الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون

                                                          * * *

                                                          ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الإشارة هنا إلى الحروف الم التي تتألف من كلمات الكتاب العزيز الحكيم ; ولذلك قيل إن الم اسم للسورة ، ولكن نقول إن هذه الإشارة إلى الحروف باعتبارين :

                                                          أولهما : أن هذه هي الحروف الذي كون منها الكتاب المعجز الذي تحدى به الإنسانية كلها .

                                                          والثاني : أنها اسم للسورة التي افتتحت بها ، وذلك من قبيل إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء ، أو أن جزء القرآن قرآن يتحدى . ألم تر أن الله تعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله .

                                                          [ ص: 99 ] ذلك الكتاب والإشارة هنا للبعيد ، وموضوعها قريب ، لأن الحروف جاء بعدها فورا ذكر الكتاب فكان الظاهر أن تكون الإشارة بما يدل على القرب ، كـ (هذا ) الكتاب ، ولكن لأن (الم ) تدل على السورة التي هي جزء متكامل من الكتاب ، أو الكتاب نفسه ، وقد نزل من الروح الأقدس ، فنزل من العلا إلى النبي المرسل ، فكان ذلك إشعارا بالبعد بين الملكوت الأعلى وخلق الله سبحانه وتعالى ، أو يقال : إن الإشارة بالبعيد تنويه بذكره وعلو مقامه فإنه تكون الإشارة بالبعيد في هذا المقام ، وأي مقام يقارب كتاب الله تعالى ؟ ! فهو علي في ذاته ، ثقيل في ميزانه كما قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا .

                                                          وفي قوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه ثلاثة وقوف :

                                                          أولها : الوقوف عند (الكتاب ) ، وتكون (ذلك ) مبتدأ ، والكتاب خبر ، ويكون فيه تعريف الطرفين الذي يدل على القصر ، أي ذلك وحده هو الجدير بأن يسمو ، فلا يعلو علوه كتاب ، ولا يناصي سمته مقروء سواه ، إذ هو تنزيل من رب العالمين ، وفيه علم بشرائع الله تعالى ويكون قوله تعالى : لا ريب فيه جملة مستقلة على هذه القراءة ، وهي تأكيد لمعنى العلو والسمو فيه ، إذ إنه لا شك في حقائقه ، وهي بينة تهتدي إليها العقول ، ولا ترتاب فيها فهو حجة بصدقه في ذاته ، وإدراك العقول لحقائقه ، وهذا شرف ذاتي فيه ، وهو لا ريب في أنه من عند الله ، إذ تحدى المقاول من قريش وفحول الكلام منهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، فكان ذلك شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي .

                                                          والثاني : الوقف عند (لا ريب ) ، ومؤداها مقارب من مؤدى القراءة السابقة تقريبا ، إذ المؤدى أن يكون المعنى : ذلك هو الكتاب بلا ريب ، ويكون قوله تعالى : [ ص: 100 ] فيه هدى للمتقين جملة جديدة مستقلة وتكون لبيان كماله فوق أنه لا ريب فيه .

                                                          والثالث : الوقوف عند كلمة (فيه ) ، ويكون المعنى كالمعنى السابق ، ثم يكون قوله هدى للمتقين جملة مستقلة ، وهذه القراءات تتجه كلها إلى سمو القرآن وعلوه ، وأنه فوق طاقة البشر ، وفوق علم الناس ، إنه كتاب الله العلي الحكيم .

                                                          ومعنى لا ريب فيه أنه لا يعتريه الريب لكمال حقائقه ووضوح مقاصده ، والبراهين القاطعة المثبتة أنه من عند الله تعالى ، فلا مساغ لمرتاب أن يرتاب . وإذا كان قد وقع فيه إنكار ، فلأنهم جحدوا آيات الله تعالى ، واستيقنتها أنفسهم ، والنفي لوقوع الريب منه في ذاته ، ويضل ناس فيجحدون ولا يؤمنون ، ولا ينفي ذلك أنه لا مكان للريب ، ولا موضع له ، إذ هو ارتياب حيث اليقين ، وإنكار حيث يجب الإيمان ، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من أي ناحية من نواحيه .

                                                          هدى للمتقين الهدى مصدر على وزن فعل ، كالسرى ، والبكى ، ومعناه الدلالة على الطريق الموصل للغاية الذي لا اعوجاج فيه ، ولا تستعمل غالبا إلا للتوصيل إلى الخير ، بدليل مقابلتها بالضلالة في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، وبدليل نسبة الهدى إلى الله تعالى ، فقد قال تعالت كلماته : قل إن الهدى هدى الله والمهتدي من انتفع بما وجد من هداية فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها

                                                          وإذا قيل : فإن الهداية إنما تكون للضالين ليسترشدوا ، ويسيروا في طريق الحق ، ويبتعدوا عن الغواية ، وما يدفع إليه من ضلالة كما قال تعالى : ووجدك ضالا فهدى .

                                                          [ ص: 101 ] نقول في الإجابة على ذلك : إن المراد بالمتقين ليس من وصلوا إلى أقصى درجات الهداية إنما المراد من شارفوها وطلبوها وأرادوها ، وحاولوا الازدياد من العلم ، ولم تكن قلوبهم متحجرة ، مبلسة لا تسترشد ولا تهتدي ، وبيان ذلك أن الله تعالى خلق النفوس وسواها ، وألهمها فجورها وتقواها .

                                                          فمن النفوس من فطرها الله تعالى على الفطرة المستقيمة المدركة للحق في ذاته ، التي تتجه إلى الحق تبتغيه وتريده ، وتظل في حيرة حتى تجد المرشد من السماء برسول مبين يرشدها إلى صراط مستقيم ، كأولئك الحنيفيين الذين رفضوا عبادة الأوثان لأنها لا تنفع ولا تضر ، ولا يتبعها إلا الغاوون .

                                                          إن هذه نفوس متقية تبتغي الرشاد ، فتكون مصغية للحق عند الدعوة إليه متبعة للنور إذا أشرق ، وهذا ما نراه موضعا للتعبير بقوله تعالت كلماته : هدى للمتقين .

                                                          والمتقون مشتق من الوقاية ، يقال : وقاه الله تعالى ، ووقى نفسه السوء ، وقال تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .

                                                          واتقى : افتعل ، من وقى ، فهي في أصلها : اوتقى ، ثم قلبت الواو تاء ، فأدغمت في تاء الافتعال ، فصارت اتقى ، ومنه أخذت التقى ، والتقاة ، كما قال تعالى : اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

                                                          والمتقون مراتب في إدراكهم لتقوى الله تعالى ، وأعلاها : إدراكهم لمعنى الحق وخضوعهم لما يطلبه ، وإنهم بهذا يطيعونه ويستجيبون له ، ويلتزمونه ، وينطبق عليهم قول الله تعالى : وألزمهم كلمة التقوى فإذا علا في نفوسهم طلب الحق والاستعداد له ، تركوا شر الأشرار مهتدين بهديه ، وتجنبوا الإساءة إلى غيرهم ، فإذا ساروا في مدارج الهداية والتقوى نزهوا أنفسهم عن كل ما يخالف الحق ، وصارت قلوبهم نورا مبصرا ، وكانوا أولياء الله تعالى ، وينطبق عليهم [ ص: 102 ] قول الله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ألا إن هؤلاء هم المتقون الذين ينتفعون بهداية الله ، وإن علم الله تعالى وهدايته قد مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغيث ينزل من السماء فيجيء إلى أرض طيبة فتنبت النبات الطيب ، وينزل على أرض لا تنبت ، ولكن ينتقل منها إلى أخرى تنبت فيها النبات الطيب ، وهناك أرض هي قيعان لا تنبت ، ولا ينتقل منها إلى غيرها .

                                                          ولقد ذكر الزمخشري في تنسيق هذه الآيات الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين كلمات طيبة محققة مفادها أن قوله تعالى : الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و ذلك الكتاب جملة ثانية ، و لا ريب فيه جملة ثالثة ، و هدى للمتقين رابعة ، وقد أصاب بترتيبها من البلاغة ، وموجب حسن النظم ، حيث هي متناسقة هكذا من غير حرف نسق (أي عطف ) وذلك لمجيئها متآخية آخذة بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جرا إلى الثالثة ، والرابعة .

                                                          بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشار إلى أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال ، فكان تقريرا لجهة التحدي وشدا من أعضائه ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحا ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا .

                                                          [ ص: 103 ] ثم أخبر عنه أنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا التنظيم السري ، من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية ، ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة : الحذف ووضع المصدر الذي هو موضع الوصف الذي هو هاد ، وإيراده منكرا ، والإيجاز في ذكر المتقين ، زادنا الله اطلاعا على أسرار كلامه ، وتبينا لنكت تنزيله وتوفيقا للعمل بما فيه .

                                                          الذين يؤمنون بالغيب هذا هو الوصف الأول للمتقين الذين يتلقون هدى الله تعالى كما تتلقى الأرض الطيبة الغيث فتأتي بأطيب الثمرات . والإيمان : التصديق ، ويتعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف والإقرار والإذعان ، والخضوع ، ويتعدى باللام ويتضمن حينئذ معنى الاستسلام أو الاستجابة كما قال تعالى : وما أنت بمؤمن لنا قوله : فما آمن لموسى ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن اليهود إذ يتآمرون فيقول بعضهم لبعض ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم

                                                          وأول وصف من أوصاف المتقين الذي يميزهم - وهو في غالب أحوالهم سبب لتقواهم - الإيمان بالغيب . والغيب : كل ما يغيب عن الشخص ، ويستتر ، ولقد فسره العلماء بما يتفق مع أن يكون وصفا للمتقين ، فقالوا أقوالا مختلفة في ألفاظها ، وتتلاقى في مضمونها أو المراد منها - فيما نعلم - كلها ، ففسروه بأن الغيب هو الله تعالى ; لأننا نؤمن به ولا نراه ، فالبرهان يوجب الإيمان به ، وهو لا يرى بالحس بل يرى بالقلب ، وفسروه بأنه القدر ، وفسروه بأنه الإيمان بالملائكة ، [ ص: 104 ] وفسروه بالقرآن وما فيه من أخبار الملائكة واليوم الآخر ، والجنة ، والنار . وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما لا تهتدي العقول إليه من علامات الساعة والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة إلخ .

                                                          والحق أنه لا تعارض بين هذه الأقوال ، بل هي متلاقية في جملة معانيها .

                                                          وإنا نرى أن الإيمان ، بالغيب هو الإيمان بما وراء الحس من أمور غيبها الله تعالى عن عقولنا ، وبيان ذلك أن الناس قسمان : ضالون ومتقون . . فالضالون هم الذين لا يؤمنون إلا بالمادة ، ولا يعرفون غيرها ، وينكرون ما عداها ، ويقولون : إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، ولا يؤمنون بشيء وراء ذلك ، ويقول قائلهم : الطبيعة خلقتنا ، ونرد إليها ، فلا يؤمنون بإله ولا بروح إلا أن تكون عرضا من أعراض المادة ، وهؤلاء منهم الملاحدة ومنكرو الأديان .

                                                          والقسم الثاني : أمارتهم أنهم يؤمنون بالحس على أنه خاضع للغيب ، فهم لا يقصرون إيمانهم على ما يحسون وما يرون وما يبصرون ، بل يؤمنون بأن وراء المادة عالما كبيرا ، وأن مدبر الكون ومنشئه ، هو صاحب السلطان المطلق فيه ، فلله تعالى محيانا ومماتنا .

                                                          إن فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة هو الإيمان بالغيب ، فالمؤمن أول خلاله الإيمان بالغيب ، والزنديق لا يؤمن إلا بالمادة .

                                                          إن الإيمان بالغيب يجعل النفس دائما خاضعة متطامنة لا تستنكف عن عبادة الله تعالى ولا تستكبر ، ولقد كان ذلك لـ : من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، وإذا كان الإيمان بالغيب يولد الخشية في النفس ، فذلك هو لب الإيمان كما قال تعالى : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .

                                                          [ ص: 105 ] ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون كانت الصفة الأولى للمتقين إيمانا بالغيب ، وما يكنه من مستورات عن المحسوسات ، تولد في النفس الخشية ، والإحساس بحاجة الجسم إلى الروح ، وبأن الروح فيما وراء المشاهد هي التي تسير هذا الوجود الإنساني ، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان إلا ليحاسب على ما قدم من شر أو خير ، وأنه سيرى ما اكتسب إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

                                                          بعد ذكر هذه الصفة النفسية ، ذكر صفتين أخريين تنبعثان من النفس ، ولكن لهما مظهر عملي ، وهما إقامة الصلاة والإنفاق مما رزقه الله سبحانه وتعالى .

                                                          والصلاة أصلها على وزن فعلة ، من صلى ، فأصل الصلاة صلوة ، فنقلت فتحة الواو إلى ما قبلها ، فصارت صلاة ، والصلاة كانت معروفة عند العرب بأنها الدعاء . ومنه قوله تعالى : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ، وإطلاقها على الصلوات الخمس من قيام وقراءة ، وركوع وسجود ، وتحيات - اصطلاح إسلامي .

                                                          ولقد فسر بعض العلماء الصلاة هنا بالدعاء ، أي الضراعة إلى الله تعالى ، والاتجاه الروحي إليه راجيا ما عنده مؤمنا به مستجيبا لقوله تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين .

                                                          ولكن الأكثرين - وهو الظاهر الذي يبدو من القول - على أن المراد بها الصلاة المكتوبة ، وإن الاتجاه الروحي بالضراعة والدعاء تتضمنه الصلاة المكتوبة ، وإن الصلاة قد فرضت في مكة ، وصارت متعارفة ، كغيرها من الكلمات التي كان في معناها عموم ، ثم خصصها الإسلام .

                                                          وإقامة الصلاة الإتيان بها مستوية مقومة معدلة قد استوفت أركانها ظاهرا وباطنا ، فكانت مشتملة على الخشوع والحضور ، واستحضار عظمة الله تعالى في [ ص: 106 ] كل لفظ يذكره ، ويعبد الله بهذه العبادة ، كأنه يرى الله سبحانه وتعالى ، ويتوالى ذلك في كل صلواته عامة النهار ، أو أطرافا من النهار وزلفا من الليل ، فإن كانت صلاته كذلك كان محسا برقابة الله تعالى ، ومن أحس برقابة الله لا يعصيه ; ولذلك قال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين " .

                                                          وبعض المفسرين يفسر إقامة الصلاة بالمداومة عليها من غير تقصير ، وبعضهم يفسرها بالمسارعة إليها عند النداء بها ، لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وبعضهم يفسرها بالسعي إليها عند إقامة الجماعة فيها ، ولكن يرد ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يمشوا إليها في سكينة وقار .

                                                          وإن التفسير الأول للإقامة هو الأوضح البين ، والمعاني الأخرى تدخل في ضمنه ، أو تقتضيها .

                                                          وبعد أن بين الله تعالى الوصف الذي يترتب على التقوى ، والإيمان بالغيب ، ذكر وصفا آخر عمليا ونفسيا ، فكل ما يذكره الإسلام من تكليفات ، وصفات للمؤمن ، لا ينظر فيها إلى ناحية العمل فقط ، بل ينظر فيها إلى ناحية العمل والباعث عليه ، والنية التي هي طهارة النفس ; ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " .

                                                          الوصف العملي النفسي ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله : ومما رزقناهم ينفقون وفي هذا الوصف بيان أن الخير الذي يكون بالصلاة في الضراعة إليه [ ص: 107 ] سبحانه وتعالى ينعطف على التقي نفعا للناس يقصد التقرب به إليه سبحانه وتعالى ، فهو يتقرب إلى الله تعالى بذكره الدائم ، وضراعته القائمة ، ويتقرب إلى الله تعالى بالإنفاق على خلقه ، ومد يد المعونة لغيره ، وسد حاجتهم ورفع فاقتهم لرضا الله ، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى .

                                                          والرزق هو : العطاء ، وهو من رزق يرزق رزقا ، وهو بمعنى اسم المفعول كـ " طحن " بمعنى مطحون ، و " رعي " بمعنى مرعي ، وذبح بمعنى مذبوح كقوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم .

                                                          والمرزوق ما ينعم الله تعالى به على الإنسان من متاع الحياة الدنيا ، من حيوان ونقود ، ومطاعم ومساكن ، والإنفاق إعطاؤها في كل سبل الخير ، وتشمل بذلك الزكوات ، والإنفاق على من يعولهم ، والإنفاق على نفسه ليقوى على الحياة ، ويقوم بما يجب عليه من طاعات ، ومعاونة للضعفاء بقوته ، وليقوى على الجهاد في سبيل رفع الحق وخفض الباطل ، وإمداد جند الله تعالى بما يحتاجون إليه من عتاد وأسباب القوة كما قال تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

                                                          والإنفاق كالإنفاد ، بيد أن الإنفاد يرمي إلى إنهاء المال ، وألا يبقى منه شيء ، والإنفاق يبقي . وقد خص بعض العلماء الرزق بأنه خاص بالحلال ، فإن الله تعالى لا يرزق إلا بالحلال ، والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده ، ويعين به غيره ، كما قال تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام ، فإن كسبه كسبا طيبا لا خبث فيه فهو حلال ، وإن كسبه من غير الحلال ، أو أنفقه فيما حرم الله تعالى ، فهو الذي أوجد فيه الحلال ، وفي الحلال الثواب ، وفي الحرام العقاب . ولقد قال تعالى : قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون .

                                                          [ ص: 108 ] والله تعالى يعد الرزق نعمة ، وإذا أنفق في الحلال وكسب من الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى ، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص . ويروى أن رجلا يكسب من الغناء والضرب على الدف فقال : يا رسول الله أراني لا أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة ، كذبت أي عدو الله ، والله لقد رزقك الله تعالى حلالا طيبا ، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " .

                                                          وفي العبارة السامية : ومما رزقناهم ينفقون إشارتان بلاغيتان :

                                                          إحداهما : تقديم ومما رزقناهم على ينفقون وفي ذلك بيان أنهم لا ينفقون من كسب خالص لهم بل إنهم ينفقون من رزق الله تعالى ، فهو وحده الرزاق إن شاء أعطى ، وإن شاء منع ، ولست أيها المنفق ترزق نفسك إنما يرزقك الله وحده ، فأنت تعطي من عنده ، وتجود على نفسك وعلى عباده من عنده ، فالتقديم للقصر أولا ، وللاهتمام بالإنفاق ثانيا .

                                                          الثانية : أن الإنفاق لا يكون بكل ما رزق الله تعالى بل يكون ببعضه وإن كان الكثير فـ " من " في قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون للتبعيض ; أي : ينفقون بعض ما أعطاهم الله ، فلا يكونون كالمبذرين ، وإن المبذرين إخوان الشياطين ، والإنفاق في سبيل الله تعالى لا يستكثر فيه الكثير ، فكما قال ابن عباس رضي الله عنه : إنفاق ألف في بر لا سرف ، وإنفاق درهم في غير بر سرف . وإنما موضع الإسراف أو الزيادة في الإنفاق على نفسه ، والله تعالى عليم خبير .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية