الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وسننها رفع اليدين للتحريمة ) للمواظبة وهي وإن كانت من غير ترك تفيد الوجوب لكن إذا لم يكن ما يفيد أنها ليست لحامل الوجوب ، وقد وجد ، وهو تعليمه الأعرابي من غير ذكر تأويل ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، على أنه حكي في الخلاصة خلافا في تركه : قيل يأثم ، وقيل لا ، قال والمختار إن اعتاده أثم لا إن كان أحيانا . ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير وينبغي أن يجعل شقي هذا القول محمل القولين فلا اختلاف حينئذ ولا إثم لنفس الترك بل لأن اعتياده للاستخفاف وإلا فمشكل أو يكون واجبا . ا هـ .

                                                                                        والذي يظهر من كلام أهل المذهب أن الأثم منوط بترك الواجب أو السنة المؤكدة على الصحيح لتصريحهم بأن من ترك سنن الصلوات الخمس قيل لا يأثم والصحيح أنه يأثم ذكره في فتح القدير وتصريحهم بالإثم لمن ترك الجماعة مع أنها سنة مؤكدة على الصحيح ، وكذا في نظائره لمن تتبع كلامهم ولا شك أن الأثم مقول بالتشكيك بعضه أشد من بعض فالإثم لتارك السنة المؤكدة أخف من الإثم لتارك الواجب ، ولهذا قيل في شرح منية المصلي في هذه المسألة : ثم المراد بالإثم على هذا إثم يسير كما هو حكم هذه السنة المواظب صلى الله عليه وسلم عليها على ما ذكره صدر الإسلام البزدوي ا هـ .

                                                                                        فالحاصل أن القائل بالإثم في ترك الرفع بناه على أنه من سنن الهدى فهو سنة مؤكدة والقائل بعدمه بناه على أنه من سنن الزوائد بمنزلة المستحب ، وقد قال في [ ص: 320 ] الذخيرة ، وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على عدم الإثم فإنه قال : إن ترك رفع اليدين جاز ، وإن رفع فهو أفضل ا هـ .

                                                                                        وبهذا اندفع ما في فتح القدير كما لا يخفى

                                                                                        ( قوله ونشر أصابعه ) وكيفيته أن لا يضم كل الضم ولا يفرج كل التفريج بل يتركها على حالها منشورة كذا ذكره الشارح والظاهر أن المراد بالنشر عدم الطي بمعنى أنه يسن أن يرفعهما منصوبتين لا مضمومتين حتى تكون الأصابع مع الكف مستقبلة للقبلة ومن السنن أن لا يطأطئ رأسه عند التكبير كما في المبسوط ، وهو بدعة ( قوله وجهر الإمام بالتكبير ) لحاجته إلى الإعلام بالدخول والانتقال . قيد بالإمام لأن المأموم والمنفرد لا يسن لهما الجهر به ; لأن الأصل في الذكر الإخفاء ولا حاجة لهما إلى الجهر ( قوله والثناء والتعوذ والتسمية والتأمين سرا ) للنقل المستفيض على ما يأتي بيانه ، وقوله سرا راجع إلى الأربعة ( قوله ووضع يمينه على يساره تحت سرته ) لما في صحيح مسلم عن وائل بن حجر أنه قال : { ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على اليسرى } فانتفى به قول مالك بالإرسال

                                                                                        وعند الشافعي محله ما فوق السرة تحت الصدر واستدل له النووي بما في صحيح ابن خزيمة عن وائل بن حجر { قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره } ولا يخفى أنه لا يطابق المدعى ، واستدل مشايخنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاث من سنن المرسلين وذكر من جملتها وضع اليمين على الشمال تحت السرة } لكن المخرجين لم يعرفوا فيه مرفوعا وموقوفا تحت السرة ويمكن أن يقال في توجيه المذهب : أن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون فيه الوضع من البدن إلا حديث وائل المذكور ، وهو مع كونه واقعة حال لا عموم لها يحتمل أن يكون لبيان الجواز فيحال في ذلك كما قاله في فتح القدير على المعهود من وضعها حال قصد التعظيم في القيام ، والمعهود في الشاهد منه أن يكون ذلك تحت السرة فقلنا به في هذه الحالة في حق الرجل بخلاف المرأة فإنها تضع على صدرها ; لأنه أستر لها فيكون في حقها أولى ( قوله وتكبير الركوع ) لما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند كل رفع وخفض }

                                                                                        ( وقوله والرفع منه ) أي من الركوع ، وهو بالرفع عطفا على التكبيرة ولا يجوز جره ; لأنه لا يكبر عند الرفع من الركوع ، وإنما يأتي بالتسميع ، وقد قدمنا أن مقتضى الدليل الوجوب لا السنية ، وهو رواية عن أبي حنيفة ( قوله وتسبيحه ثلاثا ) أي تسبيح الركوع ( قوله وأخذ ركبتيه بيديه وتفريج أصابعه ) لحديث أنس { إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك وفرج بين أصابعك } ( قوله وتكبير السجود ) لما روينا قال الشارح ، ولو قال : وتكبير السجود والرفع منه كان أولى ; لأن التكبير عند الرفع منه سنة ، وكذا الرفع نفسه سنة ا هـ .

                                                                                        لكن استفادة الحكمين من قوله والرفع منه محل نظر ; لأنه إن [ ص: 321 ] قرئ بالرفع أفاد سنية أصل الرفع ، وإن قرئ بالجر أفاد سنية التكبير عند الرفع ، وأما استفادتهما منه فلا ، وروي عن أبي حنيفة أن الرفع منه فرض ، وجه الظاهر : أن المقصود الانتقال ، وهو يتحقق بدونه بأن يسجد على وسادة ، ثم تنزع ويسجد على الأرض ثانيا قال الشارح ولكن لا يتصور هذا إلا على قول من لا يشترط الرفع حتى يكون أقرب إلى الجلوس

                                                                                        ( قوله وتسبيحه ثلاثا ) لقوله عليه الصلاة والسلام { إذا سجد أحدكم فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا } ( قوله ووضع يديه وركبتيه ) يعني حالة السجود وسيأتي الكلام عليه ( قوله وافتراش رجله اليسرى ونصب اليمنى والقومة والجلسة ) تقدم أن مقتضى الدليل وجوبهما ، وفي قوله القومة نوع إشكال فإنه قد ذكر فيما تقدم من قريب أن الرفع من الركوع سنة ، وهو القومة فيكون تكرارا كذا ذكره الشارح ، وقد يقال إنه أراد بالقومة القومة من السجود فلا تكرار والقومة خلاف الجلسة كما لا يخفى ( قوله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ) أو هو قول عامة السلف والخلف ، وقال الشافعي إنها فرض تبطل الصلاة بتركها ، وقد نسب قوم من الأعيان الإمام الشافعي في هذا إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع منهم أبو جعفر الطحاوي وأبو بكر الرازي وأبو بكر بن المنذر والخطابي والبغوي وابن جرير الطبري وهذه عبارته : أجمع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة على أن الصلاة عليه غير واجبة في التشهد ولا سلف للشافعي في هذا القول ولا سنة يتبعها ا هـ .

                                                                                        فإن تم هذا كان الإجماع هو الدليل على السنية لكن تعقب غير واحد دعوى الإجماع بعد التمام ; لأن عن بعض الصحابة وبعض التابعين ما يوافق قول الشافعي ، وأما موجب الأمر في قوله تعالى { صلوا عليه } فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها ; لأن الأمر لا يقتضي التكرار وسيأتي كيفيتها وأحكامها إن شاء الله تعالى ( قوله والدعاء ) أي لنفسه ولوالديه إن كانا مؤمنين ولجميع المؤمنين والمؤمنات لما في صحيح مسلم : { ثم يتخير من المسألة ما شاء } ولما رواه الترمذي وحسنه مرفوعا عن أبي أمامة { قيل : يا رسول الله : أي الدعاء أسمع ؟ قال : جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات } بناء على أن المراد بدبرها ما قبل الفراغ منها كما ذكره بعضهم أي الوقت الذي يليه وقت الخروج منها ; لأن دبر كل شيء منه ومتصل به ، وقد يراد بدبر الشيء وراءه وعقبه كما نصوا عليه أيضا فيكون حينئذ المراد بدبرها الوقت الذي يلي وقت الخروج منها لكن عندنا السنة مقدمة على الدعاء الذي هو عقب الفراغ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله لكن إذا لم يكن ما يفيد إلخ ) أي أن المواظبة من غير ترك تفيد الوجوب لكن لا مطلقا بل تفيده إذا لم يوجد شيء يفيد أن تلك المواظبة ليست لأجل حامل عليها هو الوجوب وهنا قد وجد ما يدل على أن الحامل عليها غير الوجوب ( قوله وفي فتح القدير وينبغي إلخ ) أي بأن يجعل الشق الأول من القول المختار محمل القول بالإثم والشق الثاني محمل القول بعدمه ( قوله وتصريحهم بالإثم لمن ترك الجماعة ) أقول : سننقل في باب الإمامة عن النهر أن الخراسانيين على أنه يأثم إذا اعتاد الترك وسيأتي أيضا أن الحلبي وفق بين القول بالوجوب والقول بالسنية بالمواظبة والإتيان أحيانا فالأولى سنة والثانية واجبة وعلى هذا فالفرق بين الواجب والسنة ظاهر ، ولكن يحتاج إلى أن الإثم بالمداومة على تركها دون الإثم بالمداومة على ترك الواجب

                                                                                        ( قوله فالإثم لتارك السنة المؤكدة إلخ ) قال في النهر : ويؤيده ما في الكشف الكبير معزيا إلى أصول أبي اليسر حكم السنة أن يندب إلى تحصيلها ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير ، وكون الاعتياد للاستخفاف يوجب إثما فقط فيه نظر ففي البزازية لو لم ير السنة [ ص: 320 ] حقا كفر لأنه استخفاف ( قوله لا يجوز زجره إلخ ) قال بعضهم يمكن أن يراد بالتكبير ذكر هو تعظيم الله تعالى سواء كان بلفظ التكبير أو لم يكن جمعا بين الروايات ا هـ .

                                                                                        أي ليشمل روايتي التسميع والتكبير عند الرفع من الركوع وسيأتي في الفصل ذكر هذه الرواية عن المحيط وروضة الناطفي ولذا قال بعض الفضلاء : واقتصر الكرماني على إعرابه بالجر ومشى على أن يكون تكبير الرفع من الركوع من السنن لما روي أنه عليه السلام { كان يكبر عند كل رفع وخفض } ، وقد نقل تواتر العمل به بعده ولكن العمل به ترك في زماننا . ا هـ .

                                                                                        وسيأتي تأويل الحديث بأن المراد بالتكبير الذكر الذي فيه تعظيم كما مر وعلى هذا فلو فرض أن المصنف لم يقصد الرواية الثانية فليكن المراد بالتكبير في كلامه ما ذكر يشمل تكبير الركوع والتسميع في الرفع منه رعاية للاختصار الذي بنى كتابه عليه وبالجملة فالأنسب الجر لما قلنا ولئلا يلزم التكرار المنافي للاختصار في قوله والقومة والجلسة ، ودفعه بما سيأتي أن المراد بالقومة القومة من السجود بعيد ومما يؤيد الجر قوله بعده : وتسبيحه ثلاثا إذ لو كان الرفع مرفوعا لكان الأولى تقديم قوله : وتسبيحه على قوله : والرفع منه كما لا يخفى

                                                                                        ( قوله لكن استفادة الحكمين إلخ ) قد يمنع إرادة الشارح الزيلعي استفادة الحكمين مما ذكر يدل عليه اقتصاره في التعليل على قوله لأن التكبير عند الرفع منه سنة ، ثم استئنافه ذكر الرفع بقوله : وكذا الرفع نفسه إذ المتبادر من مثل هذا التركيب في كلام العلماء التنبيه على أمر آخر غير ما ذكر قبله وإلا لقال لأن الرفع نفسه والتكبير عنده سنتان ، ولو سلم فلا مانع من إرادة ذلك بناء على صحة قراءته بالوجهين ففي كل وجه يراد معناه فيستفاد الحكمان من هذا اللفظ الواحد في وقتين ، وقد وقع نظيره في القرآن الكريم كما في قوله تعالى { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ ص: 321 ] قرئ بتشديد إن وتخفيفها ومعلوم أن المعنيين مختلفان لأن المعنى على التشديد الإثبات وعلى التخفيف النفي ومورد الإثبات والنفي مختلف كما قرر في كتب التفسير ولا يقال إن قرئ بالتشديد أفاد معنى ، وإن قرئ بالتخفيف أفاد معنى لأنه ليس المراد أن كل واحد بانفراده يفيد كلا من المعنيين بل المراد أن كلا منهما يصح إرادته بقراءته ما يناسبه فقد صح إرادة معنيين متغايرين من لفظ صورته في الرسم واحدة ومثله ما إذا اتحد اللفظ واختلف التقدير كما في قوله تعالى { وترغبون أن تنكحوهن } يصح التقدير من : أن [ ص: 322 ] تنكحوهن لحسنهن وجمالهن أو عن : أن تنكحوهن لفقرهن ودمامتهن فكذا فيما نحن فيه فتدبر .




                                                                                        الخدمات العلمية