشافعي وأحمد قال كثير منهم : يجب مع الحمد الصلاة عليه وقال بعضهم : يجب ذكره إما بالصلاة وإما بالتشهد . وهو اختيار جدي أبي البركات .

                والصواب : أن ذكره بالتشهد هو الواجب لدلالة هذا الحديث ; ولأن الشهادة إيمان به والصلاة عليه دعاء له وأين هذا من هذا والتشهد في الصلاة لا بد فيه من الشهادة له في الأول والآخر وأما الصلاة عليه فشرعت مع الدعاء .

                وأما التشهد فهو مشروع في الخطب والثناء فتشهد الصلاة ثناء على الحق شرع فيه التشهد والخطبة خطاب مع الناس شرع فيها التشهد والأذان ذكر الله يقصد به الإعلام بوقت العبادة وفعلها فشرع فيه التشهد . وأما الصلاة عليه فإنما جاءت الآثار بأنها تكون مع الدعاء كحديث الذي قال فيه : " عجل هذا " وأمثاله . فإن الصلاة [ ص: 392 ] عليه من جنس الدعاء وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيكون الدعاء له مقدما على الدعاء لغيره كما قدم السلام عليه في التشهد على السلام على غيره حتى على المصلي نفسه فهذا مما يبين كمال أسرار الدين فقدم في الخطب الحمد على التشهد كما قدم في الفاتحة الحمد على التوحيد بقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن في سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم } فالحمد لله له الابتداء .

                ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم يفتتحها بالحمد لله وكذلك الصلاة إنما تفتتح بالحمد . فتفتتح بسورة الحمد عند المسلمين كلهم ; إذ هي السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتفتتح بالجهر بكلمة " الحمد " عند المسلمين جمهورهم .

                وإذا كانت البسملة مقصودة عند جمهورهم فهي وسيلة ; إذ قول القارئ : بسم الله معناه بسم الله اقرأ . أو أنا قارئ ولهذا شرعت التسمية في افتتاح الأعمال كلها فيسمي الله عند الأكل والشرب ; ودخول المنزل والخروج منه ودخول المسجد والخروج منه وغير ذلك من الأفعال . وهي عند الذبح من شعائر التوحيد فالصلاة والقراءة عمل من الأعمال فافتتحت بالتسمية .

                [ ص: 393 ] ولهذا إنما أنزلها الله في أول كل سورة وهي من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة لكنها آية مفردة في أول السورة وليست من السورة وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة التي للعلماء فيها فلما كانت تابعة ووسيلة والحمد مقصود لنفسه والتسمية لأجله جهر بالمقصود وأعلن وأخفى الوسيلة . كما هو قول جمهور العلماء وعليه تدل الأحاديث الصحيحة . ألا ترى أنه باتفاق المسلمين وهي السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهر بها في الخطب بل يفتتح الخطبة بالحمد وإن لم تكن الخطبة قرآنا .

                ولهذا لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث قسمة الصلاة بين العبد والرب وخطبة الجمعة تفتتح بالحمد بالسنة المتواترة واتفاق العلماء . وأما خطبة الاستسقاء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره .

                أحدها : أنها تفتتح بالحمد لله كالجمعة .

                والثاني : بالتكبير كالعيد .

                والثالث : بالاستغفار ; لأنه أخص بالاستسقاء وخطبة العيد قد ذكر عبد الله بن عقبة : أنها تفتتح بالتكبير وأخذ بذلك من أخذ [ ص: 394 ] به من الفقهاء ; لكن لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبته بغير الحمد لا خطبة عيد ولا استسقاء ولا غير ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم } .

                وقد كان يخطب خطب الحج وغير خطب الحج خطبا عارضة ولم ينقل أحد عنه أنه افتتح خطبة بغير الحمد فالذي لا بد منه في الخطبة : الحمد لله والتشهد والحمد يتبعه التسبيح والتشهد يتبعه التكبير وهذه هي ( الباقيات الصالحات وقال تعالى : { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية