الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6151 6516 - حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". [مسلم: 1393 - فتح: 11 \ 362].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              (وهو أولها ظاهر فيما ترجم له، فيها): حديث ابن أبي مليكة، أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره، أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بين يديه ركوة، أو علبة، فيها ماء -يشك عمر يعني: ابن سعيد- فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات". ثم نصب يده، فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى". حتى قبض ومالت يده.

                                                                                                                                                                                                                              الركوة: بكسر الراء، قال ابن سيده: هي شبه تور من أدم، والجمع: ركوات، وركاء. وقال الجوهري: وقولهم في المثل: صارت القوس ركوة، يضرب مثلا في الإدبار وانقلاب الأمور،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 608 ] وعند المطرزي: هي دلو صغير، وقال أبو عبيد: العلبة من الخشب، والركوة من الأدم، وقال العسكري في "تلخيصه": والعلبة: قدح الأعراب تتخذ من جلد جنب البعير، والجمع: علاب، وفي "الموعب" لابن التياني: العلبة على مثال ركوة: القدح الضخم العظيم من جلود الإبل، وعن ابن أبي ليلى: العلبة أسفلها جلد، وأعلاها خشب مدورا، لها إطار كإطار المنخل والغربال، والجمع: علب. وفي "العين": العلاب بالكسر: جفان، أو عساس تحلب فيها الناقة، وقال في "المحكم": هي كهيئة القصعة من جلد، ولها طوق من خشب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الجامع" للقزاز: العلبة من الخشب كالقدح، وعبارة ابن فارس: العلبة قدح من خشب ضخم يحلب فيه، وقال الجوهري: هي من جلد، والجمع علب، وعلاب، والمعلب: الذي يتخذ العلبة، وعبارة الداودي: هي شيء كالركوة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: "إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم". قال هشام: يعني: موتهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: ليس الأعراب جمعا لعرب كما كان الأنباط جمعا لنبط، وإنما العرب اسم جنس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 609 ] قال الداودي: والذي جاوبهم به هو من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وقال لهم ذلك; لئلا يرتابوا إذا قال لهم: لا علم لي، فإذا تمكن الإيمان معهم قبلوا ما يقال لهم.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر عليه بجنازة فقال: "مستريح ومستراح منه... " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف، (رواه عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن معبد بن كعب، عن أبي قتادة به، وليس له عن معبد غيره، ورواه مسلم، والنسائي، عن قتيبة، عن مالك، وأخرجوه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ابن حلحلة أيضا).

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "المؤمن يستريح من نصب الدنيا" يحتمل أن يريد كل مؤمن، ويحتمل أن يريد السعداء، وقوله: "والعبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب " يحتمل أن يدخل فيه مذنبو المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا مسدد، ثنا يحيى، عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن عمرو ابن حلحلة، حدثني ابن كعب بن مالك، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مستريح ومستراح منه، المؤمن يستريح".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 610 ] قال الجياني: كذا روي عن أبي زيد، وأبي ذر عن شيوخه، لم يذكر أبو ذر خلافا عنهم، وكان في نسخة الأصيلي: يحيى، عن عبد الله بن سعيد، ثم غيره إلى عبد ربه بن سعيد، كما روى أبو زيد، وهذا كله وهم، ورواه ابن السكن، عن الفربري، عن البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن عبد الله بن سعيد -وهو ابن أبي هند- عن محمد بن عمرو، وهذا هو الصواب، والحديث محفوظ عنه لا لعبد ربه.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا خرجه مسلم، والنسائي في حديث يحيى بن سعيد القطان من تأليفه.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا أخرجه ابن السكن في "مصنفه" من حديث عبد الرزاق، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي -وقال: حسن صحيح- في الزهد، والنسائي هنا، والجنائز.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 611 ] قال الداودي: المراد بالمال: ما يلقى عليه من سريره، وما يلبسه أهله، وما يخرج وراءه من رقيقه.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: "ويبقى عمله": يدخل معه القبر، فإن كان سعيدا مثل له أحسن صورة، فيؤنسه ويبشره ما كان روحه معه في قبره، فيقول: من أنت يرحمك الله؟ فيقول: عملك. وإن كان سيئا مثل له في أقبح صورة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: عملك. ويصحبه كذلك حتى يحشر.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده غدوة وعشيا، إما النار وإما الجنة، فيقال: هذا مقعدك حتى تبعث".

                                                                                                                                                                                                                              (هذا الحديث سلف في الجنائز.

                                                                                                                                                                                                                              وهو) ضرب من العذاب كبير، كما كان يمثل في الدنيا بمن عرض عليه القتل، أو غيره من التهديد من غير أن يرى الآلة، قال تعالى في حق الكافرين: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [غافر: 46]، فأخبر تعالى بعرضهم، كما كان أهل السعادة يعرضون على الجنة، قيل: ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله نجاته من النار، وأما من أنفذ الله عليه وعيده من المخلطين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فله مقعدان يراهما جميعا، كما أن يري عمله شخصين في وقتين، أو في وقت واحد قبيحا وحسنا، وقد

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 612 ] يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان، وقيل: إنما هذا العرض إنما هو على الروح وحده، ويجوز أن يكون مع جزء من البدن، ويجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد، فترد إليه الروح، كما ترد عند المسألة حتى يقعده الملكان، ويقال له: انظر إلى مقعدك من النار، وقد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، وكيفما كان، فإن العذاب محسوس، والألم موجود، والأمر شديد، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا في النائم; فإن روحه تتنعم، أو تعذب، والجسد لا يحيى بشيء من ذلك، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار كل يوم مرتين يقال لهم: هذه داركم، فذلك قوله: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [غافر: 46] عنه أيضا: أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدوا على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها.

                                                                                                                                                                                                                              وقد قيل: إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم في حواصل طير سود.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              "عرض عليه مقعده غدوة وعشيا" كذا هنا، وفي حديث كعب: إنما يشبهه المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده يوم القيامة، وليس باختلاف يعلق في شجر الجنة سائر الأوقات، ويعرض عليها مقعدها غدوة وعشيا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 613 ] الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا".

                                                                                                                                                                                                                              أي: بلغوه، ووصلوا إليه مشافهة، ومنه: أفضى إلى سره، وأفضى إلى امرأته: أي: باشرها. وقد سلف الكلام عليه في الجنائز.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية