الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4 [ ص: 304 ] - باب

                                                                                                                                                                                                                              4 - قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال- وهو يحدث عن فترة الوحي فقال- في حديثه: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت زملوني. فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع. تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح. وتابعه هلال بن رداد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره. [3238، 4922، 2923، 4924، 4925، 4926، 4954، 6214 - مسلم 161 - فتح 1 \ 27]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري رحمه الله:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال -وهو يحدث عن فترة الوحي فقال- في حديثه: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث اتفقا عليه، أخرجه البخاري هنا وفي الأدب، وفي التفسير أتم من هذا، وأوله عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت [ ص: 305 ] أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن قال: يا أيها المدثر [المدثر: 1] قلت: يقولون: اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك قلت له مثل الذي قلت. فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري" ثم ذكر نحوه. وقال في التفسير: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب ح، و(ثنا) عبد الله بن محمد، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري أخبرني فذكره، وأخرجه مسلم بألفاظ.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برجاله:

                                                                                                                                                                                                                              أما جابر بن عبد الله فهو أبو عبد الله ويقال: أبو محمد ويقال: أبو عبد الرحمن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام -بالحاء المهملة والراء- بن عمرو بن شاردة بن تزيد -بالتاء المثناة فوق- ابن جشم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- بن الخزرج الأنصاري السلمي -بفتح السين واللام وحكي في لغة كسرها- المدني أحد الستة المكثرين.

                                                                                                                                                                                                                              روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعون حديثا، أخرجا له مائتي حديث وعشرة أحاديث، اتفقا منها على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، وهو من فضلاء الصحابة وكبارهم. روى عنه بنوه محمد [ ص: 306 ] وعقيل، وعبد الرحمن وغيرهم. شهد العقبة مع أبيه -يعني: الثانية- مع السبعين وكان أبوه أحد النقباء الاثني عشر، وكان جابر أصغرهم يومئذ.

                                                                                                                                                                                                                              وقال عن نفسه: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي. أخرجه مسلم، واستغفر له النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة البعير خمسا وعشرين مرة، أمه نسيبة بنت عقبة بن عدي.

                                                                                                                                                                                                                              مات بعد أن عمي سنة ثمان أو ثلاث أو أربع أو تسع وسبعين وقيل: سنة ثلاث وستين وكان عمره أربعا وتسعين سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              وكان أبيض الرأس واللحية يصفرهما بالورس. وكان يحفي شاربه ويؤم قومه وهو أعمى، وهو آخر الصحابة موتا بالمدينة، وقال أبو نعيم: إنما هو آخر العقبيين موتا بالمدينة، وقال يعقوب بن [ ص: 307 ] سفيان الفسوي : آخرهم موتا بالمدينة جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سناد، لا جابر هذا.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              جابر بن عبد الله في الصحابة ثلاثة: هذان، وجابر بن عبد الله الراسبي، نزيل البصرة، وأما جابر في الصحابة فأربعة وعشرون نفرا.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              جابر بن عبد الله في غير الصحابة خمسة:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهم: سلمي يروي عن أبيه، عن كعب الأحبار.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهم: محاربي عنه الأوزاعي.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثهم: غطفاني روى عن عبد الله بن الحسن العلوي.

                                                                                                                                                                                                                              رابعهم: مصري، عنه يونس بن عبد الأعلى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 308 ] خامسهم: يروي عن الحسن البصري وكان كذابا.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثالثة:

                                                                                                                                                                                                                              جابر يشتبه بجاثر -بالمثلثة بدل الموحدة-، وبخاتر -بخاء معجمة ثم ألف ثم مثناة فوق ثم راء- فالأول: القبيلة التي بعث الله منها صالحا وهم ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح وأخوه جديس بن جاثر، والثاني: سابر خاتر مغن له أخبار وحكايات مشهورة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أبو سلمة فهو عبد الله أو إسماعيل -أو اسمه كنيته أقوال- ابن عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري المدني التابعي الإمام الجليل المتفق على إمامته وجلالته وثقته، وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال كما سلف في ترجمة عروة، سمع جمعا من الصحابة والتابعين، وعنه خلائق من التابعين، منهم الشعبي فمن بعدهم، قال ابن سعد: كان ثقة فقيها كثير الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزهري فيما حكاه ابن أبي خيثمة: كان (أبو سلمة) يماري ابن عباس فحرم من ذلك علما كثيرا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب: قدم علينا أبو سلمة وكان صبيحا كأن وجهه دينار هرقلي، أمه تماضر -بضم التاء المثناة فوق وكسر المعجمة- بنت الأصبغ الكلبية من أهل دومة الجندل، وهي أول كلبية نكحها قرشي وهي التي طلقها عبد الرحمن بن عوف في [ ص: 309 ] مرضه فورثها عثمان، وخالفه ابن الزبير.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد بإسناده أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الرحمن بن عوف إلى كلب وقال له: "إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم أو سيدهم" فلما قدم عبد الرحمن دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا وأقام من أقام على إعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ بن عمرو ملكهم، ولم تلد لعبد الرحمن غير أبي سلمة. مات بالمدينه سنة أربع وتسعين عن اثنتين وتسعين في خلافة الوليد، قال ابن سعد: وهذا أثبت من قول من قال: إنه توفي سنة أربع ومائة. وأما الزهري فسلف في الحديث قبله.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كله مدنيون، وفيه أيضا رواية تابعي عن تابعي.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثالث: الأنصاري: سلف في الحديث الأول بيان نسبة الأنصار وسبب تسميتهم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: في ألفاظه ومعانيه وفوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: فترة الوحي احتباسه بعد متابعته وتواليه في النزول كما سلف في آخر الحديث قبله.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: قوله: ("بينا أنا أمشي") قال الجوهري: (بينا) فعلى، أشبعت الفتحة فصارت ألفا ويزاد عليها (ما) فيقال: بينما والمعنى [ ص: 310 ] واحد تقول: بينا نحن نرقبه أتانا، وكان الأصمعي يخفض بعد بينا إذا صلح في موضعه بين، وغيره يرفع ما بعد بينا وبينما على الابتداء.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: قوله: ("فرعبت منه") هو بضم الراء وكسر العين ويجوز فتح الراء وضم العين قال القاضي عياض : قيده الأصيلي بهذا وغيره بالأول على ما لم يسم فاعله وهما صحيحان، حكاهما الجوهري.

                                                                                                                                                                                                                              قال يعقوب: رعب، ورعب. واقتصر النووي في القطعة التي له على هذا الكتاب، على الأول وقال بعضهم الرواية بضم العين واللغة بفتحها حكاه السفاقسي، والرعب: الخوف، تقول: رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته، ولا يقال: أرعبته، تقول: رعب الرجل على وزن فعل كضرب بمعنى خوفه، هذا إذا عديته فإن ضممت العين قلت: رعبت منه وإن بنيته لما لم يسم فاعله ضممت الراء فقلت: رعبت منه، وفي البخاري في التفسير ومسلم هنا: "فجئثت منه" بالجيم ثم همزة مكسورة بعدها مثلثة، قال القاضي: كذا هو للكافة في الصحيحين، ولبعضهم بجيم ثم مثلثتين قال: ومعناها فرعبت [ ص: 311 ] منه، وفي بعض الروايات: ("حتى هويت إلى الأرض") أي: سقطت، أخرجها مسلم، وفي بعضها "فأخذتني رجفة" وهي كثرة الاضطراب، والمعنى في كلها متقارب.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: قوله: ("فقلت زملوني زملوني") كذا هو في أكثر الأصول.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بعضها: "زملوني" مرة، وللبخاري في التفسير، ولمسلم أيضا: "دثروني" وهو كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: قوله ("فأنزل الله -عز وجل- يا أيها المدثر ") وهذا مما اغتر به جماعة فزعموا أن أول ما نزل من القرآن يا أيها المدثر وقد سلف بيان ذلك في الحديث قبله، وأنه أيضا مما أنزل من القرآن أول.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو حاتم بن حبان في "صحيحه": ليس بين الخبرين تضاد إذ الله أنزل: اقرأ [العلق:1] وهو في الغار بحراء، فلما رجع إلى بيته دثرته خديجة وصبت عليه الماء البارد، فأنزل عليه في بيتها: يا أيها المدثر .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال أبو العباس القرطبي: إن حديث جابر أولى من حديث عائشة; إذ حديثها بحراء وحديثه بعد أن رجع إلى خديجة فدثروه.

                                                                                                                                                                                                                              والمدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بمعنى، وسماه تعالى بذلك [ ص: 312 ] إيناسا وتلطفا، ثم الجمهور على أن معناه: المدثر بثيابه. وحكى الماوردي عن عكرمة أن معناه: المدثر بالنبوة وأعبائها.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: قم فأنذر : حذر العذاب من لم يؤمن، وفيه دلالة على أنه أمر بالإنذار عقب نزول الوحي; للإتيان بفاء التعقيب، وإنما أمر بالإنذار دون البشارة وهو - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل بشيرا ونذيرا; لأن البشارة إنما تكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه، وربك فكبر [المدثر: 3]، أي: عظمه ونزهه عما لا يليق به.

                                                                                                                                                                                                                              وثيابك فطهر [المدثر: 4]، إما من النجاسة -على مذهب الفقهاء- وإما تقصيرها، وقيل المراد بالثياب: النفس أي: طهرها من كل نقص أي: اجتنب النقائص.

                                                                                                                                                                                                                              والرجز بكسر الراء في قراءة الأكثرين، وقرأ حفص عن عاصم بضمها، وهي: الأوثان في قول الأكثر، وفي مسلم التصريح به، وفي التفسير عن أبي سلمة التصريح به، وقيل: الشرك وقيل: الذنب وقيل: الظلم، وأصل الرجز في اللغة: العذاب، وسمي عبادة الأوثان وغيرها من أنواع الكفر رجزا; لأنه سبب العذاب.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: قوله: (فحمي الوحي وتتابع) هما بمعنى فأكد أحدهما بالآخر، وحمي -بفتح الحاء وكسر الميم- معناه: كثر نزوله وازداد من قولهم: حميت النار والشمس، أي: كثرت حرارتها، ومنه قولهم: حمي الوطيس. والوطيس: التنور، استعير للحرب، وإنما عبرت [ ص: 313 ] بقولها: فحمي تتميما منها للتمثيل الذي مثلت به أولا، وهو كونها جعلت الرؤيا كمثل فلق الصبح; فإن الضوء لا يشتد إلا مع قوة الحر وألحقت ذلك بقولها: وتتابع، لئلا يقع التمثيل بالشمس من كل الجهات; لأن الشمس يلحقها الأفول والكسوف ونحوهما وشمس الشريعة باقية على حالها لا يلحقها نقص.

                                                                                                                                                                                                                              السابع: قوله: ("فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي")، الكرسي معروف، وضم كافه أفصح، والأشهر من كسرها، وجمعه: كراسي بتشديد الياء وتخفيفها لغتان، وكذا كل ما كان من هذا النحو مفرده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف؛ كـ(سرية، وعارية) ونظائرهما، كما نبه عليه ابن السكيت في "إصلاحه"، ورواية العرش التي أسلفناها في أواخر الحديث الذي قبله يفسرها الكرسي المذكور.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أهل اللغة: العرش: السرير، وقال الماوردي في "تفسيره": أصل الكرسي: العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم: كراسة.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل في قوله: وسع كرسيه [البقرة: 255]، أي: علمه، من [ ص: 314 ] قولهم: كرس الرجل إذا ازدحم علمه على قلبه، وقرأ طاوس (كرسيه) بالكسر.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن: قوله: ("جالس") كذا الرواية في البخاري، وفي مسلم "جالسا"، قال النووي: كذا هو في الأصول وهو منصوب على الحال.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع: قال القاضي: في هذا الحديث تحقيق العلم بتصور الملائكة على صور مختلفة، وإقدار الله لهم على التركيب في أي شكل شاءوا من صور بني آدم وغيرهم، وأن لهم صورا في أصل خلقهم مخصوصة بهم، كل منهم على ما خلق عليه. وقد جاء في مسلم عن ابن مسعود في قوله تعالى: ولقد رآه نزلة أخرى [النجم: 13] قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. وذكره البخاري في [ ص: 315 ] بدء الخلق أيضا، قال العلماء: رآه على هذه الصورة مرتين، قال تعالى: رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير [فاطر: 1] قال أهل التفسير: أي في خلق الملائكة في الأجنحة كجبريل ونحوه من الملائكة، وكذا جاء في البخاري في بدء الخلق، عن ابن مسعود أيضا في قوله تعالى: قاب قوسين أو أدنى [النجم: 9] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح. وفي حديث عائشة: رأى جبريل سادا ما بين الأفق.

                                                                                                                                                                                                                              العاشر: فيه إظهار لقدرة الله تعالى; إذ جعل الهواء للملائكة يتصرفون فيه كيف شاءوا، كما جعل الأرض لبني آدم يتصرفون فيها كيف شاءوا، فهو ممسكهما بقدرته وأراه ذلك بقوته له; حتى يرجع إلى عين اليقين.

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري -رحمه الله-: تابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح.

                                                                                                                                                                                                                              وتابعه هلال بن رداد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              الأول:

                                                                                                                                                                                                                              الضمير في: (تابعه) أولا، يعود على يحيى بن بكير شيخ البخاري، [ ص: 316 ] ومعناه: أن عبد الله وأبا صالح تابعا يحيى بن بكير. فرواه عن الليث ثلاثة يحيى وعبد الله وأبو صالح، والضمير في قوله: (وتابعه) ثانيا يعود على عقيل أي: تابع هلال عقيلا، رواه عن الزهري أيضا، وهو متابعتان (في مرتين)، والمتابعة الأولى أقوى كما أسلفناه في الفصول أول هذا الشرح.

                                                                                                                                                                                                                              وطريقتك في معرفة المتابعة الأولى: أن تنظر طبقة المتابع -بكسر الباء- فتجعله متابعا لمن هو في طبقته; بحيث يكون صالحا لذلك، ولهذا لم يسم البخاري هنا المتابع عليه بخلاف الثانية فإنه سماه.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وقال يونس ومعمر: بوادره.) مراده: أن أصحاب الزهري اختلفوا في هذه اللفظة، فروى عقيل، عن الزهري في الحديث: يرجف فؤاده. كما سلف، وتابعه على هذه اللفظة هلال بن رداد، وخالفه يونس ومعمر فرويا عن الزهري: ترجف بوادره.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: في التعريف بأحوال هؤلاء الرواة:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بالزهري في الحديث الثالث، وبعبد الله بن يوسف في الحديث الثاني.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 317 ] وأما أبو صالح فاسمه عبد الغفار بن داود بن مهران بن زياد بن داود بن ربيعة بن سليمان بن عمير البكري الحراني، ولد بإفريقية سنة أربعين ومائة، وخرج به أبوه وهو طفل إلى البصرة، وكانت أمه من أهلها، فنشأ بها وتفقه وسمع الحديث من حماد بن سلمة، ثم رجع إلى مصر مع أبيه فسمع من الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهما، وسمع بالشام إسماعيل بن عياش، و(بالجزيرة) موسى بن أعين، واستوطن مصر وحدث بها فروى عنه جماعة من أهلها ومن الغرباء، وكان يكره أن يقال له: الحراني، وإنما قيل له: الحراني; لأن أخويه عبد الله وعبد الرحمن ولدا بها ولم يزالا بها، وحران مدينة بالجزيرة من ديار بكر، سميت بحران بن آزر أخي إبراهيم -عليه السلام-. روى عنه يحيى بن معين والبخاري. وروى أبو داود عن رجل عنه وخرج له النسائي، وابن ماجه أيضا. مات بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              أبو صالح في الرواة في مجموع الكتب الستة بزيادة أربعة عشر، هذا وأبو صالح الأشعري الشامي، وأبو صالح الأشعري أيضا ويقال: الأنصاري، وأبو صالح الجهني المصري -كاتب الليث بن سعد- اسمه عبد الله بن صالح -وأبو صالح الحارثي، وأبو صالح الحنفي اسمه عبد الرحمن بن قيس، ويقال: إنه ماهان، وأبو صالح الخوزي لا نعرف اسمه، وأبو صالح السمان ذكوان، وأبو صالح الغفاري [ ص: 318 ] سعيد بن عبد الرحمن، وأبو صالح المكي محمد بن زنبور، روى عن عيسى بن يونس، وأبو صالح مولى طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، وأبو صالح مولى عثمان بن عفان، وأبو صالح مولى ضباعة اسمه مينا، وأبو صالح مولى أم هانئ اسمه باذان، وكلهم تابعيون خلا ابن زنبور وكاتب الليث، وبعضهم عد الأخير صحابيا وله حديث رواه الحسن بن سفيان في "مسنده"، وليس في الصحابة على تقديرها من يكتني بهذه الكنية غيره، واحترزت بقولي: في الكتب الستة بزيادة عن أبي صالح الواقع في غيرها فإنهم جماعات فوق العشرة وقد بين ذلك الرامهرمزي في "فاصله".

                                                                                                                                                                                                                              وأما هلال بن رداد فبراء في أوله وبدالين الأولى مشددة، وهو طائي حمصي الكناني الكاتب، أخرج له البخاري هنا متابعة لعقيل، وليس له ذكر في البخاري إلا في هذا الموضع ولم يخرج له باقي الكتب الستة، روى عن الزهري، وعنه ابنه أبو القاسم محمد. قال الذهلي: كان كاتبا لهشام، ولم يذكره البخاري في "تاريخه"، ولا ابن [ ص: 319 ] أبي حاتم في كتابه، وإنما ذكر ابن أبي حاتم ولده محمدا، وليس له ذكر في الكتب الستة، قال ابن أبي حاتم: هلال بن رداد مجهول. ولم يذكره الكلاباذي في رجال الصحيح رأسا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما يونس فهو أبو يزيد يونس بن يزيد، ويقال بعد يزيد: ابن مشكان بن أبي النجاد -بكسر النون- الأيلي -بفتح الهمزة وبالمثناة- القرشي مولى معاوية بن أبي سفيان، وأخو أبي علي بن يزيد، وعم عبسة بن خالد بن يزيد سمع خلقا من التابعين، منهم: القاسم، وعكرمة، وسالم، ونافع، والزهري، وغيرهم، وعنه الأعلام جرير بن حازم وهو تابعي فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، والأوزاعي والليث وخلق، وكان الزهري إذا قدم أيلة نزل عليه وإذا سار إلى المدينة زامله يونس، وقال أحمد: ما أجد أعلم بحديث الزهري من معمر إلا ما كان من يونس فإنه كتب كل شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال يحيى: يونس أسند من معمر وهما ثقتان وكان معمر أجل، وفي رواية عنه: يونس أسند من الأوزاعي -يعني: عن الزهري- وقال يحيى أيضا: أثبت الناس في الزهري مالك ومعمر ويونس وعقيل وشعيب وابن عيينة، وقال أحمد بن صالح: نحن لا نقدم في الزهري على يونس أحدا. وأما وكيع فقال: ذاكرت يونس بأحاديث الزهري المعروفة فجهدت أن يقيم لي حديثا فما أقامه، وفي لفظ: فلم يكن يحفظ. حكاه العجلي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 320 ] وقال خالد بن نزار فيما حكاه المنتجالي: كان الأوزاعي يحصي على يونس بن يزيد. مات سنة تسع وخمسين ومائة بمصر، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في يونس ستة أوجه بتثليث النون مع الجمزة وعدمه، والضم بلا همز أفصح.

                                                                                                                                                                                                                              وأما معمر فهو أبو عروة معمر بن أبي عمرو، راشد الحداني الأزدي مولاهم عالم اليمن شهد جنازة الحسن البصري، وسمع خلقا من التابعين منهم: عمرو بن دينار وأيوب وقتادة، وعنه جماعات من التابعين منهم: عمرو بن دينار وأبو إسحاق السبيعي وأيوب ويحيى بن أبي كثير وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، وعنه أيضا جماعات غيرهم منهم: ابن جريج، وشعبة، وابن المبارك، قال عبد الرزاق: سمعت منه عشرة آلاف حديث، وآخر من حدث عنه محمد بن كبير [ ص: 321 ] الصنعاني. قال معمر: جلست إلى قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة فما سمعت منه حديثا إلا كأنه ينقش في صدري. ولما دخل معمر اليمن كرهوا أن يخرج من بينهم فقال رجل: قيدوه فزوجوه. مات باليمن سنة أربع أو ثلاث أو اثنتين وخمسين ومائة، عن ثمان وخمسين سنة، وقيل: مات سنة خمسين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو القاسم الطبراني : كان معمر بن راشد وسلم بن أبي الذيال فقدا فلم ير لهما أثر، قال الخطيب: حدث عنه عمرو بن دينار المكي وعبد الرزاق بن همام وبين وفاتيهما ست -وقيل: خمس- وثمانون سنة، ثم اعلم أن معمرا له أوهام معروفة احتملت له في سعة ما أتقن، قال أبو حاتم: صالح الحديث وما حدث به بالبصرة ففيه أغاليط، وضعفه يحيى بن معين في روايته عن ثابت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 322 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الصحيحين معمر بن راشد غير هذا بل ليس فيهما من اسمه معمر غيره، نعم، في "صحيح البخاري" معمر بن يحيى بن سام الضبي وقيل: إنه بتشديد الميم روى له البخاري حديثا واحدا في الغسل، وفي الصحابة معمر ثلاثة عشر، وفي الرواة معمر في الكتب الأربعة ستة، وفيها معمر بالتشديد يخلف خمسة، وفي غيرها خلق: معمر بن بكار شيخ لمطين في حديثه وهم، ومعمر بن [ ص: 323 ] الحسن الهذلي مجهول وحديثه منكر، ومعمر بن زائدة لا يتابع على حديثه، ومعمر بن زيد مجهول، ومعمر بن أبي سرح مجهول، ومعمر بن عبد الله، عن شعبة لا يتابع على حديثه، وغير ذلك مما ذكرته في "مشتبه النسبة".

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              هاتان المتابعتان اشتملتا على مدني ومصري وحمصي ويمني كما أوضحته لك.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              البوادر بفتح الباء الموحدة جمع بادرة وهي: اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان، قال أبو عبيدة: تكون من الإنسان وغيره، وقال الأصمعي: الفريصة: اللحمة التي بين الجنب والكتف، التي لا تزال ترعد من الدابة وجمعها فرائص.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيده في "المخصص": البادرتان من الإنسان لحمتان فوق [ ص: 324 ] الرغثاوين وأسفل الثندوة. قال: وقيل: هما جانبا الكركرة، وقيل: هما عرقان يكتنفانها، قال: والبادرة من الإنسان وغيره. وقال في "أماليه": ليست للشاة بادرة، ومكانها صردغة للشاة وهما الأوليان تحت صليفي العنق لا عظم فيها، وادعى الداودي أن البوادر والفؤاد واحد، والذي عند أهل اللغة ما سقناه.

                                                                                                                                                                                                                              وحين انقضى الكلام على حديث عائشة وجابر في بدء الوحي فلنختمه بدرر التقتطها من بحر سيدي أبي محمد عبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، بلدي والدي تغمدهما الله برحمته، وهو حديث اشتمل على أحكام وآداب وقواعد من أصول الدين والسلوك والترقي:

                                                                                                                                                                                                                              والدرة الأولى: أن الهداية منه لا بسبب; لأنه - صلى الله عليه وسلم - جبل على الخير ابتداء من غير أن يكون معه من يحرضه عليه فحبب إليه الخلاء، لأنها عبادة.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: مداومة العبادة لتحنثه الليالي.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: أن التبتل الكلي والانقطاع الدائم ليس من السنة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقطع في الغار وترك أهله.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: أن العبادة لا تكون إلا مع إعطاء الحقوق الواجبة وتوفيتها; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرجع إلى أهله إلا لإعطاء حقهم، فكذا غيره من الحقوق.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: أن الرجل إذا كان صالحا في نفسه تابعا للسنة يرجى (أن) الله تعالى يؤنسه بالمرائي الحميدة إذا كان في زمان مخالفة وبدع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 325 ] السادسة: أن البداءة ليست كالنهاية; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدئ في نبوته بالمرائي ثم ترقى حتى جاءه الملك يقظة، ثم ما زال في الترقي حتى كان كقاب قوسين أو أدنى. كذلك الأتباع يترقون في مقام الولايات ما عدا مقام النبوة حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، فمن نال مقاما فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، ويشهد لذلك ما حكي عن بعضهم أنه ما زال في الترقي إلى أن سرى سره من سماء إلى سماء إلى قاب قوسين أو أدنى فنودي: هنا سري بذات محمد السنية حيث سري بسرك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 326 ] السابعة: أن المربي أفضل من غيره.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: أن الأولى بأهل البداءة الخلوة والاعتزال ولما صار مآله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما صار كان إذا سجد غمز أهله فتضم رجلها حيث سجد.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: أن الخلوة عون الإنسان على تعبده وصلاحه.

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: مشروعية التسبب في الزاد لدخول الخلوة أو المعتكف، إظهار لوصف العبودية وفي مخالفته نوع ادعاء، ولهذا كان بعض أهل الطريق إذا دخل خلوته أخذ رغيفا وألقاه تحت وسادته، وواصل [ ص: 327 ] أياما. ولأن في اتخاذه أيضا قطع تشوف النفس وقلقها والفيض من الله.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة: أن المرء إذا خرج لتعبده يعلم أهله; لأنه معرض هو وهم للآفات، ولأن فيه إدخال السرور عليهم (بإعلامه لهم)، وفيه أيضا الإعلام بموضعه ليرافق في التعبد والانقطاع.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية عشرة: أن الشغل اليسير الضروري لا يكون قاطعا للعبادة; لأنها أخبرت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتحنث الليالي ولم تذكر ذلك في رجوعه إلى أهله، فدل على أن ذلك هو الكثير.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة: جواز التورية، وهي إظهار شيء والمراد خلافه إذا كان فيه مصلحة; لأن جبريل كان يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - غير قارئ، ولكن قال له ذلك; ليتوصل به إلى ما يريد من الغط كما سلف، وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى جهة ورى بغيرها، ولو كان غطه له بغير سبب; لكان ذلك زيادة في النفور والوحشة.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة: أن أمر السائل إذا كان يحتمل وجهين أو وجوها فيجاب بأظهرها ويترك ماعداها; لأنه لما كان لغط جبريل -عليه السلام- يحتمل طلب القراءة منه - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وهو الأظهر ويحتمل طلبها منه لما يلقى إليه، وهو المقصود في هذا الموضع لما ظهر بعد، أجاب - صلى الله عليه وسلم - بالأظهر وهو المعهود من الفصحاء في مخاطباتهم.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة: فيه دلالة لمن ذهب من العلماء أن أول الواجبات الإيمان دون النظر، والاستدلال شرط كمال لا شرط صحة; لأن قوله تعالى: اقرأ باسم ربك [العلق: 1]، تمت به الفائدة وحصل به الإيمان المجزئ، وقوله بعده الذي خلق خلق الإنسان من علق [العلق 1: 2] [ ص: 328 ] هو طلب النظر والاستدلال وهو زيادة كمال الإيمان; لأنهم أكمل الناس إيمانا، ويشهد لذلك الحديث الصحيح: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ولم يشترط نظرا ولا استدلالا.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة: سر نزول هذه السورة أولا: أنها دلت منطوقا ومفهوما على ما تضمنه القرآن إجمالا، فإن كل ما في القرآن من آيات الإيمان والتوحيد والتنزيه دل عليه مضمون اسم الربوبية، وما كان فيه من الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والندب والإرشاد، والمحكم والمتشابه دل عليه مضمون مقتضى حكمة الربوبية، وما كان فيه من استدعاء الفكر والنظر والاستدلال وما أشبه ذلك دل عليه متضمن قوله: الذي خلق خلق الإنسان من علق [العلق:1 - 2]، وما كان فيه من المغفرة والرحمة والإيناس والإنعام والترجي والإحسان والإباحة، وما أشبه ذلك دل عليه متضمن كرم الربوبية، ثم بعد هذا الإجمال نزلت الآيات مفصلة ولما كملت قال الله تعالى:اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3].

                                                                                                                                                                                                                              السابعة عشرة: فيه إشارة إلى التسلي والصبر عند نزول الحوادث والوعد بالنصر كما في خلقه أولا علقة، ثم طوره وأخرجه إلى الوجود، فالإخراج يقابله الخروج، والتطوير يقابله التغيير.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة عشرة: جواز تأديب المعلم للمتعلم وقد مضى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 329 ] التاسعة عشرة: أن كتاب الله تعالى لا يؤخذ إلا بقوة; لأن جبريل ضمه - صلى الله عليه وسلم - إليه ليتلقى الأمر بأهبة، ويأخذه بقوة، وقد قال تعالى ليحيى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة [مريم: 12].

                                                                                                                                                                                                                              العشرون: أن بالغط يحصل في الباطن قوة تعين على حمل الملقى إليه.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية بعد العشرين: مذهب أهل السنة أن النوع الإنساني أفضل من الملائكة، وإنما حصل لجبريل هذه القوة; لأنه كان حاملا لكلام الله تعالى في ذلك الوقت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 330 ] الثانية بعد العشرين: فيه دلالة لما تقوله الصوفية أن التحلي لا يكون بعد التخلي فتخلى أولا بالجهد ثم تحلى بإلقاء الوحي إليه.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة بعد العشرين: حكمة الغط ثلاثا من غير زيادة ولا نقصان [ ص: 331 ] وجهان: أحدهما: أن البشرية فيها عوالم مختلفة منها العقل وموافقة الملك، ومنها النفس والطبع والشيطان وموافقتهم الهوى والغفلة والعادة المذمومة، وهي أشدها لقول الأمم الماضية: إنا وجدنا آباءنا على أمة [الزخرف: 22]. وقد قال الأطباء: إن العادة طبع خامس، فكانت تلك الغطات مذهبة لتلك الخصال الثلاثة وموافقيها، وبقي العقل والملك (اللذين) هما قابلان للحق والنور، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - مطهرا من الشيطان ومثل ذلك قوله تعالى: وثيابك فطهر [المدثر: 4] وثيابه لا شك في طهارتها على كل تأويل، لكن هذا مقتضى الحكمة في تكليف البشرية وترقيها.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أن (الدين) على ثلاث مراتب إيمان وإسلام وإحسان، فكانت تلك الغطات مبالغة في التحلي بكلها; لأن إيمانهم أقوى من إيمان أتباعهم لعلو مقامهم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة بعد العشرين: فيه دلالة على أن التحلي مكتسب وفيض من الرب جل جلاله، وقد جمعا له - صلى الله عليه وسلم - بالتحنث والغط، وقد يجتمعان لأفراد من أمته، وقد ينفرد بعض بالكسب وبعض بالفيض كالفضيل [ ص: 332 ] وابن أدهم وكثير ما هم.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة بعد العشرين: أن الإنسان إنما يخاطب أولا بما يعرف أنه يصل إلى فهمه بسرعة من غير مشقة ولا بحث يحتاج إليه; لأن الله تعالى قد أحال نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أن ينظر أولا في خلق نفسه بقوله: خلق الإنسان من علق [العلق: 2] ولم يقل له: الذي خلق السموات والأرض والأفلاك وغير ذلك، وإنما قال له ذلك بعد ما تقرر له خلق نفسه.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة بعد العشرين: أن الفكرة أفضل الأعمال; لأن في ضمن قوله: خلق الإنسان من علق ما يستدعي الفكرة فيما قبل حتى يحصل بذلك القطع. وليس الإيمان به بعد الفكرة كالإيمان به بديهة. ولهذا المعنى أشار - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" وفي [ ص: 333 ] لفظ: "خير من عبادة الدهر" ; لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة بعد العشرين: أن المتفكر ينظر بعد العظمة والجلال في العفو والكرم; لأنه عقب ما مضى بقوله: اقرأ وربك الأكرم [العلق: 3].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 334 ] الثامنة بعد العشرين: أن من أصابه أمر له أن يتداوى بحسب ما اعتاد ما لم يكن حراما; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أن أصابه الرعب رجع إلى ما اعتاد من التدثير وقال: "زملوني زملوني".

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة بعد العشرين: طلب الاختصار لقوله، وأخبرها الخبر ولم يأت به الراوي مفصلا.

                                                                                                                                                                                                                              الثلاثون: أن الواقع إذا وقع لأهل الطريق، وكان يحتمل التخويف والبشارة بحثوا عن الخوف وإن كان ضعيفا.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية بعد الثلاثين: جواز الحكم بالعادة، وذلك حيث لا خلل; لأن خديجة حكمت بما أجرى الله تعالى من عادته فيما ادعته، وورقة أخبر بأنه الناموس عملا بالعادة.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية بعد الثلاثين: جواز الحلف على العادة المجراة على العباد.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة بعد الثلاثين: أن المرء إذا أصابه أمر مهم له أن يحدث بذلك أهله ومن يعتقد من أصحابه إذا كانوا ذا دين ونظر.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة بعد الثلاثين: أن من ادعى شيئا فعليه أن يأتي بالدليل على صدق دعواه.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة بعد الثلاثين: أن المرء إذا وقع له واقع أن يسأل عنه أهل العلم والنهي.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة بعد الثلاثين: جواز خروج المرأة مع زوجها.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة بعد الثلاثين: أن من وصف أمرا لا يزيد على ما فيه من الصفات الحميدة; لأن الراوي أخبر عن ورقة بما فيه من غير زيادة.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة بعد الثلاثين: أن أهل الفضل إذا استشاروا امرأ في شيء بادر المستشار في عونهم ومشاركتهم; لأن خديجة بادرت إلى الخروج من [ ص: 335 ] غير أن تقول: امضي إلى فلان.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة بعد الثلاثين: أن المرء إذا عرضت له حاجة عند أهل الفضل فالسنة فيه أن يقدم إليه من يدل عليهم إن وجد ذلك; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمض وحده لورقة وإنما مضى مع خديجة التي هي من قرابة ورقة.

                                                                                                                                                                                                                              الأربعون: أن من كان سفيرا بين أهل الفضل أن يتحرز في كلامه بينهم ويعطي لكل واحد منهم مرتبته ومنزلته; لأن خديجة قالت لورقة: (اسمع من ابن أخيك); لأنه أعز وأرفع له - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لم تعبر بالابن لاقتضائه رفعة الأب عليه، ولا بالأخ; لاقتضائه المساواة.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية بعد الأربعين: التقدم في الكلام عن أهل الفضل نيابة عنهم وترفيعا لهم; لأن خديجة بادرت في الكلام لورقة قبله - صلى الله عليه وسلم - خدمة له وتكريما.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية بعد الأربعين: أن صاحب الواقعة أولى بذكرها من غيره; لأن خديجة رضي الله عنها أحالت عليه - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة بعد الأربعين: تمني الخير لنفسه; لأن ورقة تمنى أن يكون جذعا عند الرسالة.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة بعد الأربعين: أن العالم بالشيء يعرف مآله على جري العادة، له أن يحكم بالمآل إذا رأى المبادئ; لأن ورقة لما أن علم برسالته علم بإخراجه، وفيه أيضا الحكم بالعادة.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة بعد الأربعين: أن التجربة تحدث علما زائدا; فإنه - صلى الله عليه وسلم - طرد الحكم وقاس عليه، وورقة أخبر بما جرت به العادة وأفادته التجربة، ولهذا قال لقمان لولده: يا بني عليك بذوي التجارب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 336 ] السادسة بعد الأربعين: فيه دلالة للصوفية في قولهم استصحاب العمل وترك الالتفات ودوام الإقبال; لأن النظر إلى (كثرة) العمل تورث الكسل، فكيف به إذا كان النظر لغير العمل؟ ومنه قولهم للوقت: سيف. المراد: اقطع الوقت بالعمل; لئلا يقطعك بالتسويف.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية