الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثاني : قال :

                                587 612 - ثنا معاذ بن فضالة : ثنا هشام ، عن يحيى ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، قال : حدثني عيسى بن طلحة ، أنه سمع معاوية يوما ، فقال مثله ، إلى قوله : ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) .

                                588 613 - ثنا إسحاق : ثنا وهب بن جرير : ثنا هشام ، عن يحيى - مثله .

                                قال يحيى : وحدثني بعض إخواننا ، أنه لما قال : ( حي على الصلاة ) ، قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ، وقال : هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول .

                                التالي السابق


                                هكذا خرجه مختصرا .

                                [ ص: 448 ] وخرجه الإمام أحمد بتمامه ، عن إسماعيل بن إبراهيم - هو : ابن علية - وأبي عامر العقدي ، قالا : ثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة - قال أبو عامر في حديثه : ثنا عيسى بن طلحة - قال : دخلنا على معاوية ، فنادى المنادي بالصلاة ، فقال : ( الله أكبر ، الله أكبر ) . فقال معاوية : ( الله أكبر ، الله أكبر ) ، فقال : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) ، فقال معاوية : ( وأنا أشهد ) - قال أبو عامر في حديثه : ( أن لا إله إلا الله ) - فقال : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) ، فقال معاوية : ( وأنا أشهد ) - قال أبو عامر : ( أن محمدا رسول الله ) .

                                قال يحيى : ثنا رجل ، أنه لما قال : ( حي على الصلاة ) قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ، قال معاوية : هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول
                                .

                                وخرجه الإسماعيلي بنحوه من طريق ابن علية .

                                وله طريق آخر عن معاوية :

                                خرجه البخاري في " الجمعة " في " كتابه " هذا من طريق ابن المبارك : أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف ، [ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ] ، قال : سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن ، فقال : ( الله أكبر ، الله أكبر ) ، فقال معاوية : ( الله أكبر ، الله أكبر ) . فقال : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) ، فقال معاوية : ( وأنا ) ، فقال : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) ، فقال معاوية : ( وأنا ) ، فلما قضى التأذين ، قال : يا أيها الناس ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه المجلس حين أذن المؤذن يقول كما سمعتم مقالتي .

                                [ ص: 449 ] وقد روي عن معاوية من طرق أخرى ، وفي بعضها : أنه قال عند ( حي على الصلاة ) ، و : ( حي على الفلاح ) : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) موافقة للرواية التي أرسلها يحيى بن أبي كثير .

                                فخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن جريج : أخبرني عمرو بن يحيى ، أن عيسى بن عمر أخبره ، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص ، عن علقمة بن وقاص ، قال : إني عند معاوية إذ أذن مؤذنه ، فقال معاوية كما قال المؤذن ، حتى إذا قال : ( حي على الصلاة ) قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ، فلما قال : ( حي على الفلاح ) قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . وقال بعد ذلك ما قال المؤذن ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك .

                                وخرجه الإمام أحمد بمعناه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كنا عند معاوية - فذكره بمعناه .

                                وروى عبد الوهاب بن الضحاك : ثنا إسماعيل بن عياش ، عن مجمع بن جارية ، عن أبي أمامة بن سهل ، قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - إذا أذن المؤذن - مثل قوله ، وإذا قال : ( حي على الصلاة ) قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .

                                عبد الوهاب متروك الحديث . وإسماعيل لا يحفظ حديث الحجازيين .

                                وقد رواه الإمام أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون ، كلاهما عن مجمع - بنحو سياق حديث أبي بكر بن عثمان الذي خرجه البخاري .

                                وخرجه - أيضا - عن وكيع ، عن مجمع - مختصرا .

                                ورواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة " عن مجمع - بنحو رواية يعلى ويزيد .

                                وليس في حديث أحد منهم : ذكر الحيعلة .

                                [ ص: 450 ] وفي رواية يعلى ويزيد وأبي نعيم : أنه لما كبر المؤذن - اثنين - كبر - اثنين - ولما شهد أن لا إله إلا الله - اثنين - شهد - اثنين - ، ولما شهد أن محمدا رسول الله - اثنين - شهد - اثنين .

                                وهذا يشعر بأن التكبير في أول الأذان مرتان .

                                وروي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير حديث معاوية :

                                فخرج مسلم في " صحيحه " من حديث عمارة بن غزية ، عن خبيب بن عبد الرحمن بن يساف ، عن حفص بن عاصم بن عمر ، عن أبيه ، عن جده عمر بن الخطاب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( إذا قال المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر . ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله . ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : حي على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر . ثم قال : لا إله إلا الله ، قال : لا إله إلا الله من قلبه ؛ دخل الجنة ) .

                                وعمارة بن غزية ، ثقة ولم يخرج له البخاري .

                                وقد روي نحوه من حديث عاصم بن عبيد الله العمري ، عن علي بن حسين ، عن أبي رافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا سمع [ المؤذن ] قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ : ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي في " اليوم والليلة " .

                                [ ص: 451 ] وعاصم هذا ضعفوه ، وقد اختلف عليه في إسناده .

                                وروي نحوه من حديث أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                خرجه ابن عدي ، وقال : هو منكر ، وإسناده لا يصح .

                                وإجابة المؤذن مستحبة عند جمهور العلماء ، وليست واجبة .

                                وكان الحسن كثيرا يسمع المؤذن وهو يتحدث فلا يقطع حديثه ولا يجيبه ، وكذلك إسحاق بن راهويه .

                                ونص أحمد على أن الإجابة غير واجبة .

                                وحكى الطحاوي عن قوم أنهم أوجبوا إجابته . والظاهر : أنه قول بعض الظاهرية . وحكي عن بعض الحنفية أيضا .

                                وروي عن ابن مسعود ، أنه قال : من الجفاء أن لا يقول مثل ما يقول المؤذن .

                                وقد روي مرفوعا من وجوه ضعيفة .

                                واختلف العلماء : هل يجيب المؤذن ، فيقول كقوله في جميع ما يقول ، أم لا ؟

                                فقالت طائفة : يقول مثل ما يقول سواء في جميع أذانه ؛ لظاهر حديث أبي سعيد .

                                وفي " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ) .

                                [ ص: 452 ] وقد روي عن طائفة من السلف ، أنهم قالوا : يقول مثل قول المؤذن ، ولم يستثنوا ، منهم النخعي .

                                وروي عن ابن عمر : أنه كان يقول مثل ما يقول المؤذن .

                                وهو ظاهر قول الخرقي من أصحابنا .

                                وقالت طائفة : يقول كقوله ، إلا في قوله : ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) ، فإنه يقول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .

                                وهذا مروي عن الحسن ، وهو منصوص عن أحمد ، والشافعي ، وهو قول طائفة من الحنفية والمالكية .

                                وهؤلاء ؛ جعلوا حديث أبي سعيد وما في معناه عاما ، وحديث عمر ومعاوية وما في معناهما خاصة ، فتقضي على النصوص العامة .

                                ومن الحنفية من قال : يقول عند قوله ( حي على الصلاة ) : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) . وعند : ( حي على الفلاح ) : ( ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ) .

                                وقالت طائفة : هو مخير بين أن يقول مثل قول المؤذن في الحيعلة ، وبين أن يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وجمعوا بين الأحاديث بذلك ، وهذا قول أبي بكر الأثرم ومحمد بن جرير الطبري .

                                وقالت طائفة : بل يجمع بين أن يقول مثل قول المؤذن ، وبين قوله : " لا حول ولا قوة إلا بالله " .

                                وهذا قول بعض أصحابنا ، وهو ضعيف ؛ لأن الجمع لم يرد .

                                وكان بعض شيوخنا يقول : يجمع بين الأحاديث في هذا بأن من سمع المؤذن وهو في المسجد قال مثل قوله ، فإن سمعه خارج المسجد قال : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ؛ لأنه يحتاج إلى سعي فيستعين بالله عليه .

                                وقالت طائفة : يجيب المؤذن إلى آخر الشهادتين ، ولا يجيبه فيما زاد على [ ص: 453 ] ذلك ، وهو رواية عن مالك .

                                وفي " تهذيب المدونة " : أنه يجيبه إلى قوله : " أشهد أن محمدا رسول الله " ، وإن أتم الأذان معه فلا بأس .

                                وظاهره : أنه يتمه معه بلفظ الأذان .

                                وهؤلاء قد يحتجون ببعض روايات حديث معاوية التي فيها الإجابة إلى الشهادتين ، ولكن قد روي عنه من وجوه : إجابته في تمام الأذان .

                                وروي من حديث الحكم بن ظهير ، عن عاصم ، عن زر ، عن عبد الله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب المؤذن إلى الشهادتين ، ثم سكت .

                                ذكره أبو بكر الأثرم ، وقال : هو حديث واه .

                                يشير إلى أن الحكم بن ظهير ضعيف جدا .

                                وروى أبو نعيم في " كتاب الصلاة " : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي جعفر ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع المنادي يقول : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) قال : ( وأنا ) . وإذا قال : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) قال : ( وأنا ) ، ثم سكت .

                                وهذا مرسل .

                                وحكى ابن عبد البر عن قوم : أنهم رأوا إجابة المؤذن الحيعلتين خاصة .

                                وعن قوم : أنهم رأوا إجابته في الشهادتين خاصة ، دون ما قبلهما وبعدهما .

                                وروى ابن أبي شيبة بإسناده ، عن قتادة : أن عثمان كان إذا سمع المؤذن يؤذن يقول كما يقول ، في التشهد والتكبير كله ، فإذا قال : " حي على الصلاة " قال : ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله . فإذا قال : ( قد قامت الصلاة ) قال : مرحبا بالقائلين عدلا ، وبالصلاة مرحبا وأهلا . ثم ينهض إلى الصلاة .

                                [ ص: 454 ] وبإسناده عن مجاهد ، أنه كان إذا قال المؤذن : ( حي على الصلاة ) قال : المستعان الله . [ فإذا ] قال : ( حي على الفلاح ) قال : لا حول ولا قوة إلا بالله .

                                وفي " مسند الإمام أحمد " عن علي بن أبي طالب ، أنه كان إذا سمع المؤذن يؤذن ، قال كما يقول ، فإذا قال : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله " قال علي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله .

                                وخرج ابن السني بإسناد لا يصح ، عن معاوية ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع المؤذن قال ( حي على الفلاح ) قال : ( اللهم اجعلنا مفلحين ) .

                                وذكر ابن جرير بإسناده ، عن سعيد بن جبير ، أنه كان إذا سمع المؤذن يقول : " حي على الصلاة " يقول : سمعنا وأطعنا .

                                ولا فرق في استحباب إجابة المؤذن بين النساء والرجال ، هذا ظاهر إطلاق العلماء ، وظواهر الأحاديث ؛ فإن خطاب الذكور يدخل في الإناث تبعا في كثير من العمومات ، وهو قول أصحاب الإمام أحمد وغيرهم ممن تكلم في أصول الفقه .

                                وقد روي التصريح بإجابة النساء المؤذن من حديث عائشة وميمونة ، وإسنادهما لا يصح .

                                وقد خرج ابن جرير الطبري حديث ميمونة ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " وللرجال الضعفان من الأجر " يعني في الإجابة .

                                وذكر ابن جرير ، عن بعض أهل الحديث ، أنه قال : لا يحتج بهذا الحديث ذو علم بالآثار ومعرفة الرجال .

                                والأمر كما قال ؛ فإن إسناده ضعيف جدا .

                                [ ص: 455 ] وقد خرج أبو الشيخ الأصبهاني في " كتاب ثواب الأعمال " معناه - أيضا - من حديث ابن المنكدر - مرسلا .

                                وهذا قد يشعر بأن النساء في ثواب الأعمال نصف أجر الرجال .

                                ويشهد له : ما خرجه ابن أبي حاتم في " تفسيره " من حديث الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض الآية . ، قال : أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين بشهادة رجل ، أفنحن في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتب لها نصف حسنة ، فأنزل الله هذه الآيةولا تتمنوا فإنه عدل مني ، وأنا صنعته .

                                وبإسناده عن السدي في هذه الآية ، قال : قال الرجال : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء كما لنا في السهام سهمان ، ونريد أن يكون لنا في الأجر أجران . وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا . فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهن : " سلوا الله من فضله يرزقكم الأعمال ، وهو خير لكم " .

                                وروى قتادة هذا المعنى - أيضا .

                                وهذا كله يشعر بأن النساء لهن نصف أجر الرجال في الأعمال كلها .

                                وقد يخص ذلك بما لا يشرع مشاركة النساء للرجال في الأعمال ، أو ما يجوز لهن مشاركتهم فيها ، [ والأوصى ] ترك المشاركة ، كصلاة الجماعة وإجابة المؤذن ؛ فإنه داع إلى الصلاة في الجماعة .

                                [ ص: 456 ] وقد روي في حديث غريب ، خرجه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " : أن صلاة المرأة وحدها تضاعف على صلاتها في الجماعة ببضع وعشرين درجة .

                                وفي إسناده مقال .

                                وربما يأتي ذكره بلفظه في موضع آخر إن شاء الله .

                                وهل يشرع للمؤذن نفسه أن يجيب نفسه بين كلمات الأذان ؟

                                ذكر أصحابنا أنه يشرع له ذلك .

                                وروي عن الإمام أحمد أنه كان إذا أذن يفعل ذلك .

                                واستدلوا بعموم قوله : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول " . والمؤذن يسمع نفسه ، فيكون مأمورا بالإجابة .

                                وقاسوه على تأمين الإمام على قراءة الفاتحة مع المأمومين .

                                وفي هذا نظر ؛ فإن تأمين الإمام وردت به نصوص .

                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سمعتم المؤذن ) ، ظاهره يدل على التفريق بين السامع والمؤذن، فلا يدخل المؤذن ، كما قال أصحابنا في النهي عن الكلام لمن يسمع الإمام وهو يخطب ، أنه لا يشمل الإمام ، بل له الكلام .

                                وكذا قالوا في الأيمان ونحوها ، لو قال : من دخل داري . أو خاطب غيره ، فقال : من دخل دارك ، وعلق على ذلك طلاقا أو غيره - لم يدخل هو في عموم اليمين في الصورة [ الأولى ] ، ولا المخاطب في الصورة الثانية .

                                وللمسألة نظائر كثيرة ، في بعضها اختلاف ، قد ذكرناها في كتاب " القواعد في الفقه " .

                                واستحب أحمد للمؤذن أن يبسط يديه ويدعو عند قوله : " حي على [ ص: 457 ] الصلاة " . قال : رأيت يزيد بن هارون يفعله ، وهو حسن . يعني : لما ورد من استحبابه الدعاء عن الأذان ، وفيه أحاديث كثيرة مرفوعة ، وموقوفة .

                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " يدخل فيه الأذان والإقامة ؛ لأن كلا منهما نداء إلى الصلاة ، صدر من المؤذن .

                                وقد اختلف العلماء : هل يشرع الإجابة في الإقامة ؟ على قولين :

                                أحدهما : أنه يشرع ذلك ، وهو قول القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابنا ، وهو ظاهر مذهب الشافعي .

                                وفي " سنن أبي داود " من رواية محمد بن ثابت العبدي : ثنا رجل من أهل الشام ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة - أو عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بلالا أخذ في الإقامة ، فلما أن قال : " قد قامت الصلاة" قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أقامها الله وأدامها " ، وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان .

                                وفي هذا [ الإسناد ] ضعف .

                                والقول الثاني : أنه لا يشرع الإجابة فيها ، إلا في كلمة الإقامة خاصة ، وهو وجه للشافعية .

                                وقد نقل المروذي عن الإمام أحمد : أنه كان إذا أخذ المؤذن في الإقامة رفع يديه ودعا .

                                وروي عنه ، أنه كان يدعو ، فإذا قال المؤذن : " لا إله إلا الله " قال : لا إله إلا الله الحق المبين .

                                [ ص: 458 ] وظاهر هذا : أن الدعاء حينئذ أفضل من الإجابة .

                                وتأوله القاضي على أنه إنما كان يدعو إذا فرغ من الإقامة .

                                وهذا مخالف لقوله : ( إذا أخذ المؤذن في الإقامة ) .

                                ولو سمع المؤذن وهو يصلي ، فهل يجيبه ، أم لا ؟

                                هذا قد ينبني على أصل ؛ وهو أن العام في الأشخاص : هل هو عام في الأحوال ، أم لا ؟ وفيه اختلاف ، قد أشرنا إليه في غير موضع .

                                ويدل على عمومه في الأحوال : إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على من دعاه فلم يجبه حتى سلم ، وقوله له : ( ألم يقل الله : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم

                                وقد اختلف العلماء في إجابة المؤذن في الصلاة على ثلاثة أقوال :

                                أحدها : أنه لا يستحب إجابته في الصلاة بحال ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن في الصلاة لشغلا ) .

                                وهذا ظاهر مذهب الشافعي .

                                وهو قول أصحابنا ، قالوا : وقد نص أحمد على أن من دخل المسجد فأذن المؤذن ، فإنه لا يصلي تحية المسجد حتى يجيب المؤذن .

                                وهذا يدل على أنه لا يجيبه في الصلاة .

                                وهو - أيضا - قول الحنفية وسحنون من المالكية .

                                الثاني : أنه يستحب أن يجيبه في الفريضة والنافلة ، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك .

                                والثالث : يستحب أن يجيبه في النفل دون الفرض ، وهو المنصوص عن مالك .

                                [ ص: 459 ] نقله عنه ابن القاسم ، وقال : يقع في نفسي أنه أريد بالحديث : وقال : " يقول مثل ما يقول " : التكبير والتشهد .

                                وكذا قال الليث ، إلا أنه قال : ويقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " إذا قال " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " .

                                وفي " تهذيب المدونة " للبرادعي المالكي : ومن سمع المؤذن فليقل كقوله ، وإن كان في نافلة ، إلى قوله : " أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله " ، وإن أتم الأذان معه فلا بأس .

                                ولعل إتمامه مختص بغير المصلي ، أو بما إذا أجابه في الحيعلة بالحوقلة ، كما قال الليث : إنه إذا أجابه بذلك لم تبطل صلاته ، فريضة كانت أو نافلة عند جمهور العلماء .

                                وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا .

                                ويخرج من قول أحمد في العاطس في الصلاة : يحمد الله في نفسه : نقله عنه جماعة .

                                ونقل صالح بن أحمد ، عن أبيه ، قال : إذا رفع صوته به يعيد الصلاة ؛ لأنه ليس من شأن الصلاة ، إلا أن لا يجهر به ، وإن قال في نفسه فلا شيء عليه .

                                وهذا يحتمل أنه أراد إذا تلفظ به بطلت صلاته .

                                وحكى الطحاوي عن أبي يوسف ، أنه لا تبطل صلاته إذا أجاب المؤذن في الصلاة بالتكبير والتشهد عند أبي يوسف ، وتبطل عند أبي حنيفة ومحمد إذا أراد به الأذان ، كما لو خاطب إنسانا في صلاته بلا إله إلا الله ، فإن صلاته عنده تفسد .

                                وهو إحدى الروايتين عن أحمد .

                                وقد فرق بينهما أصحابنا ، بأن هذا قصد خطاب آدمي ، بخلاف المجيب [ ص: 460 ] للأذان ، فإنه إنما قصد ذكر الله عز وجل .

                                وقد نقل مهنا ، عن أحمد [ فيمن ] ذكر في صلاته كيسا ذهب له ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال أحمد : يعيد صلاته .

                                وهذا يدل على أنه إذا أتى في صلاته بذكر غير مشروع فيها أنها تبطل .

                                وكذلك روى جعفر بن محمد ، عن أحمد ، في الرجل يقول قبل أن يتم الصلاة : اللهم أنت السلام ومنك السلام ؛ فليس هذا من شأن الصلاة [ . . . ] الصلاة .

                                وروى عنه أبو طالب ، أنه قال : لا بأس بذلك قبل السلام وبعده .

                                وإن أجاب المؤذن في قوله " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " ، بمثل قوله بطلت صلاته عند جمهور العلماء .

                                وقالت طائفة : لا تبطل صلاته بذلك - أيضا .

                                وحكاه ابن خويز منداد ، عن مالك ، وأنه يكون بذلك مسيئا ، وصلاته تامة . وكره أن يقول في الفريضة - مثل ما يقول المؤذن ، فإن قال ذلك في الفريضة لم تبطل أيضا ، ولكن الكراهة في الفريضة أشد .

                                وكلام صاحب " تهذيب المدونة " ظاهره موافقة ذلك ، إلا أنه قال : لا بأس .

                                وهذا يدل على أنه يكره ، إلا أن يختص ذلك بغير المصلي .

                                وقد ورد حديث يستدل به على أن الأذان والإقامة لا [ يبطلان ] الصلاة .

                                [ ص: 461 ] فروى الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن سويد بن قيس أخبره ، عن معاوية بن حديج ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوما ، فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة ، فأدركه رجل ، فقال : نسيت من الصلاة ركعة ، فرجع فدخل المسجد ، وأمر بلالا فأقام ، فصلى للناس ركعة ، فأخبرت بذلك الناس ، فقالوا لي : تعرف الرجل ؟ فقلت : لا ، إلا أن أراه . فمر بي ، فقلت : هو هذا . فقالوا : هذا طلحة بن عبيد الله .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .

                                وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " ، وعندهما : أنه سلم في ركعتين من صلاة المغرب .

                                والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

                                وسويد هذا ، وثقه النسائي وابن حبان . ومعاوية بن حديج ، أثبت البخاري وغيره له صحبة ، وأنكره الإمام أحمد في رواية الأثرم ، فيكون حديثه هذا مرسلا عنده .

                                فهذا يدل على [ أن ] إقامة الصلاة في الصلاة لا يبطلها ، وفيها الحيعلتان ، ويزيد على الأذان بقوله : " قد قامت الصلاة" - أيضا - ؛ ولهذا بنى على ما مضى من صلاته هو ومن صلى معه .

                                وهذا قد يبنى على أصول مالك وأحمد - في رواية عنه - على قوليهما : إن كلام العامد في الصلاة لمصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة . ويأتي ذكر هذا في موضع آخر - إن شاء الله .

                                وإذا قلنا : لا يجيب المؤذن في الصلاة : فهل يتابع إذا فرغ منها ؟ [ ص: 462 ] قال طائفة من الشافعية : يجيبه إذا سلم ، فإن طال الفصل ، فهو كترك سجود السهو .

                                وكذلك قال طائفة منهم في المتخلي والمجامع إذا سمع الأذان : أنه إذا فرغ تابعه .

                                وقال بعضهم : وإذا لم يتابعه حتى فرغ عمدا ، فالظاهر أنه يتدارك على القرب ، ولا يتدارك بعد طول الفصل .

                                والأفضل أن يتابعه على كل جملة عقب فراغ المؤذن منها من غير تأخر ، كما دل عليه حديث معاوية .

                                ومن زعم من المتأخرين : أنه يجوز الإجابة حتى يفرغ ثم يجيبه ، وزعم أنه لا يسمى مؤذنا حتى يفرغ من أذانه - فقد أبطل ، وقال ما خالف به الأولين والآخرين .

                                وفي تسميته مؤذنا بعد فراغ أذانه حقيقة - اختلاف أيضا ، فإنه ينقضي الفعل الذي اشتق منه الاسم ، ولو سابق المؤذن في بعض الكلمات .

                                ففي " تهذيب المدونة " للمالكية : إذا عجل قبل المؤذن بالقول فلا بأس ، والله أعلم .



                                الخدمات العلمية