الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              79 [ ص: 406 ] 20 - باب: فضل من علم وعلم

                                                                                                                                                                                                                              79 - حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". قال أبو عبد الله : قال إسحاق : وكان منها طائفة قيلت الماء. قاع: يعلوه الماء، والصفصف: المستوي من الأرض. [ مسلم: 2282 - فتح: 1 \ 175]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا محمد بن العلاء ثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". قال إسحاق : وكان منها طائفة قيلت الماء. قاع: يعلوه الماء، والمصطف: المستوي من الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 407 ] الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل من حديث حماد أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برواته:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بهم خلا شيخ البخاري وشيخ شيخه. أما شيخه فهو: محمد بن العلاء (ع)، أبو كريب الهمداني الكوفي . روى عنه: مسلم أيضا والأربعة وغيرهم وهو صدوق لا بأس به، وهو مكثر. قال أبو العباس بن سعيد : ظهر له بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              وأما شيخ شيخه فهو: أبو أسامة، (ع) حماد بن أسامة بن زيد الهاشمي القرشي الكوفي، مولى الحسن بن علي أو غيره.

                                                                                                                                                                                                                              روى عن بريد وغيره، وأكثر عن هشام بن عروة، له عنه ستمائة حديث. وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              وكان ثقة ثبتا صدوقا. روي عنه أنه قال: كتبت بأصبعي هاتين مائة ألف حديث.

                                                                                                                                                                                                                              مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل، وليس في الصحيحين من هو بهذه الكنية سواه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 408 ] وفي النسائي : أبو أسامة الرقي النخعي زيد بن علي بن دينار صدوق. وليس في الكتب الستة من اشتهر بهذه الكنية سواهما.

                                                                                                                                                                                                                              وبريد -بضم أوله- وأبو بردة، اسمه: عامر، على الأصح كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وأبو موسى اسمه: عبد الله بن قيس كما سلف كل ذلك في باب: أي الإسلام أفضل؟

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: قوله: (قال إسحاق ): كذا وقع في البخاري غير منسوب في غير ما موضع منه، وهو من المواضع المشكلة في البخاري، وهو يروي عن إسحاق جماعة، وقيل: إنه ابن راهويه .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو علي الجياني : روى البخاري عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وإسحاق بن إبراهيم السعدي، وإسحاق بن منصور الكوسج، عن حماد بن أسامة . وروى مسلم أيضا عن إسحاق بن منصور الكوسج، عن حماد أيضا هذا كلامه. وإسحاق هذا لا يخرج عن أحد هؤلاء ويظهر أن يكون ابن راهويه ; لإكثار البخاري عنه. وقد حكى الجياني عن ابن السكن الحافظ أن ما كان في كتاب البخاري عن إسحاق غير منسوب، فهو ابن راهويه .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في ضبط ألفاظه ومعانيه:

                                                                                                                                                                                                                              فـ "الغيث": المطر وغيثت الأرض فهي مغثة ومغيوثة، يقال: غاث الغيث الأرض إذا أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 409 ] قوله: "نقية" هو- بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة تحت- أي: طيبة كما جاء في رواية مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الخطابي وغيره بثاء مثلثة، ثم غين معجمة، ثم باء موحدة.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وهو: مستنقع الماء في الجبال والصخور.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : وهو تصحيف ولم نروه إلا "نقية" -بالنون - والذي ذكره الخطابي فيه قلب للمعنى; لأن الثغاب لا تنبت، وإنما يمكن حمله على الطائفة الثانية دون الأولى، وذكر بعضهم: "بقعة" بدل ذلك، والصحيح الأول وهو الرواية.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قبلت الماء) هو بالموحدة بعد القاف (والكلأ): مقصور مهموز، يقع على الرطب واليابس من النبات كما قاله الجوهري وغيره، ويطلق العشب والخلا على الرطب منه. وقال الخطابي وابن فارس : يقع الخلا على اليابس. وهو شاذ ضعيف، كما قاله النووي .

                                                                                                                                                                                                                              ويقال لليابس: الهشيم والحشيش. قال الجوهري : ولا يطلق الحشيش على الرطب. وهو ما نقله البطليوسي في "أدب الكاتب" عن الأصمعي، ونقل عن أبي حاتم إطلاقه عليه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 410 ] وقوله: "أجادب": هو: -بالجيم والدال المهملة- جمع جدب على غير قياس، وقياسه أن يكون جمع أجدب كما قالوا في جمع حسن: محاسن، وقياسه أن يكون جمع محسن، وفيه رواية ثانية: أنها بالمعجمة، حكاها القاضي، والخطابي وقال: هي صلاب الأرض التي تمسك الماء.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : لم يرو هذا الحرف في مسلم وغيره إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخصب. وعليه شرح الشارحون وصحفه، فقال بعضهم: أحارب -بالحاء والراء المهملتين - وليس بشيء كما قاله الخطابي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: أجارد -بالجيم والراء والدال- وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. قال الأصمعي : الأجارد من الأرض: التي لا تنبت الكلأ، معناه: أنها جرداء بارزة لا يسترها النبات. وقال بعضهم: إنما هي أخاذات -بالخاء والذال المعجمتين سقط منها الألف- جمع أخاذة وهي: المساكات التي تمسك الماء كالغدران.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وسقوا) (يقال): سقى وأسقى بمعنى، وقيل: سقاه: ناوله (ليشرب) وأسقاه: جعل له سقيا.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (طائفة أخرى) أي: قطعة أخرى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 411 ] و"القيعان" -بكسر القاف- جمع قاع وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها. ويجمع أيضا على قوع وأقواع.

                                                                                                                                                                                                                              والقيعة: -بكسر القاف- بمعنى القاع، والفقه: الفهم كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (من فقه): ضم القاف فيه أشهر من كسرها، والوجهان مرويان.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت الماء) قيده الأصيلي: بالمثناة تحت. قال: وهو تصحيف منه، وإنما هو بالباء الموحدة. وقال غيره: معناه: شربت القيل، وهو شرب نصف النهار، يقال: قيلت الإبل: إذا شربت نصف النهار. وقيل معناه: جمعت وحبست.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : ورواه سائر الرواة غير الأصيلي : قبلت. يعني: -بالموحدة- في الموضعين أول الحديث. وفي قول إسحاق، فعلى هذا إنما خالف إسحاق في لفظ (طائفة) جعلها مكان (نقية).

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (والمصطف): المستوي من الأرض، كذا وقع في نسخ والصواب (والصفصف): المستوي من الأرض وكذا ذكره البخاري في كتاب التفسير في سورة طه، وهذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى: قاعا صفصفا [طه: 106].

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه - صلى الله عليه وسلم - في السبر والتقسيم ورد الكلام بعضه على بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان، ثم جاء بعده بما تضمنه ذلك فقال: "فذلك مثل من فقه في دين الله" إلى آخره، فهو جامع لمراتب الفقهاء والمتفقهين، فالأول: مثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ [ ص: 412 ] والعشب الكثير، فانتفعت بالري والتريي في نفسها، وانتفع الناس بالرعي بما أنبتت، فهذا كالذي فقه في نفسه، وكان قلبه نقيا من الشكوك، فعلم ما يحمله وعلمه الناس.

                                                                                                                                                                                                                              والثاني: مثل الأرض التي أمسكت الماء، فانتفع الناس به فشربوا وسقوا وزرعوا، فهذا كالذي حمل علما وبلغه غيره، فانتفع به ذلك الغير.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : قوله: (وزرعوا) راجع إلى المثال الأول أيضا; إذ ليس في المثال الثاني أنها أنبتت شيئا.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لكن المراد أنهم انتفعوا بالماء فزرعوا عليه، فلا حاجة إلى كونها أنبتت.

                                                                                                                                                                                                                              والثالث: مثل الأرض السباخ التي لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، فهذا كالذي سمع العلم فلم يحفظه ولم يعه، فلم ينتفع ولم ينفع غيره.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية