الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال شيخ الإسلام الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . [ ص: 210 ] فصل في أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي . فقد كتبنا فيما تقدم في الإسكندرية وغيرها كلاما مبسوطا : في أن هذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها أبو الخطاب .

                وكنا قبل متوقفين لبعض الأدلة التي احتج بها المانعون فلما بحثنا عن حقيقتها وجدناها أحاديث ضعيفة أو غير دالة وذكرنا أن الدلائل على ذلك متعددة : منها : أن أحاديث الأمر بذوات الأسباب كقوله : " { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } عام محفوظ لا خصوص فيه وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام بل كلها مخصوصة فوجب تقديم العام الذي لا خصوص فيه فإنه حجة باتفاق السلف والجمهور القائلين بالعموم ; بخلاف الثاني وهو أقوى منه بلا ريب .

                ومنها : أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصلاة [ ص: 211 ] تحية المسجد للداخل عند الخطبة هنا بلا خلاف عنه لثبوت النص به والنهي عن الصلاة في هذا الوقت أشد بلا ريب فإذا فعلت هناك فهنا أولى .

                ومنها : أن حديث ابن عمر في الصحيحين لفظه : " { لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها } . والتحري هو التعمد والقصد وهذا إنما يكون في التطوع المطلق . فأما ما له سبب فلم يتحره ; بل فعله لأجل السبب والسبب ألجأه إليه . وهذا اللفظ المقيد المفسر يفسر سائر الألفاظ ويبين أن النهي إنما كان عن التحري ولو كان عن النوعين لم يكن للتخصيص فائدة ولكان الحكم قد علق بلفظ عديم التأثير .

                ومنها : أنه قد ثبت جواز بعض ذوات الأسباب بعضها بالنص كالركعة الثانية من الفجر وكركعتي الطواف وكالمعادة مع إمام الحي وبعضها بالنص والإجماع كالعصر عند الغروب وكالجنازة بعد العصر وإذا نظر في المقتضي للجواز لم توجد له علة صحيحة إلا كونها ذات سبب فيجب تعليق الحكم بذلك وإلا فما الفرق بين المعادة وبين تحية المسجد والأمر بهذه أصح وكذلك الكسوف قد أمر بها في أحاديث كثيرة صحيحة .

                [ ص: 212 ] والمقصود هنا أن نقول : الصلاة في وقت النهي لا تخلو أن تكون مفسدة محضة لا تشرع بحال : كالسجود للشمس نفسها أو يكون مما يشرع في حال دون حال والأول باطل ; لأنه قد ثبت بالنص والإجماع أن العصر تصلى وقت الغروب قبل سقوط القرص كله . وثبت في الصحيحين قوله : " { من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك } والأول : قد اتفق عليه والثاني : قول الجمهور .

                وأبو حنيفة يفرق بين الفجر والعصر ويقول : إذا طلعت الشمس بطلت الصلاة ; لأنها تبقى منهيا عنها فائتة والعصر إذا غربت الشمس دخل في وقت الجواز لا في وقت النهي وقد ضعف أحمد والجمهور هذا الفرق وقالوا : الكلام في العصر وقت الغروب فإنه وقت نهي كما أن ما بعد الطلوع وقت نهي وليس له أن يؤخر العصر إلى هذا الوقت لكن يكون له عذر كالحائض تطهر والنائم يستيقظ . ولو قدر أنه أخرها من غير عذر فهو مأمور بفعلها في وقت النهي مع إمكان أن يصليها بعد الغروب . فإذا قيل : صلاتها في الوقت فرض . قيل : وقضاء الفائتة على الفور فرض لقوله : " { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك } .

                [ ص: 213 ] وأيضا : فإذا صلى ركعة من الفجر قبل الطلوع فقد شرع فيها قبل وقت النهي فهو أخف من ابتدائها وقت النهي مع أن هذا جائز عند الجمهور . وإذا ثبت أن الصلاة في أغلظ أوقات النهي وهو وقت الطلوع والغروب ليس مفسدة محضة لا تشرع بحال ; بل تشرع في بعض الأحوال علم أن وجود بعض الصلوات في هذه الأوقات لا يوجب مفسدة النهي إذ لو وجدت لما جاز شيء من الصلوات .

                وإذا كان كذلك : فالشرع قد استقر على أن الصلاة بل العبادة التي تفوت إذا أخرت تفعل بحسب الإمكان في الوقت ولو كان في فعلها من ترك الواجب وفعل المحظور ما لا يسوغ عند إمكان فعله في الوقت مثل الصلاة بلا قراءة وصلاة العريان وصلاة المريض وصلاة المستحاضة ومن به سلس البول والصلاة مع الحدث بلا اغتسال ولا وضوء والصلاة إلى غير القبلة وأمثال ذلك من الصلوات التي لا يحرم فعلها إذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به في الوقت . ثم إنه يجب عليه فعلها في الوقت مع النقص لئلا يفوت وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال . فعلم أن اعتبار الوقت في الصلاة . مقدم على سائر واجباتها وهذا في التطوع كذلك فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي إلا عريانا أو إلى غير القبلة أو مع سلس البول صلى كما [ ص: 214 ] يصلي الفرض ; لأنه لو لم يفعل إلا مع الكمال تعذر فعله فكان فعله مع النقص خيرا من تعطيله .

                وإذا كان كذلك فذوات الأسباب إن لم تفعل وقت النهي فاتت وتعطلت وبطلت المصلحة الحاصلة به بخلاف التطوع المطلق فإن الأوقات فيها سعة فإذا ترك في أوقات النهي حصلت حكمة النهي وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس في هذا الوقت وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات كما تقدم . بل يحصل المنع من بعضها فيكفي التطوع المطلق .

                وأيضا فالنهي عن الصلاة فيها هو من باب سد الذرائع لئلا يتشبه بالمشركين فيفضي إلى الشرك وما كان منهيا عنه لسد الذريعة لا لأنه مفسدة في نفسه يشرع إذا كان فيه مصلحة راجحة ولا تفوت المصلحة لغير مفسدة راجحة . والصلاة لله فيه ليس فيها مفسدة بل هي ذريعة إلى المفسدة فإذا تعذرت المصلحة إلا بالذريعة شرعت واكتفى منها إذا لم يكن هناك مصلحة . وهو التطوع المطلق . فإنه ليس في المنع منه مفسدة ولا تفويت مصلحة لإمكان فعله في سائر الأوقات .

                وهذا أصل لأحمد وغيره : في أن ما كان من " باب سد الذريعة " إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تحصل إلا به وقد ينهى عنه ; ولهذا يفرق في العقود بين الحيل وسد الذرائع : فالمحتال [ ص: 215 ] يقصد المحرم فهذا ينهى عنه . وأما الذريعة فصاحبها لا يقصد المحرم لكن إذا لم يحتج إليها نهي عنها وأما مع الحاجة فلا .

                وأما مالك فإنه يبالغ في سد الذرائع حتى ينهى عنها مع الحاجة إليها .

                و " ذوات الأسباب " كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي : مثل سجود التلاوة وتحية المسجد وصلاة الكسوف ومثل الصلاة عقب الطهارة كما في حديث بلال وكذلك صلاة الاستخارة : إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة . وكذلك صلاة التوبة فإذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين ثم يتوب كما في حديث أبي بكر الصديق . ونحو قضاء السنن الرواتب كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الظهر بعد العصر . وكما أقر الرجل على قضاء ركعتي الفجر بعد الفجر مع أنه يمكن تأخيرها ; لكن تفوت مصلحة المبادرة إلى القضاء فإن القضاء مأمور به على الفور في الواجب واجب وفي المستحب مستحب .

                والشافعي يجوز القضاء في وقت النهي وإن كان لا يوجب تعجيله لأنها من ذوات الأسباب وهي مع هذا لا تفوت بفوات [ ص: 216 ] الوقت ; لكن يفوت فضل تقديمها وبراءة الذمة كما جاز فعل الصلاة في أول الوقت للعريان والمتيمم وإن أمكن فعلها آخر الوقت بالوضوء والسترة ; لكن هو محتاج إلى براءة ذمته في الواجب ومحتاج في السنن الرواتب إلى تكميل فرضه ; فإن الرواتب مكملات للفرض ومحتاج إلى أن لا يزيد التفويت فإنه مأمور بفعلها في الوقت فكلما قرب كان أقرب إلى الأمر مما يبعد منه .

                وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فيقربها من الوقت ما استطاع والشيخ أبو محمد المقدسي يجوز فعل الرواتب في أوقات النهي موافقة لأبي الخطاب لكن أبو الخطاب يعمم كالشافعي وهو الصواب .

                فإن قيل : فالتطوع المطلق يفوت من قصده عمارة الأوقات كلها بالصلاة ؟ قيل : هذا ليس بمشروع بل هو منهي عنه ولا يمكن بشرا أن يصلي دائما جميع النهار والليل بل لا بد له من وقت راحة ونوم وقد ثبت في الصحيحين { أن رجالا قال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر وقال الآخر : وأنا أقوم لا أنام وقال الآخر : لا أتزوج النساء وقال الآخر : لا آكل اللحم فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 217 ] لكن أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } بل قد قيل : إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات إجمام النفوس في وقت النهي لتنشط للصلاة فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه وتنشط للصلاة بعد الراحة والله أعلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية