الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1 1 - حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". [54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953 مسلم 1907 - فتح: 1 \ 9].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري رحمه الله:

                                                                                                                                                                                                                              ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 119 ] هذا حديث حفيل جليل، وقبل الخوض في الكلام عليه ننبه على خمسة أمور مهمة:

                                                                                                                                                                                                                              أولها: وجه تعلق هذا الحديث بالآية أن الله تعالى أوحى إلى نبينا وإلى جميع الأنبياء أن الأعمال بالنيات، والحجة له قوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5]، وقوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك [الشورى: 13]، والإخلاص: النية، قال أبو العالية: وصاهم بالإخلاص في عبادته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد: أوصيناك به والأنبياء دينا واحدا، والمعنى: شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع المشترك بينهم، فقال: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [الشورى: 13].

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: إن قلت: ما وجه تعلق هذا الحديث أيضا بالترجمة والتبويب؟ قلت: عنه أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أنه -عليه السلام- خطب بهذا الحديث لما قدم المدينة حين وصل إلى دار الهجرة، وذلك كان بدء ظهوره ونصره واستعلائه، فالأول: مبدأ [ ص: 120 ] النبوة والرسالة والاصطفاء وهو قوله: باب بدء الوحي، والثاني: بدء النصر والظهور، ويؤيده أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة، فشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوه أن يغتالوا من مكنهم منهم ويغدروا به، فنزلت: إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور [الحج: 38]، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالصبر إلى أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [الحج: 39] الآية، فأباح الله قتالهم، فكان إباحة القتال مع الهجرة التي هي سبب النصر والغلبة وظهور الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنه لما كان الحديث مشتملا على الهجرة وكانت مقدمة النبوة في حقه - صلى الله عليه وسلم - هجرته إلى الله تعالى، وإلى الخلو بمناجاته في غار حراء، فهجرته إليه كانت ابتداء فضله باصطفائه ونزول الوحي إليه مع التأييد الإلهي والتوفيق الرباني.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أنه إنما أتى به على قصد الخطبة والترجمة للكتاب كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: لم لم يبتدئ في أول "صحيحه" بالحمد، وهو أمر مهم، [ ص: 121 ] له بال عظيم، وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه - عبد الله أو عبد الرحمن بن صخر أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" رواه أبو داود والنسائي في "سننهما"، كذلك، وابن ماجه في "سننه" بلفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع".

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الحافظ عبد القادر الرهاوي فى "أربعينه" بلفظ: "بذكر الله وببسم الله الرحمن الرحيم".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 122 ] ورواه أبو عوانة وأبو حاتم ابن حبان في صحيحيهما.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الصلاح: ورجاله رجال الصحيحين سوى قرة بن عبد الرحمن، فإنه ممن انفرد مسلم عن البخاري بالتخريج له. قال: حديث حسن.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: بل صحيح كما أسلفناه عن ذينك الإمامين، وقد تابع سعيد [ ص: 123 ] ابن عبد العزيز قرة، كما أخرجه النسائي فلم ينفرد به إذا، فلا يلتفت إلى تضعيف ابن الصباغ -من أصحابنا- في "شامله" ولا إلى القاضي الحسين ; حيث نقل ذلك عن الأصحاب، ولا إلى كونه روي مرة [ ص: 124 ] مرسلا ; لأن الحكم للاتصال عند الجمهور; لأنها زيادة من ثقة فقبلت.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: عنه سبعة أجوبة:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أن هذا الحديث ليس على شرطه في قرة السالف.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: على تقدير تسليم صحته على شرطه أن المراد بالحمد الذكر لأمرين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنه قد روي "بذكر الله" بدل "حمد الله" كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما: تعذر استعماله; لأن التحميد إن قدم على التسمية خولف فيه العادة، وإن ذكر بعدها لم يقع به البداءة، فثبت بهذين الأمرين أن المراد به الذكر، وقد بدأ به لإتيانه بالبسملة أولا، فالحمد: الثناء على الله تعالى، وقد أثنى البخاري عليه بإتيانه بالتسمية أولا، وهي من أبلغ الثناء، ولأنها أفضل آي القرآن -كما قاله الروياني في [ ص: 125 ] "البحر"- وقد أسلفنا في رواية بالبسملة بدل الحمد; وأيضا فكتابه العزيز مفتتح بها، وكتب رسوله عليه أفضل الصلوات والسلام مبتدأة بها; فلذلك تأسى البخاري بها.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: وهو قريب مما قبله، أن بعض الذكر يقوم مقام البعض كما قاله - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله تعالى: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" فكذلك التسمية هنا تقوم مقامه، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث، قيل لسفيان: هذا ثناء وليس بدعاء فأنشد:


                                                                                                                                                                                                                              إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 126 ] رابعها: أن الذي اقتضاه لفظ الحمد أن يحمد لا أن يكتبه، والظاهر أنه حمد بلسانه.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: أن الأمر به محمول على ابتداءات الخطب دون غيرها، زجرا عما كانت الجاهلية عليه من تقديم الشعر المنظوم والكلام المنثور، وإنما كان ذلك لثلاثة أمور:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: ما روي أن أعرابيا خطب فترك التحميد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي بال" إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أن أول ما نزل من القرآن: اقرأ [العلق: 1] وقيل: يا أيها المدثر [المدثر: 1]. وليس في ابتدائهما حمد الله، فلم يجز أن يأمر الشارع بما كتاب الله على خلافه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن خبر الشارع لا يجوز أن يكون خلاف مخبره وقد قال: "فهو أجذم" وروي "أبتر". و"صحيح البخاري" أصح المصنفات وأنفع المؤلفات، فعلم بهذه الأمور أنه محمول على الخطب دون غيرها من المصنفات والكتب.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: أن هذا الحديث منسوخ بأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صالح قريشا عام [ ص: 127 ] الحديبية كتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو" فلولا نسخه لما تركه، وهذا بعيد، وأي دليل دلنا على النسخ فقد يكون الترك لبيان الجواز.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: إنما تركه؛ لأنه راعى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات: 1]. فلم يقدم بين يدي الله ولا رسوله شيئا، وابتدأ بكلام رسوله عوضا عن كلام نفسه، وانضم إلى ذلك ما سلف أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب به عند قدومه المدينة، وخطب به عمر أيضا، فجعله البخاري خطبة لكتابه.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: فقد قدم الترجمة فالجواب: أنها وإن تقدمت لفظا فهي كالمتأخرة تقديرا; لتقدم الدليل على مدلوله وضعا وفي حكم التبع، وبهذا يندفع سؤال آخر وهو: لم قدم السند على المتن؟ الأمر الثالث: إن قلت: لم لم يبتدئ البخاري -رحمه الله- بخطبة في أول "صحيحه" كما فعله مسلم رحمه الله؟ قلت: لأنه خطب بالحديث للتأسي كما سلف، ونعم السلف.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: سألني بعض الفضلاء في الدرس عن السر في ابتداء البخاري بهذا الحديث مختصرا كما سلف عند إيراده، (ولم لم يذكره) [ ص: 128 ] مطولا كما ذكره في غيره من الأبواب؟ فأجبته في الحال بأن عمر قاله على المنبر وخطب به، فأراد التأسي به، لكن البخاري ذكره أيضا مطولا في ترك الحيل، وفيه: أنه خطب به أيضا كما ستعلمه، وقد قال بعضهم: إن في الحديث ما يقوم مقام الترجمة من إعلام الناظر في كتابه أنه إنما قصد تأليفه وجمعه وجه الله تعالى، وتوصيته له أن يحذو حذوه ويفرغ جهده في طلب الإخلاص فيه، يحصل الفوز والخلاص. وقد قال ابن مهدي الحافظ: من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث. وقال: لو صنفت كتابا لبدأت في كل باب منه بهذا الحديث، وقال الخطابي نقلا عن الأئمة: ينبغي لمن صنف كتابا أن يبتدئ بهذا الحديث; تنبيها للطالب على تصحيح النية، ولعموم الحاجة إليه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 129 ] الخامس: بدأ البخاري -رحمه الله- بإخلاص القصد، وختمه بالتسبيح حيث أورد في آخره حديث: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" إلى آخره; لأن به تتعطر المجالس وهو كفارة لما قد يقع من الجالس، والله تعالى يهدينا إلى صراطه القويم، ويعيذنا من الشيطان الرجيم.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقررت هذه الأمور فلنرجع إلى الكلام على الحديث، وهو من ثلاثة وأربعين وجها:

                                                                                                                                                                                                                              أولها: في تعداد المواضع التي خرجه البخاري فيها:

                                                                                                                                                                                                                              ونحن نسلك -إن شاء الله تعالى- هذا الأسلوب، نذكر في أول موضع ذكر فيه الحديث جميع طرقه إذا كان مكررا; ليحال ما يقع بعد ذلك عليه. فنقول: ذكره البخاري هنا مختصرا وهو مشهور بالطول، وساقه عنه الداودي بالسند المذكور مطولا في أول "شرحه" ولم أر ذلك في نسخه، فتنبه له. قال الخطابي: ولست أشك في أن ذلك لم يقع من جهة الحميدي، فقد رواه لنا الأثبات من طريقه مطولا، قلت: وقد ذكره في ستة مواضع أخرى من "صحيحه" عن ستة شيوخ أخرى أيضا:

                                                                                                                                                                                                                              أولها: في الإيمان، في باب: ما جاء أن الأعمال بالنية، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 130 ] "الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

                                                                                                                                                                                                                              وهذه الزيادة وهي: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" أنسب بهذا الموضع، وإن كان يقال: إنه استغنى عنها هنا بقوله: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" كأنه يفهم أن كل من هاجر إلى شيء فهجرته إليه، من شأنه العدول إلى الاستدلال الخفي مع الإمكان بالظاهر الجلي.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في العتق، في باب: الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، ثنا يحيى بن سعيد، عن محمد، عن علقمة قال: سمعت عمر يقول: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأعمال بالنية، ولامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته.. "، الحديث بمثل اللفظ الذي قبله.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: في باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسدد، ثنا حماد بن زيد، عن يحيى، عن محمد، عن علقمة: سمعت عمر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الأعمال بالنية، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله".

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في النكاح، في باب: من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى، عن يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن علقمة، عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 131 ] "العمل بالنية، وإنما لامرئ ما نوى.. " الحديث بلفظه في الإيمان، إلا أنه قال: "ينكحها" بدل "يتزوجها".

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: في الأيمان والنذور، في باب: النية في الأيمان، عن قتيبة بن سعيد، ثنا عبد الوهاب: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمد بن إبراهيم أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها (فهجرته) إلى ما هاجر إليه".

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: في ترك الحيل، في باب: في ترك الحيل وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيره، عن أبي النعمان محمد بن الفضل، ثنا حماد بن زيد، عن يحيى، عن محمد، عن علقمة قال: سمعت عمر يخطب قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم في "صحيحه" في آخر كتاب الجهاد، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك بلفظ: "إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى" [ ص: 132 ] الحديث مطولا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه أيضا عن محمد بن رمح بن المهاجر، عن الليث، وعن أبي الربيع العتكي، عن حماد بن زيد، وعن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي خالد الأحمر، وعن ابن نمير، عن حفص بن عتاب، ويزيد بن هارون، وعن محمد بن العلاء، عن ابن المبارك، وعن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، كلهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد، عن علقمة، عن عمر، وفي حديث سفيان: سمعت عمر على المنبر يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه أبو داود في الطلاق عن محمد بن كثير، عن سفيان.

                                                                                                                                                                                                                              والترمذي في الحدود عن ابن المثنى، عن الثقفي.

                                                                                                                                                                                                                              والنسائي عن يحيى بن حبيب، عن حماد بن زيد، وعن سليمان بن منصور عن ابن المبارك، وعن إسحاق بن إبراهيم عن أبي خالد الأحمر، وعن عمرو بن منصور، عن القعنبي، وعن الحارث عن ابن القاسم جميعا عن مالك ذكره في أربعة أبواب من "سننه" : الأيمان، والطهارة، والرقاق، والطلاق، ورواه ابن ماجه في الزهد من [ ص: 133 ] "سننه" عن أبي بكر عن يزيد بن هارون، وعن ابن رمح، عن الليث، كل هؤلاء عن يحيى، عن محمد، عن علقمة، عن عمر به.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه مع هؤلاء الستة -أعني: البخاري، ومسلما، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه- الإمام الشافعي في "مختصر البويطي" والإمام أحمد في "مسنده"، والدارقطني، والبيهقي، وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" المسمى بـ"التقاسيم والأنواع"، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى الإمام مالك فإنه لم يخرجه في "موطئه". نعم رواه (خارجه)، كما علمته من طرق هؤلاء الأئمة، وقد أخرجه من حديثه الشيخان -كما سلف- ووهم ابن دحية الحافظ في "إملائه" فقال على هذا الحديث: أخرجه مالك في "الموطأ" ورواه الشافعي عنه، وهذا عجيب منه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 134 ] الوجه الثاني :

                                                                                                                                                                                                                              تحصل لنا من هذه الطرق أربعة ألفاظ واقعة في الحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، "الأعمال بالنية"، "العمل بالنية" وادعى النووي في "تلخيصه" قلتها، رابعها: "إنما الأعمال بالنية"، وأورده القضاعي في "الشهاب" بلفظ خامس وهو: "الأعمال بالنيات" بحذف (إنما) وجمع الأعمال والنيات، فقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: لا يصح إسنادها. وأقره النووي على ذلك في "تلخيصه" وغيره، وهو غريب منهما، فهي رواية صحيحة أخرجها إمامان حافظان، وحكما بصحتها:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أبو حاتم بن حبان، فإنه أورده في "صحيحه" عن علي بن محمد القباني، ثنا عبد الله بن هاشم الطوسي، ثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد، عن علقمة عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيات.. " الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما: شيخه الحاكم أبو عبد الله، فإنه أورده في كتابه "الأربعين في شعار أهل الحديث" عن أبي بكر ابن خزيمة، ثنا القعنبي، ثنا مالك، عن يحيى بن سعيد به سواء ثم حكم بصحته، وأورده ابن الجارود في "المنتقى" بلفظ سادس عن ابن المقرئ، ثنا سفيان، عن يحيى: "إن الأعمال بالنية، وإن لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى دنيا.. " [ ص: 135 ] الحديث، وأورده الرافعي في "شرحه الكبير" بلفظ آخر غريب وهو: "ليس للمرء من عمله إلا ما نواه". ولم أقف على من خرجه بهذا اللفظ بعد شدة البحث عنه. وفي البيهقي من حديث أنس مرفوعا: "إنه لا عمل لمن لا نية له" وهو بمعناه، لكن في إسناده جهالة.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث: في التعريف برواته:

                                                                                                                                                                                                                              أما راويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أمير المؤمنين أبو حفص -والحفص في اللغة: الأسد - وأول من كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كما رواه ابن الجوزي عنه، عمر -وهو اسم معدول عن عامر ولا ينصرف للعدل والتعريف- ابن الخطاب -وهو فعال من الخطبة بالضم والكسر- ابن نفيل -بضم أوله- ابن عبد العزى بن رياح -براء مكسورة ثم مثناة تحت، وأبعد من أبدلها بموحدة -ابن عبد الله بن قرط -بضم القاف ثم راء وطاء مهملتين -ابن رزاح -بفتح الراء والزاي.

                                                                                                                                                                                                                              قال شيخنا قطب الدين في "شرحه": ومن عداه بكسر أوله، ولم [ ص: 136 ] أر من صنف في المؤتلف والمختلف ذكر ذلك بترجمته فاعلمه- ابن عدي -أخي مرة وهصيص- ابن كعب بن لؤي -بالهمز وتركه - ابن غالب الفهري العدوي القرشي، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي الأب الثامن.

                                                                                                                                                                                                                              واتفقوا على تسميته بالفاروق; لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه وظهور ذلك; ولأن الشيطان يفر منه، فقيل: سماه الله بذلك. روته عائشة، وإسناده ضعيف كما قال ابن دحية.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن شهاب: سماه بذلك أهل الكتاب. ذكره الطبري، وقيل: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه ثلاثة أقوال.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 137 ] وهو أول من سمي أمير المؤمنين عموما، وسمي به قبله خصوصا عبد الله بن جحش على سرية في اثني عشر رجلا، وقيل: ثمانية، وقد كان مسيلمة الكذاب يسمى بذلك أيضا كما سيأتي في "الصحيح" في قصة قتله إن شاء الله. وأمه حنتمة -بحاء مهملة مفتوحة ثم نون ثم مثناة فوق- بنت هاشم - يعرف بذي الرمحين -بن المغيرة بن عبد الله بن عمر، أخي عامر وعمران ابني مخزوم بن نقطة بن (مرة) بن كعب المخزومي، قال أبو عمرو: من قال: حنتمة بنت (هشام) فقد أخطأ، ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام، وإنما هي ابنة عمهما، وقد وقع في هذا الخطأ ابن قتيبة في "معارفه"، وقبله ابن منده في "المعرفة" وقال: هي أخت أبي جهل، وهو وهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: الصحيح أنها بنت هاشم وقيل: بنت هشام، فمن قال: هشام فهي أخت أبي جهل، ومن قال: بنت هاشم فهي ابنة عم أبي جهل، وهاشم، وهشام، ومهشم، والوليد، وأبو أمية حذيفة، والفاكه، ونوفل، وأبو ربيعة عمرو، وعبد الله، وتيم، وعبد شمس، كل هؤلاء أولاد المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو - يعني: المغيرة- بيت بني مخزوم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 138 ] ولد بتبالة بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وقال عن نفسه: ولدت قبل الفجار الأعظم بأربع سنين. وإليه كانت السفارة في الجاهلية، وأسلم بعد ست من النبوة، وقيل: خمس، بعد أن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بعد أربعين رجلا، وقيل: ثلاثة عشر وإحدى عشرة امرأة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي: لا خلاف أنه أسلم سنة ست من النبوة بعد أربعين، قال: ولما أسلم نزل جبريل -عليه السلام- فقال: استبشر أهل السماء بإسلامه، وقيل: إنه أسلم بعد أربع من النبوة وهاجر فهو من المهاجرين الأولين. وكان إسلامه عزا ظهر به الإسلام بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم - وسيأتي في الصحيح إن شاء الله: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" قال ابن مسعود: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمامته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا، وشهد بدرا والمشاهد كلها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 139 ] بويع له بالخلافة يوم موت الصديق، وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بوصاية الصديق إليه، فسار بأحسن سيرة، وزين الإسلام بعدله، وفتح الله به الفتوح الكبيرة كبيت المقدس وجميع الشام، ودون الدواوين في العطاء ورتب الناس فيه، وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وهو أول من ضرب بالدرة وحملها، ومصر الأمصار، وكسر الأكاسرة، وقصر القياصرة، وأخر المقام إلى موضعه الآن وكان ملصقا بالبيت، ونور المساجد لصلاة التراويح، وأول من أرخ التاريخ من الهجرة، وأول قاض في الإسلام، ولاه الصديق القضاء، وأول من جمع القرآن في المصحف، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الصديق، حج بالناس عشر سنين متوالية، وحج في إحداهن بأمهات المؤمنين. وزهده ومناقبه جمة مشهورة في "الصحيح" وغيره، وستقف على قطعة صالحة منها حيث ذكره البخاري -إن شاء الله- في كتاب المناقب.

                                                                                                                                                                                                                              وكان طوالا جدا جسيما، كث اللحية، خفيف العارضين، أصلع شديد الصلع، أعسر يسرا -أي: قوة يديه سواء- وكان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه -أي: أطرافه- ويثبت، فكأنما خلق على ظهر فرسه، وكان يخضب بالحناء والكتم بحتا، وكان شديد حمرة العينين. وكان أبيض يعلوه حمرة، وقيل: أبيض أمهق وقيل: آدم. ونقله ابن عبد البر عن الأكثرين، وأنكره الواقدي والجمهور، وقالوا: إنما كان أبيض. قالوا: ولعله صار في لونه سمرة [ ص: 140 ] عام الرمادة لتخشنه، وكان من محدثي هذه الأمة. وسيأتي أنه وافق ربه في عدة مواضع إن شاء الله، وفي "الصحيح" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".

                                                                                                                                                                                                                              وشهد له بالشهادة، والجنة وسماه سراج أهل الجنة، وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه.

                                                                                                                                                                                                                              روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا، اتفق البخاري ومسلم على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بأحد وعشرين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة [ ص: 141 ] وغيرهم. روى عنه نحو خمسين صحابيا منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وخلائق من التابعين.

                                                                                                                                                                                                                              ولي الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر أو ستة أشهر قولان، واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو لثلاث أو لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وقال الفلاس وابن نمير: سنة أربع وهو ابن ثلاث وستين على الصحيح كسن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسن الصديق. وقيل: ابن ستين، قال الواقدي: وهو أثبت الأقاويل عندنا، وقيل: ابن إحدى وستين، وقيل: ابن اثنتين وخمسين، وقيل: ابن أربع، وقيل: ابن خمس، وقيل: ست، وقيل: سبع وخمسين حكاهن الصريفيني، فهذه ثمانية أقوال في سنه.

                                                                                                                                                                                                                              وغسله ابنه الزاهد أبو عبد الرحمن عبد الله الأكبر، أفضل أولاده الذكور العشرة، وعاصم -أمه جميلة بنت عاصم- وعبيد الله قتل بصفين مع معاوية، وعبد الله الأصغر، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط، وعياض، وزيد الأكبر -أمه أم كلثوم بنت علي- وزيد الأصغر، والعقب من الثلاثة الأولى الذكور، وكان له من الإناث حفصة وزينب، وكفنه عبد الله أيضا في ثوبين سحوليين، وصلى عليه صهيب بن سنان الرومي، ودفن في الحجرة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                              قتله أبو لؤلؤة غلام نصراني، وقيل: مجوسي للمغيرة بن شعبة، وهو في صلاة الصبح، طعنه ثلاث طعنات بسكين مسموم ذات طرفين فقال: قتلني -أو أكلني الكلب- وطعن معه ثلاثة عشر رجلا، فمات منهم تسعة، وفي رواية سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، فصار إلى لعنة الله وغضبه، ثم [ ص: 142 ] حمل عمر إلى منزله، وبقي ثلاثة أيام وقيل: سبعة، ومات- رضي الله عنه - وعنا - به وكان وافر العلم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن مسعود حين توفي عمر: ذهب تسعة أعشار العلم. ومن زهده وتواضعه أنه كان في قميصه أربع عشرة رقعة إحداها من أدم.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الصحابة من اسمه عمر بن الخطاب غيره، فهو من الأفراد -أحد أنواع علوم الحديث- وفي الصحابة عمر ثلاثة وعشرون نفسا على خلاف في بعضهم، وربما يلتبس بعمرو بزيادة واو في آخره، وهم خلق فوق المائتين بزيادة أربعة وعشرين على خلاف في بعضهم رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              في الرواة عمر بن الخطاب غير هذا الإمام ستة:

                                                                                                                                                                                                                              (أحدهم) : كوفي روى عن خالد بن عبد الله الواسطي.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهم: راسبي روى (عن سويد أبي حاتم).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 143 ] ثالثهم: سكندري روى عن ضمام بن إسماعيل.

                                                                                                                                                                                                                              رابعهم: عنبري روى عن أبيه، عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

                                                                                                                                                                                                                              خامسهم: سجستاني روى عن محمد بن يوسف الفريابي.

                                                                                                                                                                                                                              سادسهم: سدوسي بصري روى عن معتمر بن سليمان.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثالثة:

                                                                                                                                                                                                                              عمر هذا ثاني العشرة، وهاك سرد وفاتهم على سبيل الاختصار لتستحضره فإنه مهم: الصديق مات سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وأبو عبيدة سنة ثمان عشرة، وعمر سنة ثلاث وعشرين كما سلف مع الخلاف فيه، وعثمان سنة خمس وثلاثين، وطلحة والزبير بعده بسنة، وابن عوف سنة اثنتين وثلاثين، وعلي سنة أربعين، وسعد بن أبي وقاص سنة خمس وخمسين على الأصح، وهو آخرهم موتا (....) خمسين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 144 ] وأما راويه عن عمر فهو أبو واقد -بالقاف- علقمة بن وقاص الليثي، نسبة إلى ليث بن بكر المدني العتواري، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكره الواقدي.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن منده أنه شهد الخندق، وكان في الوفد الذين قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن عمر، وعائشة، ومعاوية، وغيرهم، وعنه ابناه عمر، وعبد الله، والزهري، ومحمد بن إبراهيم التيمي وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              وروى له مع البخاري مسلم وباقي الستة، ذكره ابن منده، وأبو عمر في الصحابة، والجمهور في التابعين، كما نبه عليه النووي في "إملائه" على هذا الحديث. وليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث وحديث الإفك عن عائشة، كما نبه عليه شيخنا قطب الدين في "شرحه".

                                                                                                                                                                                                                              مات بالمدينة في خلافة عبد الملك بن مروان، قاله الواقدي.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الكتب الستة من اسمه علقمة بن وقاص غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وأما راويه عن علقمة فهو أبو عبد الله محمد (ع) بن إبراهيم بن الحارث، وكان -أعني: الحارث - من المهاجرين الأولين، وهو [ ص: 145 ] ابن عم الصديق ابن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي المدني التابعي.

                                                                                                                                                                                                                              سمع ابن عمر، وأنسا، وغيرهما من الصحابة، وعنه ابنه موسى المحدث الفقيه، والزهري، وخلق.

                                                                                                                                                                                                                              ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة، وقال: أمه حفصة بنت أبي يحيى واسمه عمير، وكان من قدماء موالي بني تيم. قال: وكان ثقة، كثير الحديث، وقال يحيى بن معين: ثقة، وكذا وثقه النسائي وأبو حاتم وابن خراش، وأخرج له مسلم أيضا في "صحيحه" مع باقي الستة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أحمد فقال فيما نقله العقيلي عن عبد الله بن أحمد عنه: في حديثه شيء، روى أحاديث مناكير.

                                                                                                                                                                                                                              مات سنة عشرين ومائة، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة تسع عشرة، وهو ابن أربع وسبعين.

                                                                                                                                                                                                                              وأما راويه عن محمد فهو الإمام أبو سعيد يحيى (ع) بن سعيد بن قيس بن عمرو، وقيل: قهد بن سهل بن ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن الخزرج الأكبر الأنصاري النجاري -بالنون والجيم- المدني قاضيها، وأقدمه [ ص: 146 ] المنصور العراق، وولاه القضاء بالهاشمية ومات بها، وقيل: إنه ولي قضاء بغداد ولم يصح. وهو تابعي صغير.

                                                                                                                                                                                                                              سمع أنسا والسائب بن يزيد وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              وعنه جماعة من التابعين منهم: هشام بن عروة، وحميد الطويل وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              واتفقوا على جلالته وعدالته وحفظه وإتقانه وورعه، وقال أحمد في حقه: إنه أثبت الناس. وقال أبو حاتم: هو يوازي الزهري. وقال أيوب: ما تركت بالمدينة أفقه منه. وقال ابن حبان: كان خفيف الحال، فلما استقضاه أبو جعفر ارتفع شأنه ولم يتغير حاله، فقيل له في ذلك، فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال. مات سنة أربع، وقيل: ثلاث، وقيل: ست وأربعين ومائة. روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في الرواة يحيى بن سعيد جماعة في "الصحيح"، لكن لا التباس لهم بهذا. يحيى (ع) بن سعيد بن أبان الأموي الحافظ، يحيى (ع) بن سعيد بن حيان أبو حيان التيمي الإمام، يحيى (حم) بن سعيد بن العاص الأموي تابعي، يحيى (عم) بن سعيد بن فروخ [ ص: 147 ] القطان التميمي الحافظ أحد الأعلام. ولهم يحيى بن سعيد العطار- براء في آخره- واه فاعلمه. وجملة من اسمه يحيى بن سعيد في الحديث ستة عشر كما بينهم الخطيب في "المتفق والمفترق".

                                                                                                                                                                                                                              فائدة أخرى: النجار الذي سلف في نسب يحيى بن سعيد لقب، واسمه تيم اللات، سمي النجار; لأنه اختتن بالقدوم وقيل: ضرب وجه رجل به فنجره، أي: نحته.

                                                                                                                                                                                                                              وأما راويه عن يحيى بن سعيد فهو الإمام العلامة أبو محمد سفيان (ع) -بضم السين على المشهور، وحكي كسرها وفتحها أيضا- ابن عيينة:- بضم العين، وحكى النووي في "إملائه" [...]، كسرها- ابن أبي عمران الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي. واسم أبي عمران: ميمون، مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك، وقال الواقدي: مولى بني عبد الله بن رؤيبة من بني هلال بن عامر، وكان بنو عيينة عشرة خزازين، حدث منهم خمسة: محمد وإبراهيم وسفيان وآدم وعمران، وأجلهم وأشهرهم سفيان هذا، وهو من تابعي التابعين، سكن مكة، ومات بها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 148 ] وسمع جماعات من التابعين منهم: الزهري.

                                                                                                                                                                                                                              وعنه: مسعر وخلق، وروى الثوري عن يحيى القطان عنه، وهو من الطرف.

                                                                                                                                                                                                                              وكان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع والدين، ومن العلماء بكلام رب العالمين وسند سيد المرسلين، قرأ القرآن وهو ابن أربع، وكتب الحديث وهو ابن سبع، ولما بلغ خمس عشرة قال له أبوه: يا بني، قد انقطعت عنك شرائع الصبى فاختلط بالخير تكن من أهله، واعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم فأطعهم واخدمهم تقتبس من علمهم. قال: فجعلت لا أعدل عن وصية أبي. وكان كثير التلاوة والحج، حج نيفا وسبعين حجة كما قال ابن حبان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن بن عمران بن عيينة: إن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل مرة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وقد استحييت من الله -عز وجل- من كثرة ما أسأله. فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، ودفن بالحجون، وكان مولده سنة سبع ومائة. روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              ومناقبه جمة، ومنها ما حكاه أبو يوسف الغسولي، عنه قال: دخلت [ ص: 149 ] عليه وبين يديه قرصان من شعير فقال: يا أبا يوسف، إنهما طعامي منذ أربعين سنة. وكان ينشد:


                                                                                                                                                                                                                              خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

                                                                                                                                                                                                                              قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. وقال أبو حاتم هما أثبت أصحاب الزهري. وقال الشافعي أيضا: ما رأيت أحدا فيه آلة العلم ما في سفيان، وما رأيت أحدا أحسن لتفسير الحديث منه ولا أكف عن الفتيا منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن وهب: ما رأيت أعلم بكتاب الله منه. وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى أحمد بن النضر الهلالي قال: سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي دخل المجلس، فكان أهل المجلس تهاونوا به لصغره، فقال سفيان: كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [النساء: 94].

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال لي: يا نضر، لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، [ ص: 150 ] مثل: الزهري، وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قال: أوسعوا للشيخ الصغير. قال: ثم تبسم ابن عيينة وضحك.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              سفيان هذا أحد مشايخ الشافعي، ومن ينتهي إليه سلسلة أصحابنا في الفقه، ومنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا. وقيل عن الشافعي: إنه مات في غشية له. فقال: إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما راويه عن سفيان فهو: الإمام أبو بكر عبد الله (ع) بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد -بضم الحاء- الحميدي القرشي الأسدي المكي الثقة، رئيس أصحاب ابن عيينة وأثبتهم. جالسه عشرين سنة، ومن الفضلاء الآخذين عن الشافعي وأحد رفقائه في الرحلة.

                                                                                                                                                                                                                              وهو أول من حدث عنه البخاري في "صحيحه"، وروى مسلم في مقدمة "صحيحه" عن سلمة بن شبيب عنه، وروى أبو داود والنسائي عن رجل عنه، والترمذي وابن ماجه في التفسير. مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين وقيل: سنة عشرين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 151 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في الكتب الستة عبد الله بن الزبير ثلاثة هذا أحدهم، وثانيهم الصحابي، وثالثهم البصري : روى له ابن ماجه، والترمذي في "الشمائل".

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحابة أيضا عبد الله بن الزبير بن [عبد] المطلب بن هاشم، وليس لهما ثالث في الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 152 ] فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              الحميدي هذا -بضم الحاء وفتح الميم- قال السمعاني: وهي نسبة إلى حميد؛ بطن من أسد بن عبد العزى بن قصي، وقال النووي في "إملائه": هو نسبة إلى جده حميد المذكور وهو ما ذكر ابن طاهر في (...)، وقال السمعاني: سمعت شيخي أبا القاسم إسماعيل بن محمد الحافظ يقول: هو منسوب إلى الحميدات وهي قبيلة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثالثة:

                                                                                                                                                                                                                              الحميدي هذا قد يشتبه بالحميدي المتأخر صاحب "الجمع بين الصحيحين" وهو العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد بن يصل -بمثناة تحت ثم صاد مهملة مكسورة ثم لام- الأندلسي، الإمام (ذو) التصانيف في فنون، سمع الخطيب وطبقته، وبالأندلس ابن حزم وغيره، وعنه الخطيب، وابن ماكولا، وخلق، وكان ثقة صالحا إماما حافظا متقنا، متفقا على جلالته وإمامته، سكن ببغداد مدة، ومات بها سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، قال السمعاني: والحميدي هذا نسبة إلى جده حميد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 153 ] فائدة رابعة:

                                                                                                                                                                                                                              الحميدي -بالضم- يشتبه بالحميدي -بالفتح وكسر الميم- نسبة لإسحاق بن تكينك الحميدي، مولى الأمير الحميد الساماني، سمع من أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سلم وغيره، نبه عليه السمعاني. قلت: وأبو بكر عتيق بن علي الصنهاجي الحميدي -بالفتح أيضا- ارتحل وسمع من نصر الله القزاز وتفقه، وله ديوان شعر، ثم ولي قضاء عدن، ومات باليمن، وذكر ابن ماكولا مع الحميدي -بالضم- الجنيدي، وقال: يروي عنه ابن عدي ولا يلبس، وما ذكرناه من الضم مع الفتح أولى، وكذا سقته في مختصري في المؤتلف والمختلف.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث على شرط مسلم أيضا من هذا الوجه، فإنه أخرج لرجاله كلهم في "صحيحه" فتنبه له.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع: في لطائف إسناده:

                                                                                                                                                                                                                              من لطائفه أن رجال إسناده ما بين مكي ومدني، فالأولان مكيان والباقون مدنيون.

                                                                                                                                                                                                                              ومن لطائفه رواية تابعي عن تابعي وهما يحيى ومحمد التيمي، وهذا كثير، وإن شئت قلت: فيه ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض بزيادة علقمة، على قول الجمهور كما سلف أنه تابعي لا صحابي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 154 ] ومن لطائفه أيضا: رواية صحابي عن صحابي على قول من عده صحابيا، ويقع أيضا رواية أربعة من التابعين بعضهم عن بعض، ورواية أربعة من الصحابة بعضهم عن بعض أيضا، وقد أفرد الحافظ أبو موسى الأصبهاني جزءا لرباعي الصحابة وخماسيهم، وقد لخصته بحذف أسانيده، وسيأتي لك بعضه عند التوغل في هذا الشرح في أمس المواضع به إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الغريب العزيز رواية ستة من التابعين بعضهم عن بعض، وقد أفرده الخطيب البغدادي بجزء، وجمع اختلاف طرقه، وهو حديث (منصور) بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن قل هو الله أحد [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 155 ] قال يعقوب بن شيبة: وهذا أطول إسناد روي. قال الخطيب: والأمر كما قال، قال: وقد روي هذا الحديث أيضا من طريق سبعة من التابعين، ثم ساقه من حديث أبي إسحاق الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن هلال، عن عمرو، عن الربيع، عن عبد الرحمن، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الخامس: في بيان الأنساب الواقعة فيه:

                                                                                                                                                                                                                              وقع فيه الحميدي والأنصاري والليثي والتيمي، أما الأول: فقد سلف بيانه، وأما الثاني: فنسبته إلى الأنصار، واحدهم نصير كشريف وأشراف، وبه جزم النووي، وقيل: ناصر كصاحب وأصحاب وهم قبيلتان: الأوس، والخزرج ابنا حارثة -بالحاء المهملة- بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن قيس بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عامر بن صالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. وقحطان أصل العرب -أعني: عرب اليمن- واسم قحطان: يقطن وقيل: يقطان; وسمي به لأنه كان أول من قحط أموال الناس من ملوك العرب. وقال ابن ماكولا اسمه: مهرم.

                                                                                                                                                                                                                              وأما عرب الحجاز وهم العرب المستعربة فمن ذرية إسماعيل، وأما [ ص: 156 ] العرب العاربة فهم: عاد، وثمود، وجرهم، والعماليق، وأمم سواهم، وقيل: إن جميع العرب ينسبون إلى إسماعيل، والمشهور ما ذكرناه. والخزرج أشرف من الأوس; لكون أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، وهو وصف لهم إسلامي، وقيل لهم ذلك؛ لنصرتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح" كما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه، عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس بن مالك: أرأيتم اسم الأنصار أكنتم تسمون به أم سماكم الله به؟ قال: بل سمانا الله. وتفرعوا بطونا وأفخاذا كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الليثي فنسبة إلى ليث بن بكر -كما أسلفناه- ابن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، وقد ينسب في غير هذا إلى الجد دون القبيلة وإلى نزوله فيهم، ويشتبه الليث بأشياء ذكرتها في "المؤتلف".

                                                                                                                                                                                                                              وأما التيمي فنسبه إلى عدة قبائل اسمها تيم قريش، ومنها خلق كثير من الصحابة فمن بعدهم، منها: محمد بن إبراهيم السالف، ومنها تيم اللات بن ثعلبة، وتيم الرباب، وتيم ربيعة. ويشتبه التيمي بالتيمي -بفتح الياء- بطن ابن غافق، منهم الماضي بن محمد سمع منه ابن وهب.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السادس:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أحد أركان الإسلام وقواعد الإيمان، ولا شك في صحته من حديث الإمام أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري، رواه عنه حفاظ الإسلام وأعلام الأئمة: إمام دار الهجرة مالك (خ، م) بن [ ص: 157 ] أنس، وشعبة بن الحجاج، والحمادان: حماد (خ) بن زيد، وحماد بن سلمة، والسفيانان: سفيان الثوري وابن عيينة، والليث بن سعد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وعبد الوهاب (خ)، وخلائق لا يحصون كثيرة. وقد ذكره البخاري من حديث سفيان ومالك وحماد بن زيد وعبد الوهاب كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو سعيد محمد بن علي الخشاب الحافظ : روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين رجلا.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وبلغهم ابن منده في "مستخرجه" فوق الثلاثمائة.

                                                                                                                                                                                                                              ولولا خشية الملالة لعددتهم، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: سمعت الحافظ أبا مسعود عبد الجليل (محمدا) يقول في المذاكرة:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 158 ] قال الإمام عبد الله الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد، وقال الحافظان: أبو موسى المديني، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: إنه رواه عن يحيى سبعمائة رجل.

                                                                                                                                                                                                                              ثم تنبه بعد ذلك لقولين ساقطين:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: ما رأيته في أول كتاب "تهذيب مستمر الأوهام" لابن ماكولا أنه يقال: إن يحيى بن سعيد لم يسمعه من التيمي.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: ذكرها هو أيضا في موضع آخر أنه يقال: لم يسمعه التيمي من علقمة. وبيان وهن هاتين المقالتين رواية البخاري السالفة أول "صحيحه" فإن فيها: عن يحيى بن سعيد، أخبرني محمد بن إبراهيم [ ص: 159 ] التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص فذكره، وكذا صرح بذلك في كتاب: الأيمان والنذور كما سلف لك، وإنما ذكرت هاتين المقالتين لأنبه على وهنهما وشذوذهما، وأنهما لا يقدحان في الإجماع السالف على صحته، ومثلهما في الوهن قول ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار": إن هذا الحديث قد يكون عند بعضهم مردودا; لأنه حديث فرد.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السابع:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عمر، من الصحابة - رضي الله عنهم -، وإن كان الحافظ أبو بكر البزار قال: لا نعلم روي هذا الحديث إلا عن عمر، عن رسول الله بهذا الإسناد. وكذا ابن السكن في كتابه المسمى بـ "السنن الصحاح المأثورة" حيث قال: لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد غير عمر بن الخطاب، وكذلك الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب، حيث قال: لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عمر. وذكره الحافظ أبو يعلى القزويني في كتابه "الإرشاد" من حديث عبد المجيد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنية". ثم قال: ورواه عنه نوح بن حبيب، وإبراهيم بن عتيق، وهو حديث غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه.

                                                                                                                                                                                                                              فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة، وإنما هو حديث آخر ألصق بهذا، وهذا مما غلط فيه عبد المجيد.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الدارقطني في "أحاديث مالك التي ليست في الموطأ" ولفظه:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 160 ] "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى" إلى آخره، ثم قال: تفرد به عبد المجيد، عن مالك، ولا نعلم حدث به عن عبد المجيد غير نوح بن حبيب وإبراهيم بن محمد العتيقي. قلت: وعبد المجيد هو ابن (عبد العزيز) بن أبي رواد المكي، وهو من رجال مسلم مقرونا، ووثقه يحيى وغيره. وقال أحمد: ثقة يغلو في الإرجاء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه. وقال الدارقطني: لا يحتج به. وأما الخطابي فإنه أحال الغلط على الراوي عنه فقال: لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن هذا الحديث لا يصح مسندا إلا من حديث عمر، وقد غلط فيه نوح بن حبيب، ونوح هذا ثقة صاحب سنة، وأخرج له أبو داود والنسائي وقال: لا بأس به، وقال الخطيب: هو ثقة، أمر أحمد بن حنبل أن يكتب حديثه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن منده الحافظ: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عمر سعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبة بن عبد السلمي (وهزال بن [ ص: 161 ] سويد)، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر، وعتبة بن المنذر، وعقبة بن مسلم رضي الله عنهم.

                                                                                                                                                                                                                              وسيأتي على الإثر عن الحفاظ أيضا أنه لا يصح مسندا إلا من حديث عمر.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثامن: هذا الحديث فرد غريب باعتبار، مشهور باعتبار آخر، وليس بمتواتر بخلاف ما يظنه بعضهم، فإن مداره على يحيى بن سعيد كما سلف، قال الحفاظ: لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من جهة عمر بن الخطاب، ولا عن عمر إلا من جهة علقمة، ولا عن علقمة إلا من جهة محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا من جهة يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى اشتهر. فرواه جماعات لا يحصون كما سلف وأكثرهم أئمة معروفون.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وقد توبع علقمة، والتيمي، ويحيى بن سعيد على روايتهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن منده الحافظ: هذا الحديث رواه عن عمر غير علقمة: ابنه عبد الله، وجابر، وأبو جحيفة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وذو الكلاع، وعطاء بن يسار، وناشرة بن سمى. (وواصل بن عمرو)، [ ص: 162 ] الجذامي، ومحمد بن المنكدر.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه عن علقمة غير التيمي: سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وتابع يحيى بن سعيد على روايته عن التيمي (محمد) بن علقمة أبو الحسن الليثي، وداود بن أبي الفرات، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وعبد الله بن قيس الأنصاري.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه التاسع:

                                                                                                                                                                                                                              ادعى الخليلي أن الذي عليه الحفاظ أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غيره، فما كان عن غير ثقة فمردود وما كان عن ثقة توقف فيه، ولا يحتج به. وقال الحاكم: إنه ما انفرد به ثقة وليس له أصل يتابع.

                                                                                                                                                                                                                              وما ذكراه يشكل بما ينفرد به العدل الضابط كهذا الحديث; فإنه لا يصح إلا فردا و(ليس له) متابع أيضا كما سلف، ومثل هذا الحديث: النهي عن بيع الولاء وهبته، الآتي في بابه تفرد به عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال مسلم في "صحيحه": للزهري نحو من تسعين حديثا يرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد، وما أبدع حد الشافعي رحمه الله للشاذ، حيث [ ص: 163 ] قال هو وأهل الحجاز: الشاذ هو أن يروي الثقة مخالفا رواية الناس، لا أن يروي ما لا يروي الناس.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث وأشباهه ليس فيه مخالفة، بل له شواهد من الكتاب والسنة; فمن الأول قوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5]، إنه من عبادنا المخلصين [يوسف: 24] فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110] كالذي ينفق ماله رئاء [البقرة: 264]: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل [البقرة: 266] من كان يريد حرث الآخرة [الشورى: 20].

                                                                                                                                                                                                                              أخبر تعالى أنه لا يكون في الآخرة نصيب إلا لمن قصدها بالعمل.

                                                                                                                                                                                                                              ومن الثاني: عدة أحاديث ستعلمها في موضعها منها: حديث:

                                                                                                                                                                                                                              "ولكن جهاد ونية"، وحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم"، وحديث: "إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة"، وحديث: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك"، وحديث: "يقول الله -عز وجل-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا يشرك فيه غيري فأنا [ ص: 164 ] بريء منه، وهو للذي أشرك" وفي رواية: "تركته وشركه"، وحديث: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".

                                                                                                                                                                                                                              الوجه العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              قول البخاري رحمه الله: (ثنا الحميدي)، وقول يحيى بن سعيد (أخبرني) يتعلق به مسائل:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: في كتابة: (نا وأنا) وقد أسلفنا الكلام عليه في القاعدة الخامسة عشر في الفصل المعقود لها فراجعها منه.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: جرت العادة أن يقال فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ: (حدثني)، ومع غيره: (ثنا)، وفيما قرأ عليه بنفسه: (أخبرني)، وفيما قرأ عليه بحضوره: (أنا)، فإن شك هل كان وحده أو مع غيره؟ فيحتمل أن يقال: يقول: (حدثني أو أخبرني); لأن عدم غيره هو الأصل، واختاره البيهقي، ولا يقول: (ثنا)، فإن كان (حدثني) أكمل مرتبة منها فيقتصر [ ص: 165 ] على الناقص، وهو ما قاله الإمام يحيى القطان فيما إذا شك أن الشيخ قال: نا فلان أو حدثني، ثم إن هذا التفصيل من أصله مستحب، ويجوز في حدثني: (نا)، وفي أخبرني: (أنا)، وذلك سائغ في كلام العرب.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: أرفع الأقسام عند الجماهير السماع من لفظ المسمع، قال الخطيب: وأرفع العبارات: (سمعت) ثم (نا)، وحدثني، فإنه لا يكاد أحد يقول في الإجازة والكتابة: (سمعت)؛ لأنه يدلس ما لم يسمعه، وكان بعضهم يستعمل (ثنا) في الإجازة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الصلاح: (نا، وأنا) أرفع من سمعت; إذ ليس في سمعت دلالة أن الشيخ خاطبه، بخلافهما كما وقع لأبي القاسم الآبندوني، فإنه كان عسر الرواية، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو القاسم، ولا يعلم بحضوره فيسمع منه ما يحدث به، فكان يقول: سمعت، ولا يقول: (نا ولا أنا); لأن قصده الرواية للداخل عليه.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ولك أن تقول: (نا) أيضا، قد استعملها بعضهم في الإجازة كما سلف، ولا شك في انحطاط رتبتها عن السماع.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: في إطلاق (نا، وأنا) في القراءة على الشيخ ثلاث مذاهب: المنع، والجواز، والمنع في (نا) والجواز في (أنا)، والأول قول جماعة [ ص: 166 ] منهم: أحمد، وصححه الآمدي، والغزالي من الأصوليين، وهو مذهب المتكلمين.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: منسوب إلى معظم الحجازيين والكوفيين، ومالك والبخاري أيضا، وصححه ابن الحاجب من الأصوليين، وعن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة.

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: نسب إلى الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، ونقل عن أكثر المحدثين أيضا، ومنهم ابن وهب، وقيل: إنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث، وقد أعاد أبو حاتم الهروي قراءة "صحيح البخاري" كله; لأنه قرأه على بعض الشيوخ عن الفربري، وكان يقول له في كل حديث: حدثكم الفربري، فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر له إنما سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه، فأعاده وقال له في جميعه: أخبركم الفربري.

                                                                                                                                                                                                                              وقد ذكر البخاري في باب: العلم، كما ستعلمه: عن الحميدي عن [ ص: 167 ] ابن عيينة أنه قال: (نا وأنا وأنبأنا وسمعت) واحد، وقد أتى البخاري في هذا الحديث بألفاظ، فقال: نا الحميدي، نا سفيان، وفي بعض نسخه، وهي نسخة شيخنا قطب الدين عن سفيان، ثم قال: أخبرني محمد، ثم قال سمعت عمر، فكأنه يقول: هذه الألفاظ كلها تفيد السماع والاتصال.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قام الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي لا فرق فيه بين أن يأتي بلفظ: (سمعت)، أو بلفظ: (عن)، أو بلفظ: (أن)، أو بلفظ: (قال). وقد ذكر البخاري في هذا الحديث الألفاظ الأربعة، فذكره هنا، وفي الهجرة والنذور، وترك الحيل بلفظ: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وفي باب: العتق، بلفظ: (عن). وفي باب: الإيمان بلفظ: (أن)، وفي النكاح بلفظ: قال.

                                                                                                                                                                                                                              نعم. وقع الاختلاف فيمن دونه إذا قال: (عن)، فقيل: إنه من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره، والصحيح أنه من قبيل المتصل بشرط أن لا يكون المعنعن مدلسا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضا. وفي اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالراوية عنه مذاهب:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 168 ] أحدها: لا يشترط شيء من ذلك، ونقل مسلم في مقدمة "صحيحه" الإجماع عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيها: يشترط ثبوت اللقاء وحده، وهو قول البخاري والمحققين.

                                                                                                                                                                                                                              وثالثها: يشترط طول الصحبة.

                                                                                                                                                                                                                              ورابعها: يشترط معرفته بالرواية عنه، وقد أسلفنا كل ذلك في القاعدة الخامسة السالفة أول الكتاب في المقدمات.

                                                                                                                                                                                                                              والحميدي مشهور بصحبة ابن عيينة، وهو أثبت الناس فيه، قال أبو حاتم: هو رئيس أصحابه ثقة إمام. وقال ابن سعد: هو صاحبه وراويته. والأصح أن (أن كعن) بالشرط المتقدم. قلت: ولغة بني تميم إبدال العين من الهمزة، وقال أحمد وجماعة: يكون منقطعا حتى يتبين السماع.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني عشر:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وفي بعضها: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما قدمناه. وتتعلق بذلك مسألة مهمة وهي: هل يجوز تغيير (قال النبي) إلى (قال الرسول) أو عكسه؟ وقد سلفت أول الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الصلاح: والظاهر أنه لا يجوز، وإن جازت الرواية بالمعنى; لاختلاف معنى الرسالة والنبوة. وسهل في ذلك الإمام أحمد، وحماد بن سلمة، والخطيب، وصوبه النووي، فإنه لا يختلف به [ ص: 169 ] هنا معنى، وهو كما قال. وبهذا يظهر رد بحث من بحث، حيث قال: لو قيل: يجوز تغيير النبي إلى الرسول دون عكسه لما بعد; لأن في الرسول معنى زائدا على النبي وهو الرسالة.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وهذه المسألة من أصلها مبنية على أن الرسالة أخص من النبوة، وهو ما عليه الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                              وأما من قال: إنهما بمعنى، فلا يأبى هذا، وقد أوضحت الكلام على ذلك في كتابنا المسمى بـ"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" في شرح الخطبة مع فوائد جمة متعلقة بذلك، وذكرت فيه أن من الغرائب ما قاله الحليمي: إن الإيمان يحصل بقول الكافر: آمنت بمحمد النبي دون محمد الرسول، معللا بأن النبي لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره. وقلت فيه: كأنه أراد أن لفظ الرسول يستعمل عرفا في غير الرسالة إلى الخلق، بخلاف النبوة فإنها لا تستعمل إلا في النبوة الشرعية دون اللغوية.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أنه يتأكد الاعتناء بالجمع بين الصلاة والتسليم عند ذكره [ ص: 170 ] عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد نص العلماء على كراهة إفراد أحدهما.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث عشر:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف النحاة في (سمعت) هل يتعدى إلى مفعولين؟ على قولين: أحدهما: نعم، وهو مذهب أبي علي الفارسي في "إيضاحه" قال: لكن لابد أن يكون الثاني مما يسمع، كقولك: سمعت زيدا يقول كذا، ولو قلت: سمعت زيدا أخاك لم يجز، والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال، أي: سمعته حال قوله كذا.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              (المنبر) -بكسر الميم- مشتق من النبر وهو الارتفاع، قاله أهل اللغة، قال الجوهري: نبرت الشيء، أنبره نبرا: رفعته. ومنه سمي المنبر.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              لفظة: "إنما" موضوعة للحصر، تثبت المذكور، وتنفي ما عداه، هذا مذهب الجمهور من أهل اللغة والأصول وغيرهما. وعلى هذا هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه مذهبان حكاهما ابن الحاجب، [ ص: 171 ] ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنه بالمنطوق، واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر، بل تفيد تأكيد الإثبات، وهو الصحيح عند النحويين، وقيل: تفيده وضعا لا عرفا، حكاه بعض المتأخرين، ومحل بسط المسألة كتب الأصول والعربية فلا نطول به.

                                                                                                                                                                                                                              فائدتان: الأولى: (أنما) -بفتح الهمزة- كـ(إنما) قاله الزمخشري في قوله تعالى: قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد [الأنبياء: 108].

                                                                                                                                                                                                                              وعد ذلك من أفراده، ومنع بعض شيوخنا الحصر هنا لاقتضائه أنه لم يوح إليه غير التوحيد. وفيما ذكره نظر، فإن الخطاب مع المشركين، فالمعنى: ما أوحي إلي في أمر الربوبية إلا التوحيد لا الإشراك.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: للحصر أدوات أخر منها: حصر المبتدأ في الخبر نحو: العالم زيد، ومنها: تقديم المعمولات على ما قاله الزمخشري وجماعة، نحو: إياك نعبد [الفاتحة: 5]، ومنها إلا، على اختلاف [ ص: 172 ] فيها، ومنها لام كي، كقوله تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [النحل: 8]، قاله الباجي، ومنها السبر والتقسيم نحو: إن لم يكن زيد متحركا فهو ساكن.

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              في الحديث مع "إنما" صيغة حصر أخرى، وهي المبتدأ والخبر الواقع بعده، وقد أسلفنا عن البخاري أنه رواه مرة بإسقاط "إنما" فكل منهما إذا انفرد يفيد ما أفاده الآخر واجتماعهما آكد.

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              "الأعمال" حركات البدن، ويتجوز بها عن حركات النفس، وعبر بها دون الأفعال; لئلا تتناول أفعال القلوب، ومنها النية ومعرفة الله تعالى، فكان يلزم أن لا يصحان إلا بنية، لكن النية فيهما محال; أما النية فلأنها لو توقفت على نية أخرى لتوقفت الأخرى على أخرى ولزم التسلسل أو الدور، وهما محالان. وأما معرفة الله تعالى; فلأنها لو توقفت على النية، -مع أن النية قصد المنوي بالقلب- لزم أن يكون عارفا بالله قبل معرفته وهو محال. ولأن المعرفة وكذا الخوف والرجاء مميزة لله تعالى بصورتها- وكذا التسبيح وسائر الأذكار والتلاوة، لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب به بل إلى مجرد القصد له، ولهذا لما كان الركوع والسجود في الصلاة غير ملتبس بهما لم يجب فيهما ذكر، [ ص: 173 ] بخلاف القيام والقعود في التشهد فإن كلا منهما ملتبس بالعادة، فوجب في القيام القراءة، وفي القعود التشهد ليتميزا عن العادة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أن الأعمال ثلاثة: بدني، وقلبي، ومركب منهما:

                                                                                                                                                                                                                              فالأول: كل عمل لا يشترط فيه النية: كرد الغصوب، والعواري، والودائع، والنفقات، وكذا إزالة النجاسة على الصواب وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: كالاعتقادات، والتوبة، والحب في الله، والبغض فيه، وما أشبه ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: كالوضوء، والصلاة، والحج، وكل عبادة بدنية، فيشترط فيها النية قولا كانت أو فعلا كما سيأتي. وبعض الخلافيين يخصص العمل بما لا يكون قولا، وفيه نظر; لأن القول عمل جارحي أيضا، أما الأفعال فقد استعملت مقابلة للأقوال. ولا شك أن هذا الحديث يتناول الأقوال.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثامن عشر:

                                                                                                                                                                                                                              "النيات": جمع نية -بالتشديد والتخفيف-، فمن شدد -وهو المشهور- كانت من نوى ينوي إذا قصد، وأصله نوية، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها لتقاربهما، ومن خفف كانت من ونى يني إذا أبطأ وتأخر; لأن النية تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتأخر. ويقال: نويت فلانا وأنويته بمعنى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 174 ] الوجه التاسع عشر: الباء في قوله: "بالنيات"، يحتمل أن تكون باء السببية، ويحتمل أن تكون باء المصاحبة، ويتخرج على ذلك أن النية جزء من العبادة أم شرط، وستعلم ما فيه قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه العشرون:

                                                                                                                                                                                                                              وجه إفراد النية على رواية البخاري في الإيمان كونها مصدرا، وجمعت هنا، لاختلاف أنواعها ومعانيها; لأن المصدر إذا اختلفت أنواعه جمع، فمتى أريد مطلق النية -من غير نظر لأنواعها- تعين الإفراد، ومتى أريد ذلك جمعت.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الحادي بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              أفردت أيضا وجمعت الأعمال; لأن المفرد المعرف عام، والمراد أن كل عمل على انفراده تعتبر فيه نية مفردة، ويحتمل أن العمل الواحد يحتاج إلى نيات إذا قصد كمال العمل، كمن قصد بالأكل دفع الجوع، وحفظ النفس، والتقوي على العبادة، وما أشبه ذلك، وبسبب تعدد النيات يتعدد الثواب.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              أصل النية: القصد، تقول العرب: نواك الله بحفظه، أي: قصدك الله بحفظه، كذا نقله عنهم جماعة من الفقهاء، واعترض ابن الصلاح [ ص: 175 ] فقال: هذه عبارة منكرة; لأن المقصود مخصوص بالحادث، فلا يضاف إلى الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وفي ثبوت ذلك عن العرب نظر; لأن الذي في "الصحاح": نواك الله، أي: صحبك في السفر وحفظك، وقال الأزهري: يقال: نواه الله، أي: حفظه، وهذا الذي أنكره عليهم غير منكر بل صحيح، وقد قال: هو في القطعة التي شرحها من أول "صحيح مسلم"، وقد ورد عن العرب: نواك الله بحفظه. هذا كلامه، ومعلوم أن من أطلق القصد لم يرد القصد الذي هو من صفة الحادث بل أراد الإرادة، إذا تقرر هذا، فالمراد هنا قصد الشيء المأمور تقربا إلى الله تعالى مقترنا بقصده. فإن قصد وتراخى عنه فهو عزم. وجعل الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في "أربعينه" النية، والإرادة، والقصد، والعزم بمعنى، قال: وكذا أزمعت على الشيء وعمدت إليه، قال: وتطلق الإرادة على الله تعالى ولا يطلق عليه غيرها مما (ذكرنا).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 176 ] ثم اعلم بعد ذلك أن محلها القلب عند الجمهور لا اللسان; لقوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [البينة: 5]، والإخلاص إنما يكون بالقلب، وقال تعالى: ولكن يناله التقوى منكم [الحج: 37]، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "التقوى ها هنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر أن محلها القلب، فإن اقتصر عليه جاز إلا في الصلاة على وجه شاذ لأصحابنا لا يعبأ به. وإن اقتصر على اللسان لم يجز إلا في الزكاة على وجه شاذ أيضا، ومثله قول الأوزاعي: لا تجب النية في الزكاة وإن جمع بينهما فهو آكد. واشترطه [ ص: 177 ] أبو عبد الله الزبيري كما أشار إليه الماوردي، وحكاه الروياني أيضا، واقتضى كلامه طرده في كل عبادة. ومشهور مذهب مالك أن الأفضل أن ينوي العبادة بقلبه من غير نطق بلسانه; إذ اللسان ليس محلا للنية على ما مر.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: جميع النيات المعتبرة يشترط فيها المقارنة إلا الصوم [ ص: 178 ] للمشقة، وإلا الزكاة; فإنه يجوز تقديمها قبل وقت إعطائها، قيل: والكفارات; فإنه يجوز تقديمها قبل الفعل والشروع.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: ينبغي لمن أراد شيئا من الطاعات أن يستحضر النية، فينوي به وجه الله تعالى. وهل يشترط ذلك أول كل عمل وإن قل وتكرر فعله مقارنا لأوله؟ فيه مذاهب: أحدها: نعم. وثانيها: يشترط ذلك في أوله ولا يشترط إذا تكرر، بل يكفيه أن ينوي أول كل عمل، ولا يشترط تكرارها فيما بعد ولا مقارنتها ولا الاتصال. وثالثها: يشترط المقارنة دون الاتصال. ورابعها: يشترط الاتصال وهو أخف من المقارنة.

                                                                                                                                                                                                                              وكأن هذه المذاهب راجعة إلى أن النية جزء من العبادة أو شرط لصحتها، والجمهور على الأول، ولأصحابنا وجه بالثاني، والشرط لا (يجب) مقارنته ولا اتصاله ولا تكراره للمشروط، بل متى وجد ما يرفعه أو ينفيه وجب فعله، وقال الحارث بن أسد المحاسبي : الراجح عند أكثر السلف الاكتفاء بنية عامة، ولا يحتاج إليها في كل جزء لما فيه من الحرج والمشقة.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: النية وسيلة للمقاصد، والأعمال قد تكون وسيلة وقد تكون مقصودة وقد يجتمعان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 179 ] الرابع: الغرض المهم من النية تمييز العبادات عن العادات، وتمييز رتب العبادات بعضها عن بعض، فمن أمثلة الأول: الوضوء، والغسل، والإمساك عن المفطرات، ودفع المال إلى الغير. ومن أمثلة الثاني: الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: قد أسلفنا أن معنى النية القصد، وذلك لا يؤثر إلا إذا كان جازما بالمقصود بصفته الخاصة، وإلا لم يكن قصدا، فلو كان شاكا في وجود شرط ذلك الفعل، أو علق النية على شرط لم يصح المنوي، نعم لو كان جازما بالوجوب ناسيا صفته، كمن تحقق أن عليه صوما ولم يدر أنه من قضاء رمضان أو نذر أو كفارة، فقد حكى صاحب "البيان" عن (الصيمري) أنه يصح إذا نوى الصوم الواجب عليه، قياسا على من نسي صلاة من الخمس ولم يعرف عينها، فإنه يعذر في جزم النية للضرورة. ولو علق كما إذا قال: أصوم غدا إن شاء الله. فالأصح أنه إن قصد الشك أو التعليق لم يصح، وإن قصد التبرك أو تعليق الحياة على مشيئة الله تعالى وتمكينه صح، ثم في عدم الجزم بالنية صور محل الخوض فيها كتب الفروع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 180 ] الوجه الثالث بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله- صلى الله عليه وسلم -: ("إنما الأعمال بالنيات.. ") هو متعلق بالخبر المحذوف، ولا جائز أن نقدر وجودها لوجود العمل ولا نية، فتعين أن نقدر نفي الصحة أو نفي الكمال، وفيه مذهبان للأصوليين، والأظهر الأول; لأنه أقرب إلى حضوره بالذهن عند الإطلاق، فالحمل عليه أولى، وقد يقدرونه بالاعتبار، أي: اعتبار الأعمال بالنيات، وقرب ذلك بمثل قولهم: إنما الملك بالرجال -أي: قوامه ووجوده- وإنما الرجال بالمال، وإنما الرعية بالعدل، وكل ذلك يراد به أن قوام هذه الأشياء بهذه الأمور. وقدر بعض المحدثين القبول وهو راجع إلى ثواب الآخرة، وهو مرتب على الصحة والكمال، وقد تنفك الصحة عن القبول بالنسبة إلى أحكام الدنيا فقط. وعلى تقدير إضمار الصحة أو الكمال وقع اختلاف الفقهاء، فذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، وداود، وجمهور أهل الحجاز إلى تقدير الصحة، أي: الأعمال مجزية أو معتبرة بالنيات، أو: إنما صحتها أو اعتبارها بالنيات. فيكون قد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فلا يصح وضوء ولا غسل ولا تيمم إلا بنية، وذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى تقدير الكمال، أي: كمال الأعمال بالنيات. فيصح الوضوء والغسل بغير نية ولا يصح التيمم إلا بنية، وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه يصح الكل من غير نية، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وغيره، ومحل الخوض في هذه المسألة كتب الخلافيات، وقد أوضحتها في "شرح عمدة الأحكام"، فليراجع منه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 181 ] فإن قلت: الحديث المذكور عام مخصوص فإن أداء الدين، ورد الودائع، والأذان، والتلاوة، والأذكار، وهداية الطريق، وإماطة الأذى عبادات، وتصح بلا نية، فتضعف دلالته حينئذ، ويخص عدم اعتبارها في الوضوء أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              فالجواب: أن ما عد وادعي فيه الصحة بلا نية إجماعا ممنوع حتى يثبت الإجماع، ولن يقدر عليه، ثم نقول: النية تلازم هذه الأعمال، فإن مؤدي الدين قصد براءة الذمة وذلك عبادة، وكذا الوديعة، والأذكار، والتلاوة والأذان بصورتهن عبادة، ولا ينفك تعاطيهن عن القصد، وذلك نية. ومتى خلون عن القصد لم يعتد بهن عبادة، والهداية والإماطة مترددة بين القربة وغيرها، وتتميز بالقصد.

                                                                                                                                                                                                                              تتمات تتعلق بالنية:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: لو وطئ امرأة يظنها أجنبية، فإذا هي مباحة له أثم، ولو اعتقدها زوجته أو أمته فلا إثم، وكذا لو شرب مباحا يعتقده حراما أثم، وبالعكس لا يأثم، ومثله: ما إذا قتل من يعتقده معصوما، فبان أنه مستحق دمه، أو أتلف مالا يظنه لغيره فكان ملكه.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ عز الدين في "قواعده": ويجري عليه حكم الفاسق لجرأته على ربه تعالى. وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب (تعذيب) زان، ولا قاتل ولا آكل مالا حراما; لأن عذاب الآخرة مرتب على رتب المفاسد في الغالب، كما أن ثوابها مرتب على رتب المصالح في الغالب، قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة [ ص: 182 ] لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة، بل عذابا متوسطا بين الصغيرة والكبيرة.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: لو قال لامرأته: أنت طالق. يظنها أجنبية (طلقت) زوجته لمصادفة محله، وفي عكسه تردد لبعض العلماء مأخذه النظر إلى النية، أو إلى فوات المحل، ولو قال لرقيقه: أنت حر. يظنه أجنبيا عتق، وفي عكسه التردد المذكور. وعلى هذا القياس في مسائل الشريعة والحقيقة والمعاملات الظاهرة والباطنة.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: ذهب بعض العلماء إلى وقوع الطلاق بالنية المجردة ولزوم النذر بها; اعتمادا على هذا الحديث ولا يرد على هذا حديث: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به" لأن (المعفو) عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما (عقدت) به العزائم، وهم إنما يوقعون الطلاق ونحوه بالنية إذا قويت وصارت عزيمة أكيدة.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: إذا نذر اعتكاف مدة (متتابعة) لزمه، وأصح الوجهين عند أصحابنا أنه لا يجب التتابع بلا شرط.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 183 ] فعلى هذا لو نوى التتابع بقلبه ففي لزومه وجهان: أصحهما لا كما لو نذر أصل الاعتكاف بقلبه، كذا نقله الرافعي عن تصحيح البغوي وغيره. قال الروياني وهو ظاهر نقل المزني، قال: والصحيح عندي اللزوم; لأن النية إذا اقترنت باللفظ عملت كما لو قال: أنت طالق. ونوى ثلاثا.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: في اشتراط النية في الخطبة وجهان للشافعية كما في الأذان، قاله الروياني في "البحر" وفي الرافعي في الجمعة: أن القاضي حسينا حكى اشتراط نية الخطبة وفرضيتها كما في الصلاة، ونقله في "الشرح الصغير" عن بعضهم.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: عدة الوفاة من حين الموت حتى لو بلغها موته بعد تقضيها حلت للأزواج عندنا، وبه قال مالك والكوفيون. ولو أعتق عبده عن غيره [ ص: 184 ] في كفارة الظهار بغير إذنه أجزأه عند ابن القاسم، وخالفه أشهب تبعا للشافعي وأبي حنيفة.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: إذا أخذ الخوارج الزكاة اعتد بها على الأصح عندنا.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : إن أخذت قهرا فنعم، وإلا فلا، وبه قال مالك.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: قال الشافعي في البويطي كما نقله الروياني، عن القاضي أبي الطيب عنه: قد قيل: إن من صرح بالطلاق، والظهار، والعتق ولم يكن له نية في ذلك لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق، ولا ظهار ولا عتق، ويلزم في الحكم. وحجته هذا الحديث و"رفع القلم عن ثلاثة". والإجماع على المجنون والنائم إذا تلفظا بصريح الطلاق لا يلزمهما. وقال: قال مالك: من طلق، أو أعتق، أو ظاهر بلا نية يلزمه ذلك في الحكم فيما بينه وبين الله تعالى. والحجة فيه لمن ذهب إليه ما ذكر الله من إتلاف المؤمن خطأ، وما أجمع عليه العلماء أن من أتلف مال آدمي خطأ فذلك عليه وإن لم ينو، وذلك من حقوق الآدميين، وللمرأة حق في منعها نفسها، وللعبد حق في حريته، وللمساكين حق في الظهار. ولم يتعرض البويطي لواحد (منهما). فالظاهر أنه قصد تخريجه على قولين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 185 ] التاسعة: روينا في "مسند أبي يعلى" من حديث (...) أنه -عليه السلام- قال: "يقول الله تعالى للحفظة يوم القيامة: اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا فيقول: إنه نواه، إنه نواه". ولهذا المعنى ونحوه ورد الحديث الآخر: "نية المؤمن خير من عمله" وللناس فيه تأويلات ذكرت منها في "شرح [ ص: 186 ] عمدة الأحكام" تسعة على (تقدير) صحته، منها: أن نيته خير من خيرات عمله.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: أن النية المجردة عن العمل خير من العمل المجرد عنها.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله عليه الصلاة السلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يقال: امرؤ ومرء. قال تعالى: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [الأنفال: 24]، (يقال) هذا مرء، وهذان امرآن، ولا يجمع إلا قوما ورجالا، ومنهم من يقول: هذا مرآن، وأنثى امرئ امرأة، وأنثى مرء مرأة ومرة [ ص: 187 ] - بغير همز- و(ما) بمعنى: الذي، وصلته: نوى، والعائد محذوف، أي: نواه. فإن قدرت ما مصدرية لم تحتج إلى حذف; إذ ما المصدرية عند سيبويه حرف، والحروف لا تعود عليها الضمائر، والتقدير: لكل امرئ نيته.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الخامس بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى". مقتضاه أن من نوى شيئا يحصل له، وما لم ينوه لا يحصل له; ولهذا عظموا هذا الحديث، وجعلوه ثلث العلم، والمراد بالحصول وعدمه بالنسبة إلى الشرع، وإلا فالعمل قد حصل لكنه غير معتد به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله: " (فمن كانت هجرته إلى دنيا (يصيبها) .. " إلى آخره، فإن قلت: فما فائدة ذكر هذا بعد الأول وهو يقتضي التعميم؟ قلت: له فوائد:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: اشتراط تعيين المنوي، فمن كانت عليه مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل لابد أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك، قاله الخطابي.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: منع الاستنابة في النية، فإن اللفظ إنما يقتضي اشتراط النية في كل عمل، وذلك لا يقتضي منع الاستنابة في النية، إذ لو نوى واحد عن غيره صدق عليه أنه عمل بنية وذلك ممتنع، فأفاد بالثاني منع ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقد استثني من هذا نية الولي عن الصبي في الحج، والمسلم عن زوجته [ ص: 188 ] الذمية عند طهرها من الحيض على القول بذلك، وحج الإنسان عن غيره، وكذا إذا وكل في تفرقة الزكاة، وفوض إليه النية ونوى الوكيل، فإنه يجزئه كما قاله الإمام الغزالي و"الحاوي الصغير".

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: أنه تأكيد لقوله: "إنما الأعمال بالنيات" فنفى الحكم بالأول، وأكده بالثاني تنبيها على شرف الإخلاص (وتحذيرا من الرياء المانع من (الإخلاص).

                                                                                                                                                                                                                              فائدة: إذا أشرك في العبادة غيرها من أمر دنيوي أو رياء، فاختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، وإن كان القصد الديني هو الأغلب كان له (أجر) بقدره، وإن تساويا تساقطا.

                                                                                                                                                                                                                              واختار الشيخ عز الدين ابن عبد السلام أنه لا أجر فيه مطلقا سواء تساوى القصدان أو اختلفا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال المحاسبي: إذا كان الباعث الديني أقوى بطل عمله وخالف في ذلك الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن جرير الطبري: إذا كان ابتداء العمل لله لم يضره ما عرض بعده في نفسه من عجب. هذا قول عامة السلف.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السادس بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              مقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى" أن من نوى شيئا لم يحصل له غيره ومن لم ينو شيئا لم يحصل، وهذه قاعدة مطردة في جميع [ ص: 189 ] مسائل النية، نعم شذ عن ذلك مسائل يتأدى الفرض فيها بنية النفل، محل الخوض فيها كتب الفروع، وقد أوضحتها في كتاب "الأشباه والنظائر" فلتراجع منه.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السابع بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              الهجرة في اللغة: الترك. والمراد بها هنا: ترك الوطن والانتقال إلى غيره، وهي في الشرع: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، وطلب إقامة الدين. وفي الحقيقة: مفارقة ما يكره الله إلى ما يحب.

                                                                                                                                                                                                                              ووقعت الهجرة في الإسلام على خمسة أوجه: أحدها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: من مكة إلى المدينة بعد الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: هجرة القبائل إلى المدينة قبل الفتح للاقتباس والتعلم لقومهم عند الرجوع.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة; ليأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إليها. كفعل صفوان بن أمية ومهاجرة الفتح.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه، وهي أهمها، وقد أوضحتها بفوائد (جمة) في كتابنا "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" فلا بد لك من مراجعته. وأما حديث: "لا هجرة بعد الفتح" فمؤول كما ستعلمه في موضعه حيث ذكره البخاري -إن شاء الله- فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة من دار الكفر -إذا لم يمكنه إظهار دينه- إلى دار الإسلام، [ ص: 190 ] وينبغي أن تعد سادسة. ثم اعلم أن معنى الحديث وحكمه يتناول الجميع غير أن الحديث ورد على سبب كما سيأتي، والعبرة بعموم اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثامن بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله -صلى الله عليه وسلم -: ("فمن كانت هجرته إلى دنيا.. ") إلى آخره، هو تفصيل لما سبق في قوله: ("إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل آمرئ ما نوى")، وإنما فرض الكلام في الهجرة; لأنها السبب الباعث على هذا الحديث كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه التاسع بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى في الإيمان: ("فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. "). إلى آخره لا بد فيه من تقدير شيء; لأن القاعدة عند أهل الصناعة أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد من تغايرهما، وهنا وقع الاتحاد، (فالتقدير) : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وعقدا، فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثلاثون:

                                                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("فمن كانت هجرته إلى دنيا") الدنيا بضم الدال على [ ص: 191 ] المشهور، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها، وجمعها دنا ككبرى وكبر وهي من دنوت لدنوها وسبقها الدار الآخرة، وينسب إليها دنيوي ودنيي، وقال الجوهري وغيره: ودنياوي وقوله: "دنيا" هو مقصور غير منون على المشهور، وهو الذي جاءت به الرواية، ويجوز في لغة غريبة تنوينها.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الحادي بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              في حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: ما على الأرض مع الجو والهواء، (وأظهرهما) : كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              المراد بالإصابة: الحصول، شبه تحصيل الدنيا بإصابة العرض بالسهم بجامع حصول المقصود.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 192 ] الثالث بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("أو امرأة يتزوجها") هو بمعنى: ينكحها كما جاء في الرواية الأخرى، وقد يستعمل بمعنى الاقتران بالشيء، ومنه قوله تعالى: وزوجناهم بحور عين [الدخان: 54]، أي: قرناهم، قاله الأكثرون. وقال مجاهد، والبخاري، وطائفة: أنكحناهم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              إن قلت: كيف ذكرت المرأة مع الدنيا مع أنها داخلة فيها، فالجواب عنه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أنه لا يلزم دخولها في هذه الصيغة; لأن (لفظة) دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات. فلا يلزم دخول المرأة فيها.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أن هذا الحديث ورد على سبب، وهو أنه لما أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة تخلف جماعة عنها فذمهم الله تعالى بقوله: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم) الآية [النساء: 97]، ولم يهاجر جماعة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله: إلا المستضعفين من الرجال [النساء: 98]، الآية، وهاجر المخلصون إليه، فمدحهم في غير ما موضع من كتابه، وكان في المهاجرين جماعة خالفت نيتهم نية المخلصين، منهم من كانت نيته تزوج امرأة كانت بالمدينة من المهاجرين يقال لها: أم قيس، وادعى ابن دحية: أن اسمها قيلة، [ ص: 193 ] فسمي مهاجر أم قيس، ولا يعرف اسمه بعد البحث عنه، ولعله للستر عليه، فكان قصده بالهجرة من مكة إلى المدينة (بنية) التزوج بها لا لقصد فضيلة الهجرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وبين مراتب الأعمال بالنيات، فلهذا خص ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به الهجرة من أفراد الأغراض الدنيوية; لأجل تبيين السبب، وإن كانت أعظم أسباب فتنة الدنيا قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"، وذكر الدنيا معها من باب زيادة النص على السبب، كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر زاد: "حل ميتته" ويحتمل أن يكون هاجر لمالها مع نكاحها، ويحتمل أنه هاجر لنكاحها وغيره لتحصيل دنيا من جهة ما، فعرض بها.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: أن ذكرها من باب التنبيه على زيادة التحذير منها كذكر الخاص بعد العام; تنبيها على مزيته، كما في ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة وغير ذلك، وليس منه قوله تعالى: ونخل ورمان [الرحمن: 68]، بعد ذكر الفاكهة، وإن غلط فيه بعضهم; لأن فاكهة نكرة في سياق الإثبات فلا تعم، (لكن وردت في معرض الامتنان)، وقد جاء أيضا في القرآن عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص [ ص: 194 ] كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم -عليه السلام-: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين [إبراهيم: 41]، وقوله تعالى إخبارا عن نوح -عليه السلام-: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا [نوح: 28] الخامس بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              إن قلت لم ذم على طلب الدنيا وهو أمر مباح، والمباح لا ذم فيه ولا مدح؟ قلت: إنما ذم لكونه لم يخرج في الظاهر لطلب الدنيا. وإنما خرج في صورة طالب فضيلة الهجرة فأبطن خلاف ما أظهر.

                                                                                                                                                                                                                              السادس بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              إنما لم يعد - صلى الله عليه وسلم - ما بعد الفاء الواقعة جوابا للشرط بقوله: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يعده باللفظ الأول في الرواية الأخرى: "فهجرته إلى الله ورسوله" للإعراض عن تكرير ذكر الدنيا، والغض منها، وعدم الاحتفال بأمرها; ولئلا يجمع بين ذكر الله ورسوله في الضمير (فقد نهى عنه) في حديث الخطيب.

                                                                                                                                                                                                                              السابع بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها على عشرة أقوال ذكرتها مجموعة في كتابنا "الإعلام بفوائد [ ص: 195 ] عمدة الأحكام" فراجعه (منها) فإنه من المهمات، نذكر منها هنا أربعة:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أنها ثلاثة: هذا الحديث، وحديث: "حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث: "الحلال بين والحرام بين".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أنها أربعة بزيادة حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله"، وقد نظمها بعضهم فقال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 196 ]

                                                                                                                                                                                                                              عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه
                                                                                                                                                                                                                              اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: أنها اثنان.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: أنها واحد وهو حديث: "الحلال بين".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 197 ] الثامن بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث عظيم الموقع كثير الفائدة أصل من أصول الدين، قال أبو داود: إنه نصف الفقه، وقال الشافعي فيما رواه البويطي عنه: يدخل في هذا الباب ثلث العلم، وقال في رواية الربيع: هذا الحديث ثلث العلم; وسببه كما قال البيهقي وغيره أن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاث وأرجحها; لأنها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الآخرين; ولأن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه بخلاف النية، فهذا الحديث يتضمن النية، وحديث: "من حسن إسلام المرء" يتضمن القول، وحديث: "الحلال بين" يتضمن العمل فكمل بالمجموع الإسلام; لأنه قول وعمل ونية، وقال عبد الرحمن بن مهدي: يدخل هذا الحديث في ثلاثين بابا من الإرادات والنيات.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد: ليس شيء من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث أجمع وأغنى وأكثر فائدة وأبلغ من هذا الحديث. وقال البخاري في "صحيحه" في أواخر الإيمان فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج, والصوم، والأحكام. وقال ابن دحية: لم أجد فيما أرويه من الدينيات أنفع من قوله: ("إنما الأعمال بالنيات")، إذ مدار العلم عليه، وهو نور يسعى بين يديه.

                                                                                                                                                                                                                              (قلت:) وقول إمامنا الشافعي السالف: إن هذا الحديث يدخل في سبعين بابا من الفقه، مراده الأبواب الكلية كالطهارة بأنواعها [ ص: 198 ] والصلاة بأقسامها، والزكاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والأيمان، والنذور، والأضحية، والهدي، والكفارة، والجهاد، والطلاق، والخلع، والظهار، والعتق، والكتابة، والتدبير، والإبراء، ونحوها، والبيع، والإجارة، وسائر المعاملات، والرجعة، والوقف، والهبة، وكناية الطلاق، وغيرها عند من يقول: كنايتها مع النية كالصريح وهو الصحيح، وكذلك إذا كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر فأوفاه ألفا صرفه إلى ما نواه منهما وشبه ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر القاضي حسين من أصحابنا في آخر حد الخمر أنه لا بد للإمام في إقامة الحدود من النية حتى لو ضربه لمصادرة أو لمعنى آخر وعليه حدود لا تحسب عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما المسائل الجزئية فلا تحصى، ثم يحتمل أن يكون أراد بالسبعين التحديد. ويحتمل أن يكون أراد المبالغة في التكثير; لأن العرب تستعمل السبعين في ذلك، ومنه قوله تعالى: إن تستغفر لهم سبعين مرة [التوبة: 80].

                                                                                                                                                                                                                              ومن المسائل الجزئية التي ينبغي استحضار النية فيها: الصدقات، وقضاء حوائج الناس، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وابتداء السلام ورده، وتشميت العاطس وجوابه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار والقبور، والنفقة على الأهل والضيفان، وإكرام أهل الود والفضل وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه وتعلمه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه، والفتوى، والقضاء، وإماطة الأذى عن الطريق، والنصيحة، والإعانة على البر والتقوى، وقبول الأمانات وأداؤها، وما أشبه ذلك، حتى ينبغي [ ص: 199 ] استحضارها عند إرادة الأكل والشرب والنوم ويقصد بها التقوي على الطاعة، وإراحة البدن لينشط لها، وكذا إذا جامع موطوءته بقصد المعاشرة بالمعروف وإيصالها حقها، وتحصيل ولد صالح يعبد الله تعالى، وإعفاف الزوجة، وإعفاف نفسه وصيانتها، من التطلع إلى حرام أو الفكر فيه أو مكابدة المشاق بالصبر، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي بضع أحدكم صدقة"، وكذا ينبغي لمن عمل حرفة للمسلمين مما هو فرض كفاية أن يقصد إقامة فرض الكفاية ونفع المسلمين، كالزراعة وغيرها من الحرف التي هي قوام عيش المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                              والضابط لحصول النية أنه متى قصد بالعمل امتثال أمر الشرع وبتركه الانتهاء بنهي الشرع كانت حاصلة مثابا عليها وإلا فلا، وإن لم يقصد ذلك كان عملا بهيميا، ولهذا قال السلف: الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه التاسع بعد الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث من أجل أعمال القلوب والطاعة المتعلقة بها، وعليه مدارها، وهو قاعدتها، فهو قاعدة الدين لتضمنه حكم النيات التي محلها القلب بخلاف الذكر الذي محله اللسان، ولهذا لو نوى الصلاة بلسانه دون قلبه لم يصح، ولو قرأ الفاتحة بقلبه دون لسانه لم [ ص: 200 ] يصح، فهو أصل في وجوب النية في سائر العبادات كما (سلف) عن الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الأربعون:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أصل في الإخلاص أيضا، فهو إرادة تمثيل الفعل إلى وجه الله تعالى وحده خالصا، والنية هي القصد المتعلق بتمثيل الفعل إلى وجه الله تعالى، وللإخلاص مرجع إلى الكتاب والسنة، أما الكتاب فكل آية تضمنت مدح الإخلاص وذم الرياء، وقد ذكرت جملة منها في الوجه التاسع، وكذا من السنة أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه (الحادي بعد الأربعين) :

                                                                                                                                                                                                                              استنبط من الحديث أنه لا يجوز الإقدام على الفعل قبل معرفة حكمه، ووجهه أنه لابد للمكلف من الإتيان بما أمر به على وجهه، وقد نفى أن يكون العلم منتفعا به إلا بالنية؛ أي: بنية التقرب لما طلبه الله من العبد ولا يتصور ذلك إلا بعد معرفة المطلوب.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه (الثاني بعد الأربعين) :

                                                                                                                                                                                                                              قد يستدل به بعد العبادات في أحكام المعاملات كالإكراه على الطلاق والعتاق، وفي باب الأيمان حتى لو حلف: والله ما رأيت زيدا، وهو ينوي أنه لم يصب رئته، وما كلمت محمدا يريد ما جرحته، كان على ما نوى. وكذلك يدل على أن من باع واشترى بغش وخلابة أو ربا بحيلة، فإنه محظور في حق الدين. فأما طلاق [ ص: 201 ] السكران فلا يدخل فيه; لأن صريح الطلاق لا يحتاج إلى النية إلا أن يكون ذلك بلفظ كناية.

                                                                                                                                                                                                                              وقال قوم: إن الاستدلال بهذا الحديث في غير العبادات لا يجوز; لأنه غير ما قصد به، وحاصله: أن الألف واللام في الأعمال هل هي لاستغراق الجنس فيدخل (فيه) جميع الأعمال؟ أو لتعريف العهد؟ لأن المراد أعمال البر والقربات.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث والأربعون:

                                                                                                                                                                                                                              وهو ينعطف على ما مضى: من الأعمال ما تشترط النية فيه لصحته (ولحصول) - الثواب بفعله كالصلاة، والصيام، والحج، والاعتكاف، والطواف، في غير حج ولا عمرة وغيرها، وهذا مجمع عليه.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها مختلف فيه كالوضوء، والغسل، والتيمم، والطواف في الحج والعمرة، وغيرها.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها ما لا يشترط فيه النية لصحته بل لحصول الثواب بفعله كستر العورة، والأذان، والابتداء بالسلام ورده، وبناء المدارس، والوقف، والهبة، والوصية، والأمر بالمعروف، وحضور مجالس العلم، وزيارة [ ص: 202 ] (الأحياء)، والقبور، والنفقة على الأهل والضيف، وإكرام ذوي الود والأرحام، ومذاكرة العلم، والمناظرة به، وتكراره ودرسه، وتعليمه، وتعلمه، وتصنيفه، والفتوى، والنصيحة، وقبول الأمانات، وأدائها، والقضاء، وإماطة الأذى عن الطريق، والإعانة على البر والتقوى، وشبهها كالأكل والشرب ينوي بها التقوي على الطاعة، والنوم ينوي به راحة البدن لينشط للعبادة، والجماع ينوي به المعاشرة بالمعروف وإيصالها حقها، وحصول ولد صالح يعبد الله، وإعفاف نفسه، وتحصين فرجه، وصيانة زوجه ونفسه من التطلع إلى الحرام، والفكر فيه، ومكابدة المشاق بالصبر عليه. وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي بضع أحدكم صدقة" وكذا ينوي بعمل معيشته منفعة المسلم، وأداء فرض الكفاية وما أشبه ذلك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية