الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              164 [ ص: 204 ] 30 - باب: غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين

                                                                                                                                                                                                                              166 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن سعيد المقبري، عن عبيد بن جريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا بن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية. قال عبد الله: أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتيه فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعل التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته. [1514، 1552، 1609، 2865، 5851، 1554 - مسلم: 1187 ، 1267 - فتح: 1 \ 268]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن سعيد المقبري، عن عبيد ابن جريج، أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها. قال: وما هي يا بن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية. قال عبد الله: أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعل التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال فإني لم أر [ ص: 205 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته.

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه أيضا في اللباس.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم، وأبو داود في الحج، والترمذي في "شمائله".

                                                                                                                                                                                                                              وتابع عبد الله بن قسيط سعيدا فرواه عن عبيد.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: في التعريف برواته:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بهم خلا عبيد (خ. م. د. س. ق) بن جريج، وهو مدني ثقة مولى بني تيم كما قال البخاري، أو بني تميم كما قاله ابن إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              وجه مطابقة الحديث للترجمة أن ابن عمر حكى من فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يلبس النعال ويتوضأ فيها، ويلزم منه عدم المسح عليها، وحقيقة الوضوء فيها أن يكون في حال كونه لابسها، وإن كان النووي في "شرح مسلم"

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 206 ] قال: معناه يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان; لا جرم قال الإسماعيلي فيما ذكره البخاري في النعلين والوضوء: فيها نظر، قال السفاقسي: وأراد البخاري الرد على من يجوز المسح على النعلين.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وأما ما رواه الثوري عن يحيى بن أبي حية، عن أبي الجلاس، عن ابن عمر، أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه.

                                                                                                                                                                                                                              فهو وإن كان يدل على أن المراد في حديثه هذا أنه كان يمسح رجليه في نعليه في الوضوء، لا أنه كان يغسلهما فهو غير صحيح عنه; لأجل يحيى هذا؛ فإنه ضعيف. والصحيح عنه -بنقل الأئمة- الغسل، رواه عنه مجاهد وابن دينار وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطحاوي: ونظرنا في اختلاف هذه الآثار فرأينا الخفين اللذين جوز المسح عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما، فكل [ ص: 207 ] قد أجمع أنه لا يمسح عليهما، فلما كان المسح على الخفين إنما يجوز إذا غيب القدمين، ويبطل إذا لم يغيبا وكانت النعلان غير مغيبة لهما حتى أنهما كالخفين اللذين لا يغيبان القدمين، فلا يجوز المسح عليهما.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها) يحتمل -كما قال المازري- أن يكون مراده: لا يصنعهن غيرك مجتمعة، وإن كان يصنع بعضها.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              (تمس): بفتح الميم؛ أي: تلمس بيدك، ومسست -بالكسر- أفصح من الفتح.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (إلا اليمانيين)؛ هو بتخفيف الياء وحكي التشديد، وهما الركن الأسود والركن اليماني، وجاء في رواية: لم يكن يستلم إلا الركن الأسود والذي يليه من نحو دور الجمحيين، وإنما قيل لهذين الركنين: اليمانيين; للتغليب كالعمرين ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: فلم لم يعبر عنهما بالأسودين؟

                                                                                                                                                                                                                              وأجيب: بأنه لو عبر بذلك ربما اشتبه على بعض العوام أن في كل منهما الحجر الأسود بخلاف اليمانيين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              سميت يمنا; لأنها عن يمين الكعبة. وقيل: سميت بيمن بن [ ص: 208 ] قحطان بن عابر، وهو هود - عليه السلام -، وهو أول من قال الشعر ووزنه. وقيل: سمي; ليمنه. وقيل: لتيامنهم إليها.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              استلام هذين الركنين; لأنهما على قواعد إبراهيم، وإنما لم يستلم الآخران; لأنهما ليسا على قواعده، ولما ردهما ابن الزبير على القواعد استلمهما أيضا، ولو بني الآن كذلك لاستلمت كلها اقتداء به، صرح به القاضي عياض، فركن الحجر الأسود خص بشيئين؛ الاستلام، والتقبيل، والركن الآخر خص بالاستلام فقط، والآخران لا يقبلان ولا يستلمان، وكان بعض الصحابة والتابعين يمسحهما على وجه الاستحباب.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: روي عن جابر وأنس وابن الزبير والحسن والحسين، أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها، وعن عروة مثل ذلك، واختلف عن معاوية وابن عباس في ذلك. وقال أحدهما: ليس من البيت شيء مهجور، والصحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: إلا الركن الأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين.

                                                                                                                                                                                                                              ولما رأى عبيد بن جريج جماعة يفعلون على خلاف ابن عمر سأله عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ورأيتك تلبس النعال السبتية). تلبس: - بفتح الباء- والسبتية [ ص: 209 ] -مكسورة السين- معرب، وقد ذكر أنها التي لا شعر فيها، وهي مشتقة من السبت -بفتح السين- وهو: الحلق والإزالة، يقال ذلك لكل جلد مدبوغ أو غير مدبوغ، أو جلود البقر إذا دبغت - أو قال: لم تدبغ- أو سود لا شعر فيها، أو لا شعر فيها ولا تقيد بالسود، أو التي عليها شعر; أقوال.

                                                                                                                                                                                                                              وعن الداودي أنها منسوبة إلى سوق السبت، وقيل: لأنها أنسبت بالدباغ، أي: لانت. وزعم قطرب أنه بضم السين، قال: وهو نبت.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المنتهى" (لأبي المعالي) أن السبت -بكسر السين- جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وإنما اعترض عليه; لأنها نعال أهل النعمة والسعة ولبس أشراف الناس وكانوا يتمدحون بلبسها.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: ولا أعلم خلافا في جواز لبسها في غير المقابر; وحسبك أن ابن عمر يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبسها، وقد روي عنه أنه رأى رجلا يلبسها في المقبرة فأمره بخلعها. ويجوز أن يكون لأذى رآه فيها أو لما شاء الله، فكرهها قوم لذلك بين القبور.

                                                                                                                                                                                                                              بل قيل: بعدم الجواز، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لذلك الماشي بين المقابر: "ألق سبتيتيك".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 210 ] وقال آخرون: لا بأس بذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضع الميت في قبره، إنه يسمع قرع نعالهم".

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الترمذي الحكيم في "نوادره" أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لذلك الرجل: "ألق سبتيتيك"؛ لأن الميت كان يسأل فلما صر نعل ذلك الرجل شغله عن جواب الملكين، فكاد يهلك لولا أن ثبته الله.

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها:

                                                                                                                                                                                                                              "تصبغ" مثلث الباء، قال ابن سيده في "محكمه": صبغ الثوب والشيب ونحوهما يصبغه ويصبغه ويصبغه - الكسر عن اللحياني- صبغا وصبغا، وصبغه: لونه. التثقيل عن أبي حنيفة والضم. قلت: والفتح مشهوران في أصبغ أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              هل المراد هنا: صبغ الثياب أو الشعر؟ والأشبه والأظهر -كما قال القاضي- الأول; لأنه أخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - صبغ; ولم ينقل عنه أنه صبغ شعره، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته، واحتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصفر لحيته بالورس والزعفران، أخرجه أبو داود.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبغ بهما ثيابه [ ص: 211 ] حتى عمامته.

                                                                                                                                                                                                                              وكان أكثرهم يعني: الصحابة والتابعين تخضب بالصفرة: منهم أبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              الهلال هنا هو هلال ذي الحجة، ويوم التروية هو اليوم الثامن.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في سبب تسميته بذلك على قولين حكاهما الماوردي:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: لأن الناس يروون فيه الماء من زمزم; لأنه لم يكن بعرفة ولا بمنى ماء. وقال آخرون: لأنه اليوم الذي رأى فيه آدم حواء. وحكى قولا ثالثا: لأن جبريل أرى فيه إبراهيم أول المناسك.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس: سمي بذلك; لأن إبراهيم أتاه الوحي في منامه أن يذبح ابنه فروى في نفسه من الله هذا أم من الشيطان؟ فأصبح صائما، فلما كان ليلة عرفة أتاه الوحي فعرف أنه الحق من ربه فسميت عرفة، رواه البيهقي في "فضائل الأوقات" من رواية الكلبي، عن أبي صالح عنه، ثم قال: هكذا قال في هذه الرواية.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الطفيل، عن ابن عباس أن إبراهيم - لما ابتلي بذبح ابنه- أتاه جبريل فأراه مناسك الحج، ثم ذهب به إلى عرفة. قال: وقال ابن عباس: سميت عرفة; لأن جبريل قال لإبراهيم: هل عرفت؟ قال: نعم. فمن ثم سميت عرفة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 212 ] الثاني عشر:

                                                                                                                                                                                                                              الإهلال: الإحرام. قال صاحب "العين": يقال: أهل بعمرة أو بحجة؛ أي: أحرم بها، وجرى على ألسنتهم; لأنهم أكثر ما كانوا يحجون إذا أهل الهلال.

                                                                                                                                                                                                                              وقال صاحب "الموعب": كل شيء ارتفع صوته فقد استهل، ومنه الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتلبية، ومنه: أهل بالعمرة والحج.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو الخطاب: كل متكلم رافع الصوت أو خافضه فهو مهل ومستهل، وفي "مجمع الغرائب": يقال: استهل وأهل. وإجابة ابن عمر بالإهلال يوم التروية بنوع من القياس; لأنه قاس يوم التروية; لأنه اليوم الذي ينبعث فيه إلى الحج، كما أنه إذا استوت به راحلته أهل، فقاس عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وبعض العلماء يرى أن يهل لاستقبال ذي الحجة، والأفضل عند الشافعي ومالك والجمهور أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة: يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه، وهو قول ضعيف للشافعي. وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية