الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأيضا : فقد قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } .

                وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين . كقوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } وقوله تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } .

                فقد دل كتاب الله عز وجل على من كبر عليه ما يحبه الله . وأنه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه ذلك والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع .

                فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة .

                فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل : إن الصلاة [ ص: 554 ] لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها : كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها . وقد انتقى مدلول الآية . فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة . ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم عن اللغو معرضون } { والذين هم للزكاة فاعلون } { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } { والذين هم على صلواتهم يحافظون } { أولئك هم الوارثون } { الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة . وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم . وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال . إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات . ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب . وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعا .

                ومنه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلا يعبث في صلاته . فقال { لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه } أي لسكنت [ ص: 555 ] وخضعت . وقال تعالى : { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز والاهتزاز حركة وتربو والربو : الارتفاع . فعلم أن الخشوع فيه سكون وانخفاض .

                ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه { اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت . خشع لك سمعي وبصري ومخي وعقلي وعصبي } . رواه مسلم في صحيحه فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع . وبذلك فسرت الآية . ففي التفسير المشهور الذي يقال له تفسير الوالبي عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما - وقد رواه المصنفون في التفسير كأبي بكر بن المنذر ومحمد بن جرير الطبري وغيرهما من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - قوله تعالى { في صلاتهم خاشعون } يقول : " خائفون ساكنون " ورووا في التفاسير المسندة كتفسير ابن المنذر وغيره من حديث سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد : " خاشعون " قال " السكون فيها " قال : وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعي . قال : الخشوع في القلب وقال : ساكنون . قال الضحاك : الخشوع الرهبة لله . وروى [ ص: 556 ] عن الحسن : خائفون وروى ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري . حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان : أنه قال في هذه . الآية . { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال الخشوع في القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلتفت في صلاتك .

                وفي تفسير ابن المنذر أيضا ما في تفسير إسحاق بن راهويه عن روح حدثنا سعيد عن قتادة : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال : الخشوع في القلب والخوف وغض البصر في الصلاة . وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه " مختار القرآن " { في صلاتهم خاشعون } أي لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون . وقد روى الإمام أحمد في " كتاب الناسخ والمنسوخ " من حديث ابن سيرين ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير وابن المنذر أيضا في التفسير الذي له رواه . من حديث الثوري حدثني خالد عن ابن سيرين قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده } أي محل سجوده . قال سفيان : وحدثني غيره عن ابن سيرين " أن هذه الآية : نزلت في ذلك { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } قال : هو سكون المرء في صلاته " قال معمر : وقال الحسن " خائفون " وقال قتادة : " الخشوع في القلب " ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه ضد تقليبه في الجهات كقوله تعالى : { فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر } { خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } { مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر } وقوله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون } { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } وفي القراءة الأخرى { خشعا أبصارهم } وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم ; بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } وقوله تعالى { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } وقال تعالى " { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } .

                ومن ذلك : خشوع الأصوات . كقوله تعالى : { وخشعت الأصوات للرحمن } وهو انخفاضها وسكوتها . وقال تعالى : { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل } { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } وقال تعالى : { وجوه يومئذ خاشعة } { عاملة ناصبة } { تصلى نارا حامية } { تسقى من عين آنية } وهذا يكون يوم القيامة . وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب [ ص: 558 ] كما قال في القسم الآخر : { وجوه يومئذ ناعمة } { لسعيها راضية } { في جنة عالية } وقال تعالى { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين } { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } .

                وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون والخشوع . فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده . وكذلك من لم يرفع رأسه . من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها . فمن لم يطمئن لم يسكن ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده . ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذي بيناه .

                ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة : أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع . فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم ؟ فاشتد قوله في ذلك . فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم } وعن جابر بن سمرة قال : { دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء . فقال : لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم } [ ص: 559 ] الأول : في البخاري والثاني : في مسلم . وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه .

                وقال محمد بن سيرين : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع بصره في الصلاة . فلما نزلت هذه الآية { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده } . رواه الإمام أحمد في " كتاب الناسخ والمنسوخ " . فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه .

                وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه . فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن { عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة ؟ فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد } . وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص عن أبي ذر رضي الله عنه قال { : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت . فإذا التفت انصرف عنه } .

                وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال : { ثوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح - فجعل رسول الله [ ص: 560 ] صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس } . وهذا كحمله أمامة بنت أبي العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله . وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره في صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة وأمره برد المار بين يدي المصلي ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة .

                ويدل على ذلك أيضا : ما رواه تميم الطائي عن { جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس رافعوا أيديهم - قال الراوي - وهو زهير بن معاوية - وأراه قال في الصلاة - فقال : ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة } . رواه مسلم وأبو داود والنسائي ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن { جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره . فلما صلى قال : ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس ؟ إنما يكفي أحدكم [ ص: 561 ] - أو ألا يكفي أحدكم - أن يقول : هكذا - وأشار بأصبعه - يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله } وفي رواية قال : { أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله } . ولفظ مسلم : { صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا : السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس ؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده } .

                فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكون في الصلاة . وهذا يقتضي السكون فيها كلها . والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة . فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها وأحق الناس باتباع هذا : هم أهل الحديث .

                ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهي عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط . فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال .

                ويبين ذلك قوله : { مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل [ ص: 562 ] شمس ؟ } " والشمس " جمع شموس . وهو الذي تقول له العامة الشموص . وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال . وهي حركة لا سكون فيها .

                وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عند الاستفتاح فذلك مشروع باتفاق المسلمين . فكيف يكون الحديث نهيا عنه ؟ .

                وقوله : " اسكنوا في الصلاة " يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له : " أتريد أن تطير ؟ " فقال : " إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية وإلا فلا " وهذا نقض لما ذكره من المعنى .

                وأيضا : فقد تواترت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معارضا . بل لو قد تعارضا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون . فقوله " اسكنوا في الصلاة " لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله " اسكنوا " يقتضي السكون في كل [ ص: 563 ] بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين .

                فبين هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان . ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة ; فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في المشي إليها . وهي حركة إليها فكيف بالحركة فيها ؟ فقال : { إذا أتيتم الصلاة . فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة . فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا } .

                وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون . وعليكم السكينة . فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا } رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه . قال أبو داود - وكذلك قال الترمذي - وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري { وما فاتكم فأتموا } وقال ابن عيينة عن الزهري : " فاقضوا " . قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة { فأتموا } وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم { فأتموا } . وروى أبو داود عن أبي [ ص: 564 ] هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ائتوا الصلاة وعليكم السكينة . فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم } قال أبو داود : وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم { وليقض } .

                وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة وأبو ذر رضي الله عنه روى عنه { فأتموا واقضوا } اختلف عنه .

                فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك لكونه سببا للصلاة . فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأحرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات بعض الصلاة فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها . وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها فكيف فيها ؟ ؟ يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه . فإنه في صلاة } فقد نهاه صلى الله عليه وسلم في مشيه إلى الصلاة عما [ ص: 565 ] نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردا فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك ؟ فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة في المشي مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها .

                ويدل على ذلك : أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقا فقال : { واقصد في مشيك واغضض من صوتك } وقال تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } . قال الحسن وغيره : " بسكينة ووقار " فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء . فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ؟ ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود ؟ فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال ; كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط . وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما - وهذه هي من نفسها سكون - فمن لم يسكن فيها لم يأت بها وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه .

                وأيضا : فإن الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب [ ص: 566 ] والسنة وهو واجب بالإجماع لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } وقوله تعالى { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } وقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون } { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } وقوله تعالى { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } وقوله تعالى { واسجد واقترب } وقوله تعالى { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } .

                فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب وقوله : { ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا } وقوله تعالى { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } وقوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } .

                وإذا كان الله عز وجل قد فرض الركوع والسجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين للناس ما نزل إليهم وسنته تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه [ ص: 567 ] وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل : كان حكمه حكم ما امتثله وفسره . وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا . وكان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود وتفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود . وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها .

                قد نقل ذلك كل من نقل صلاة الفريضة والنافلة . والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة . وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده . وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها . وهو سجودان مع كل ركوع .

                وأيضا : فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك . إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز . أو ليبين جواز تركه بقوله . فلما لم يبين - لا بقوله ولا بفعله - جواز ترك ذلك مع مداومته عليه . كان ذلك دليلا على وجوبه .

                وأيضا : فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : [ ص: 568 ] أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه { إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما . وصلوا كما رأيتموني أصلي } فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي .

                وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لهم ولا معارض لذلك ولا مخصص فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد .

                وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن { سهل ابن سعد أنه قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس . فقال : يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي } وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال : { أتينا عقبة بن عامر الأنصاري أبا مسعود فقلنا له : حدثنا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال : سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه ثم كبر وسجد ووضع كفيه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء . [ ص: 569 ] منه ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذه الركعة فصلى صلاته . ثم قال : هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي } .

                وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم . فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين . وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه . ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك . وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولا وفعلا . ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب .

                وأيضا : فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض . فأما مجرد الخفض والرفع عنه : فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا . ومن سماه ركوعا وسجودا فقد غلط على اللغة . فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر وحتى يقال : إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم . فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا وسجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه . فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب وإذا حصل الشك : هل هذا ساجد أو ليس بساجد ؟ لم يكن ممتثلا بالاتفاق . لأن الوجوب معلوم . وفعل [ ص: 570 ] الواجب ليس بمعلوم . كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك في فعلها .

                وهذا أصل ينبغي معرفته . فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول : إن هذا يسمى ساجدا وراكعا في اللغة . فإنه قال بلا علم ولا حجة . وإذا طولب بالدليل انقطع . وكانت الحجة لمن يقول : ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين .

                ثم يقال : لو وجد استعمال لفظ " الركوع والسجود " في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا ولكان الراغم أنفه - وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب - ساجدا لا سيما عند المنازع الذي يقول : يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة . فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودا ولو كان ذلك كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك : ساجدا .

                وأيضا : فإن الله أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة وذم إضاعتها والسهو عنها . فقال في أول سورة المؤمنين { قد أفلح المؤمنون } [ ص: 571 ] { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم عن اللغو معرضون } { والذين هم للزكاة فاعلون } { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } { والذين هم على صلواتهم يحافظون } وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة . وكذلك في سورة سأل سائل قال : { إن الإنسان خلق هلوعا } { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } { إلا المصلين } { الذين هم على صلاتهم دائمون } { والذين في أموالهم حق معلوم } { للسائل والمحروم } { والذين يصدقون بيوم الدين } { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } { إن عذاب ربهم غير مأمون } { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } { والذين هم بشهاداتهم قائمون } { والذين هم على صلاتهم يحافظون } فذم الإنسان كله إلا ما استثناه . فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما كما في قوله تعالى { والعصر } { إن الإنسان لفي خسر } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقال تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } . وقال تعالى : { فويل للمصلين } { الذين هم عن صلاتهم ساهون } وقال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } .

                [ ص: 572 ] وهذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة وإن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة وبذلك فسرها السلف . ففي تفسير عبد بن حميد - وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد - حدثنا روح عن سعيد عن قتادة { والذين هم على صلواتهم يحافظون } على وضوئها ومواقيتها وركوعها . وروى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال : قيل لعبد الله : إن الله أكثر ذكر الصلاة في القرآن { الذين هم على صلاتهم دائمون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم على صلاتهم يحافظون } فقال عبد الله : ذلك على مواقيتها فقالوا : ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك . قال : تركها كفر . وروى سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق في قول الله : { والذين هم على صلاتهم يحافظون } قال : على مواقيتها فقالوا : ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك . قال : تركها كفر . وروي من حديث سعيد بن أبي مريم : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } بتضييع ميقاتها . وروى عن أبي ثور عن ابن جريج في قوله : { والذين هم على صلواتهم يحافظون } المكتوبة والتي في سأل سائل : التطوع . وهذا قول ضعيف .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية