الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              226 228 - حدثنا محمد قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي". قال: وقال أبي: "ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". [306، 320، 325، 331 - مسلم: 333 - فتح: 14 \ 331]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديثين فقال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا يحيى، عن هشام قال: حدثتني فاطمة، عن أسماء: جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع؟ قال: "تحته، ثم تقرصه بالماء وتنضحه، وتصلي فيه".

                                                                                                                                                                                                                              والكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه في الحيض من حديث مالك، عن هشام.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 430 ] وأخرجه مسلم والأربعة، ولأبي داود: "تنظر، فإن رأت فيه دما فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر".

                                                                                                                                                                                                                              وقال في كتاب "التفرد": تفرد به أهل المدينة. وللترمذي: "اقرصيه بماء ثم رشيه". ولابن خزيمة: "فلتحكه ثم لتقرصه بشيء من ماء، وتنضح في سائر الثوب بماء وتصلي فيه".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              يحيى هذا هو القطان. وفاطمة هي بنت المنذر. وأسماء هي الصديقة بنت الصديق.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              روى الشافعي أن هذه المرأة السائلة هي أسماء نفسها، وضعفه النووي، وليس كما ذكر كما أوضحته في تخريج أحاديث الرافعي.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              "تحته" -هو بالمثناة فوق، ثم حاء مهملة، ثم مثناة فوق أيضا- وهو الحك، كما جاء في رواية ابن خزيمة، والقشر والفرك أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              "وتقرصه" بفتح أوله وإسكان ثانيه وضم ثالثه، ويجوز ضم أوله وفتح ثانيه وكسر ثالثه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 431 ] قال القاضي عياض: رويناه بهما جميعا، والصاد مهملة، وهو الدلك بأطراف الأصابع والأظفار مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره.

                                                                                                                                                                                                                              "وتنضحه" بكسر الضاد المعجمة؛ أي: تغسله.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: في أحكامه:

                                                                                                                                                                                                                              وهو أصل في غسل النجاسات من الثياب.

                                                                                                                                                                                                                              الأول: نجاسة الدم، وهو إجماع.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: وجوب غسل قليله وكثيره. وقال ابن بطال: إنه محمول عند العلماء على الدم الكثير; لأن الله تعالى شرط في نجاسته أن يكون مسفوحا، وعني به الكثير الجاري، وعند أهل الكوفة أن القليل منه وفي سائر النجاسات دون الدرهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: تعين الماء في إزالة النجاسة، وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وزفر وعامة الفقهاء، وخالف أبو حنيفة وأبو يوسف فجوزا إزالتها بكل مائع طاهر يمكن إزالتها به، والمسألة مبسوطة في الخلافيات.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث مجاهد عن عائشة في البخاري: ما كان لإحدانا إلا ثوب

                                                                                                                                                                                                                              واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فمصعته [ ص: 432 ] بظفرها. أي: عركته. قد أنكر أحمد وجماعة سماع مجاهد منها. نعم، أثبته الشيخان، وفي البخاري من حديث القاسم عنها: ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها فتغسله وتنضح على سائره ثم تصلي فيه.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: عدم اشتراط العدد في إزالة النجاسة والواجب فيها الإنقاء، فإن بقي من أثرها شيء يشق إزالته عفي عنه، فإن كانت النجاسة حكمية كفى فيها جري الماء وندب فيها التثليث.

                                                                                                                                                                                                                              وعند أبي حنيفة أنها تغسل إلى أن يغلب على الظن طهرها من غير عدد مسنون، فإن كانت عينية فلا بد من إزالة عينها وندب ثانية وثالثة بعدها، ولا يشترط عصر الثوب على الأصح، فإن عسر إزالة اللون لم يضر بقاؤه، وكذا الريح، فإن اجتمعا ضر على الصحيح، وإن بقي الطعم وحده ضر.

                                                                                                                                                                                                                              وكان ابن عمر إذا شق عليه إزالة الأثر في الثوب قطعه.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: الأمر بالحت والقرص، وهو أمر استحباب عند فقهاء الأمصار، وأوجبه بعض أهل الظاهر وبعض الشافعية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 433 ] الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا محمد، ثنا أبو معاوية، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي". قال: وقال أبي: "توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث سيأتي قريبا في الاستحاضة، وقد أخرجه مسلم والأربعة، وهو حديث متفق على صحته، وأخرجه أبو داود والنسائي من مسند فاطمة هذه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              محمد هذا شيخ البخاري، هو ابن سلام كما جاء في بعض نسخه، وكذا نسبه ابن السكن والمهلب وصرح به البخاري في النكاح، فقال: حدثنا محمد بن سلام، ثنا أبو معاوية.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الكلاباذي أن البخاري روى عن محمد بن المثنى، عن أبى معاوية. وعن محمد بن سلام، عن أبي معاوية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 434 ] ورواه أبو نعيم الأصبهاني من طريق إسحاق بن إبراهيم عن أبي معاوية، وذكر أن البخاري رواه عن محمد بن المثنى، عن أبي معاوية.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              والد فاطمة هذه هو قيس بن المطلب، ووقع في أكثر نسخ مسلم: عبد المطلب. وهو غلط، ووقع في "مبهمات الخطيب" أنها أنصارية، وهي غير فاطمة بنت قيس المذكورة في النكاح، ولا يعرف للمذكورة هنا - أعني: في باب الحيض- غير هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحربي أن فاطمة هذه تزوجت بعبد الله بن جحش، فولدت له محمدا، وهو صحابي، هاجرت رضي الله عنها، وهي إحدى المستحاضات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عددتهم في "شرح العمدة" فبلغن نحو العشرة، فراجع ذلك منه.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في ألفاظه:

                                                                                                                                                                                                                              الاستحاضة: جريان الدم في غير أوقاته. وقولها: (فلا أطهر)؛ أي: لا أنظف من الدم.

                                                                                                                                                                                                                              والعرق، بكسر العين. ويقال له: العاذل بذال معجمة، وحكي إهمالها، وبدل اللام راء، وهذا العرق فمه في أدنى الرحم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فإذا أقبلت حيضتك) يجوز فيه فتح الحاء وكسرها، وهو بالفتح: الحيض، وبالكسر الحالة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 435 ] والإدبار: الانقطاع.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              وقد وصلتها في "شرح العمدة" إلى نيف وعشرين فائدة، ونذكر منها عشرة:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: أن المستحاضة تصلي أبدا إلا في الزمن المحكوم بأنه حيض، وهو إجماع.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: نجاسة الدم، وهو إجماع كما سلف في الحديث قبله إلا من شذ.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: استفتاء المرأة وسماع صوتها عند الحاجة.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: الأمر بإزالة النجاسة.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: وجوب الصلاة بمجرد الانقطاع.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: أن الصلاة لا يتركها من عليه دم كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلى وهو يثعب دما.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: ترك الحائض الصلاة، وهو إجماع لم يخالف فيه إلا الخوارج.

                                                                                                                                                                                                                              ثامنها: الرد إلى العادة أو التمييز.

                                                                                                                                                                                                                              تاسعها: عدم وجوب الغسل لكل صلاة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 436 ] العاشرة: إثبات الاستحاضة، فإن حكم دمها غير حكم دم الحيض، ومحل الخوض في أقسامها كتب الفروع، وقد أوضحناه فيها، ولم يذكر هنا الاغتسال من دم الحيض، وإن كان ورد في رواية أخرى; لأن الغسل من دم الحيض معلوم، وإنما إجابتها عما سألته، وهو حكم الاستحاضة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية