الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وتجب الصلاة بأول وقتها وجوبا موسعا فلا يأثم بتأخيره إلى آخره إن عزم في أوله على فعلها فيه وإن مات ولم يبق من وقتها إلا ما يسعها فقط ، بخلاف الحج فإنه موسع ولكنه يأثم بالموت بعد التمكن من فعله ولم يفعله إذ لو لم يحكم بعصيانه لأدى إلى فوات معنى الوجوب وأما الصلاة فلها حالة أخرى يعصي فيها وهو إخراجها عن وقتها ، فإن غلب على ظنه موته في أثناء الوقت أو شك في ذلك تعينت فيه ثم لو لم يمت في أثنائه لم تصر بفعلها في باقيه قضاء ، والأفضل أن يصليها أول وقتها كما قال ( ويسن تعجيل الصلاة لأول الوقت ) ولو عشاء لقوله تعالى { حافظوا على الصلوات } ومن المحافظة عليها تعجيلها ، ولقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } [ ص: 375 ] وقوله { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } والصلاة من الخيرات ، وسبب المغفرة ، ولخبر ابن مسعود رضي الله عنه { سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لأول وقتها } وأما خبر { أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر } فمعارض بذلك وغيره ، ولأن المراد بالإسفار ظهور الفجر الذي به يعلم طلوعه ، فالتأخير إليه أفضل من تعجيله عند ظن طلوعه ، وأما خبر الصحيحين { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء } فجوابه أن تعجيلها هو الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                            وروي عن ابن عمر مرفوعا { الصلاة في أول الوقت رضوان الله ، وفي آخره عفو الله } قال إمامنا رضوان الله عليه : إنما يكون للمحسنين ، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين ، ولا يمنع تحصيل فضيلة أول الوقت لو اشتغل أوله بأسبابها من طهارة وأذان وستر وأكل لقم وتقديم سنة راتبة بل لو أخر بقدر ذلك وإن لم يحتج إليه ثم أحرم بها حصل فضيلة أوله كما في الذخائر ، ولا يكلف السرعة [ ص: 376 ] على خلاف العادة ، ولو فعل من ذلك شغلا خفيفا أو أتى بكلام قصير أو أخرج حدثا يدافعه أو حصل ماء ونحوه لم يمنعها أيضا ( وفي قول تأخير العشاء أفضل ) ما لم يجاوز وقت الاختيار للأخبار المتقدمة التي أجيب عنها ، والمشهور استحباب التعجيل لعموم الأحاديث ، ومحل استحباب التعجيل ما لم يعارضه معارض ، فإن عارضه وذلك في نحو أربعين صورة فلا يكون مطلوبا : منها ندب التأخير لمن يرمي الجمار ولمسافر سائر وقت الأولى وللواقف بعرفة فيؤخر المغرب وإن كان نازلا وقتها ليجمعها مع العشاء بمزدلفة ولمن تيقن وجود الماء أو السترة أو الجماعة آخر الوقت .

                                                                                                                            نعم الأفضل كما اختاره المصنف أن يصلي مرتين مرة في أول الوقت منفردا ثم في الجماعة أو القدرة على القيام آخر الوقت ، ولدائم الحدث إذا رجا الانقطاع ، ولمن اشتبه عليه الوقت في يوم غيم حتى يتيقنه أو يظن فواته لو أخرها .

                                                                                                                            وضابطه أن كل ما ترجحت مصلحة فعله ولو أخر فاتت يقدم على الصلاة ، وأن كل كمال كالجماعة اقترن بالتأخير وخلا عنه التقديم يكون التأخير معه أفضل .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : إن عزم ) أي فإن لم يعزم أثم وإن فعلها في الوقت وهذا عزم خاص ، ويجب عليه أيضا عزم عام ، وهو أن يعزم عقب البلوغ على فعل كل الواجبات وترك كل المعاصي كما صرح بذلك سم في الآيات البينات ( قوله : بخلاف إلخ ) أقول : والفرق بينهما أن الصلاة وقت محدود فيتحقق الإثم بفواته ، بخلاف الحج فإنه لا آخر لوقته فلو لم نؤثمه بالموت لم يتحقق وجوبه ( قوله : إذ لو لم يحكم بعصيانه ) يؤخذ من التعليل أن ما فات بعذر من صوم أو صلاة كالحج ، وبه صرح ابن حجر حيث قال : ومثل الحج فائتة بعذر لأن وقتها العمر أيضا ا هـ ، ومقتضى تشبيهه بالحج أنه بالموت يتبين إثمه من آخر وقت الإمكان .

                                                                                                                            قال ابن حجر أيضا : فإن قلت : مر في النوم أنه لو توهم الفوت معه حرم فهل قياسه هذا حتى يتضيق بتوهم الفوت ؟ قلت : نعم إلا أن يفرق بأن من شأن النوم التفويت فلم يجز إلا مع ظن الإدراك بخلافه هنا ا هـ .

                                                                                                                            وقضية قول الشارح فإن غلب على ظنه موته في أثناء الوقت لو شك في ذلك تعينت فيه أنه لو توهم موته لم يأثم بالتأخير بناء على ما اقتضاه العطف للشك على الظن أن المراد به استواء الطرفين فلا يكون التوهم ملحقا بتوهم الفوات بالنوم ، فإن حمل الشك على مطلق التردد اقتضى التسوية بين الفوات بالنوم وغيره ( قوله : ويسن تعجيل الصلاة ) .

                                                                                                                            [ تنبيه ] فرق ابن القيم بين المبادرة والعجلة بأن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها فلا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها ، بل إذا حضر وقتها بادر إليها ووثب عليها ، والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته ا هـ مناوي في شرحه للجامع عند قوله صلى الله عليه وسلم { بادروا بصلاة المغرب } إلخ ، وعليه فلعل التعبير هنا بالتعجيل للمبالغة وهو مجاز عن المبادرة لكنه لشدتها كأنه طلب الصلاة قبل وقتها ، أو أن التعبير به للتنبيه على أنه ينبغي له الاشتغال بأسبابها قبل دخول وقتها فذلك كالطلب لها قبل وقتها ( قوله : ولو عشاء ) أخذها غاية توطئة لقوله بعد : وفي قول تأخير العشاء إلخ ( قوله : ولقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } ) أي ابتدروها .

                                                                                                                            قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة المائدة { فاستبقوا الخيرات } فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم ا هـ .

                                                                                                                            والفرصة كما في المصباح مأخوذة من تفارص القوم الماء القليل لكل منهم نوبة ، فيقال يا فلان جاءت فرصتك : أي نوبتك ووقتك الذي تستقي فيه فيسارع له .

                                                                                                                            وانتهز الفرصة : أي شمر لها مبادرا ، [ ص: 375 ] والجمع فرص مثل : غرفة وغرف ( قوله : وقوله وسارعوا ) قال النسفي في تفسير هذه الآية : معنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما ثم قيل هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى أو الطاعة أو الإخلاص أو التوبة أو الجمعة والجماعة .

                                                                                                                            ( قوله : هو الذي واظب عليه ) أي وأما التأخير فكان لعذر ومصلحة تقتضي التأخير . ولا يشكل عليه أن كان تفيد التكرار .

                                                                                                                            لأنا نقول : أما أولا فإفادتها التكرار ليس من وضعها بل بحسب القرائن المحتفة بالاستعمال ، وأما ثانيا فتقول سلمنا إفادتها التكرار لكنه يصدق بثلاث مرات وتكررها بتكرر العذر والأكثر التعجيل بل هو الأصل ( قوله : لو اشتغل ) هي مصدرية : أي اشتغاله لأن لو من الحروف المصدرية التي تسبك بالمصدر ( قوله : وأكل لقم ) أي موفرة للخشوع كما في حج ، ولعل جعله سببا لما يترتب عليه من تحصيل الخشوع فيها وإلا فالأكل ليس من أسبابها .

                                                                                                                            وقضيته أن الشبع يفوت وقت الفضيلة ، وقد يخالفه ما مر له في وقت المغرب ، والأقرب إلحاق ما هنا بما هناك أخذا من كلام سم على حج المذكور ، وبهذا يندفع ما قاله حج في شرح العباب نقلا عن الزركشي ، ولعل العبرة في ذلك كله الوسط من غالب الناس لئلا يختلف وقت الفضيلة باختلاف أحوال المصلين ، وهو غير معهود وعمومه شامل لهذه ، فلو خالف عادة الوسط المعتدل بغير عذر فاتته سنة التعجيل فإن كان لعذر ونوى أنه لو خلا عن العذر عجل فمن الظاهر عدم حصول السنة ، ولكن لا مانع أن الله يكتب له ثوابا مثل ثوابه لو عجل لامتثاله أمر الشارع ( قوله : بقدر ذلك ) أي أسبابها ومثله في حج لكن ابن حج بين في وقت المغرب أن المراد بالأسباب المعتبرة في وقت الفضيلة ما يحتاج إليه بالفعل ، ولعل مراده ما من شأنه أن يحتاج إليه بالفعل حتى لا ينافي ما ذكره هنا من أنه لو قدم الأسباب على الوقت وأخر بقدرها من أوله حصل سنة التعجيل ، وأن المعتبر في وقت المغرب على الجديد زمن ما يجب ويندب بتقدير وقوعه وإن ندر ( قوله : وإن لم يحتج ) أي بأن كان متطهرا ( قوله : حصل فضيلة أوله إلخ ) أي لكن الفعل في أول الوقت أفضل ، وإن كان لو فعل بعد صدق عليه أنه فعل في وقت الفضيلة كمن أدرك التحرم مع الإمام ، ومن أدرك التشهد فالحاصل لكل منهما ثواب الجماعة لكن درجات الأول أكمل ( قوله : كما في الذخائر ) هو بالذال المعجمة ( قوله : ولا يكلف السرعة إلخ ) عبارة حج : ويندب للإمام الحرص على أول الوقت لكن بعد مضي قدر اجتماع الناس وفعلهم لأسبابها عادة ، وبعده يصلي بمن حضر وإن قل ، لأن الأصح أن الجماعة القليلة أوله أفضل من الكثيرة آخره ، ولا ينتظر ولو هو شريف وعالم [ ص: 376 ] فإن انتظر كره . ومن ثم لما اشتغل صلى الله عليه وسلم : أي بحيث تأخر عن وقت عادته أقام الصلاة ، فتقدم أبو بكر مرة وابن عوف أخرى مع أنه لم يطل تأخره بل أدرك صلاتيهما واقتدى بهما وصوب فعلهما .

                                                                                                                            نعم يأتي في تأخر الرواتب تفصيل لا ينافيه هذا لعلمهم منه صلى الله عليه وسلم بالحرص على أول الوقت ا هـ .

                                                                                                                            وقد يشكل قوله إن الجماعة القليلة أوله أفضل من الكثيرة آخره إلخ على قوله كالرملي إن كل كمال اقترن بالتأخير وخلا عنه التقديم يكون التأخير معه أفضل ، إلا أن يقال : إن مراده بالكمال السنة التي تحصل مع التأخير وتفوت من أصلها بالتقديم ، بخلاف صورة الجماعة فإنها حاصلة مع كل من التقديم والتأخير وإن فات بتقديمها صفة كمال فيها .

                                                                                                                            ويعارضه ما قاله حج في شرح العباب حيث قال : ولو قصد الصلاة في نحو مسجد بعيد لنحو كبره أو فقه إمامه ندب له الإبراد وإن أمكنه في قريب على الأوجه ا هـ ( قوله : وللواقف بعرفة فيؤخر إلخ ) بقي ما لو تعارض عليه فوت عرفة وانفجار الميت فهل يقدم الأول أو الثاني فيه نظر ، والأقرب تقديم الثاني لأن فيه هتكا لحرمته ، ولا يمكن تداركه بخلاف الحج فإنه يمكن تداركه ( قوله : ثم في الجماعة ) ومثلها السترة والماء فيعيد إذا وجدها في الوقت ولو منفردا ، ويكون هذا مستثنى من توقف صحة المعادة على جماعة ( قوله : إذا رجا ) أما إذا تحققه فيجب عليه التأخير كما تقدم له ، وهل الجريح المتيمم عن الجراحة إذا تحقق البرء آخر الوقت يجب عليه التأخير ليصلي بالوضوء الكامل أو يكون أولى له فقط ؟ الأقرب الثاني كما لو تيقن الماء آخر الوقت .

                                                                                                                            والفرق أن دائم الحدث يصلي مع الحدث ، فالقياس بطلان صلاته دون المتيمم عن الجراحة ، فإن التيمم طهارة شرعية ( قوله يكون التأخير معه ) زاد حج : لمن أراد الاقتصار على صلاة واحدة حتى لا ينافي ما يأتي في الإبراد معه ا هـ .

                                                                                                                            ويفيده قول الشارح قبل : نعم الأفضل كما اختاره المصنف .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 373 - 375 ] قوله : وأكل لقم ) يؤخذ منه أن المراد بالأسباب أعم مما تتوقف عليه صحة الصلاة أو كمالها ، بخلاف صنيع الشهاب حج حيث جعلها من الشغل الخفيف ، إذ مقتضاه أن المراد بالأسباب ما تتوقف عليه صحة الصلاة فحسب




                                                                                                                            الخدمات العلمية