الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ) ( : ليأتينه فلم يأته حتى مات حنث في آخر حياته ) ; لأن البر قبل ذلك موجود ، ولا خصوصية للإتيان بل كل فعل حلف أنه يفعله في المستقبل ، وأطلقه ، ولم يقيده بوقت لم يحنث حتى يقع الإياس عن البر مثل ليضربن زيدا أو ليعطين فلانة أو ليطلقن زوجته وتحقق اليأس عن البر يكون بفوت أحدهما فلذا قال في غاية البيان ، وأصل هذا أن الحالف في اليمين المطلقة لا يحنث ما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين لتصور البر فإذا فات أحدهما فإنه يحنث . ا هـ .

                                                                                        وبهذا ظهر أن الضمير في قوله حتى مات يعود إلى أحدهما أيهما كان سواء كان الحالف أو المحلوف عليه لا أنه خاص بالحالف كما هو المتبادر من العبارة ، وقيد باليمين المطلقة ; لأنها لو كانت مقيدة كقوله إن لم أدخل هذه الدار اليوم فعبده حر فإن الحنث معلق بآخر الوقت حتى إذا مات الحالف قبل خروج الوقت ، ولم يدخل الدار لا يحنث ، وأما إذا مضى الوقت قبل دخوله ، وهو حي عتق العبد كذا في غاية البيان ثم اعلم أن اليمين المطلقة لا تكون على الفور إلا بقرينة ففي الظهيرية في الفصل [ ص: 339 ] السابع ، ولو حلف إن رأى فلانا ليضربنه فالرؤية على القريب والبعيد والضرب متى شاء إلا أن يعني الفور ، وفي فتاوى أبي الليث رجل أراد أن يواقع امرأته ، وكانت امرأته على باب الدار فقال لها إن لم تدخلي معي في الدار فأنت طالق فدخلت بعدما سكنت شهوته وقع الطلاق عليها ، وإن دخلت قبل ذلك لم تطلق ، وفي الفصل الخامس حلف ليضربن غلامه في كل حق ، وليس له نية فهو على أن يضربه كل ما شكي إليه بحق أو باطل ، ولا يكون يمينه على فور الشكاية ما لم ينو ذلك . ا هـ . وسيأتي تمام مسائل الفور إن شاء الله تعالى قريبا .

                                                                                        ( قوله : ليأتينه إن استطاع فهي استطاعة الصحة ) ; لأنها المرادة في العرف ، وهي سلامة الآلات وصحة الأسباب ، وفسرها محمد رحمه الله بقوله إذا لم يمرض ، ولم يمنعه السلطان ، ولم يجئ أمر لا يقدر على إتيانه فلم يأته حنث . ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا المراد بسلامة الآلات صحة الجوارح فالمريض ليس بمستطيع والمراد بصحة الأسباب تهيئة لإرادة الفعل على وجه الاختيار فخرج الممنوع ، ولذا ذكر في الاختيار أنها سلامة الآلات ورفع الموانع ، وفي المبسوط الاستطاعة رفع الموانع . ا هـ .

                                                                                        فينبغي أنه إذا نسي اليمين لا يحنث ; لأن النسيان مانع ، وكذا لو جن فلم يأته حتى مضى الغد كما لا يخفى ، ولذا قال في غاية البيان وحدها التهيؤ لتقييد الفعل على إرادة المختار . ( قوله : وإن نوى القدرة دين ) أي صدق فيما بينه وبين الله تعالى ; لأن حقيقتها فيما يقارن الفعل ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف فعند الإطلاق ينصرف إليه وتصح نية الأول ديانة ; لأنه حقيقة كلامه وظاهر كلامه أنه لا يصدق قضاء ; لأنه خلاف الظاهر ، وقيل يصدق قضاء أيضا ; لأنه نوى حقيقة كلامه ، وإذا صدق لا يتصور حنثه أبدا ; لأنها لا تسبق الفعل ورجح في فتح القدير الأول بأنه أوجه ; لأنه ، وإن كان مشتركا بينهما لكن تعورف استعماله عند الإطلاق عن القرينة لأحد المعنيين بخصوصه ، وهو سلامة آلات الفعل وصحة أسبابه فصار ظاهرا فيه بخصوصه فلا يصدقه القاضي في خلاف الظاهر . ا هـ .

                                                                                        وقد أظهر الزاهدي في المجتبى اعتزاله في هذا المحل كما أظهره في القنية في موضعين من ألفاظ التكفير ، وعبارته في المجتبى قلت : وفي قوله حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل نظر قوي ; لأنه بناه على مذهب الأشعرية والسنية أن القدرة تقارن الفعل ، وإنه باطل إذ لو كان كذلك لما كان فرعون ، وهامان وسائر الكفرة الذين ماتوا على الكفر قادرين على الإيمان ، وكان تكليفهم بالإيمان تكليفا بما لا يطاق ، وكان إرسال الرسل والأنبياء ، وإنزال الكتب والأوامر والنواهي والوعد والوعيد ضائعة في حقهم . ا هـ .

                                                                                        وهو غلط ; لأن التكليف ليس مشروطا بهذه القدرة حتى يلزم ما ذكره ، وإنما هو مشروط بالقدرة الظاهرة ، وهي سلامة الآلات وصحة الأسباب كما عرف في الأصول .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية