الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              330 [ ص: 170 ] 3 - باب: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الصلاة وبه قال عطاء، وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: يتيمم. وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمربد النعم فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد.

                                                                                                                                                                                                                              337 - حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت عميرا -مولى ابن عباس- قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار -مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد - عليه السلام -[ مسلم: 369 - فتح: 1 \ 441] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              (وبه قال عطاء) هو ابن أبي رباح. وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن عمر، عن ابن جريج عنه قال: إذا كنت في الحضر وحضرت الصلاة وليس عندك ماء فانتظر الماء، فإن خشيت فوت الصلاة تيمم وصل.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال البخاري: وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله: يتيمم. والحسن هذا هو البصري.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف، فحضرت العصر بمربد النعم فصلى، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 171 ] وهذا رواه مالك، عن نافع، عنه مطولا، ورواه الشافعي أيضا، ثم قال: والجرف: قريب من المدينة. وروي أيضا مرفوعا، والمحفوظ الأول كما نبه عليه البيهقي.

                                                                                                                                                                                                                              والجرف: بضم الجيم والراء، وقد علمته. وقال الزبير: إنه على ميل منها. وقال ابن إسحاق: على فرسخ، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو.

                                                                                                                                                                                                                              وقال صاحب "المطالع": هو على ثلاثة أميال إلى جهة الشام، به مال عمر وأموال أهل المدينة، ويعرف ببئر جشم وبئر جمل.

                                                                                                                                                                                                                              والمربد: بكسر الميم وفتح الباء من ربد بالمكان: إذا أقام به، بينه وبين المدينة ميلان، قاله صاحب "المطالع".

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره: ميل أو ميلان. وقال ابن التين: رويناه بفتح الميم، وهو في اللغة بكسرها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سيده: والمربد: محبس الإبل. وقيل: هي خشبة أو عصى تعترض صدور الإبل تمنعها عن الخروج، ومربد البصرة من ذلك؛ لأنهم كانوا يحبسون فيه الإبل. والمربد: فضاء وراء البيوت ترتفق به. والمربد: كالحجرة في الدار. ومربد التمر: جرينه الذي يوضع فيه بعد الجذاذ لييبس.

                                                                                                                                                                                                                              قال سيبويه: هو اسم كالمطبخ، وإنما مثله به؛ لأن المطبخ ييبس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 172 ] وقال السهيلي: المربد والجرين والمسطح والبيدر والأندر والجرجان لغات بمعنى واحد.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الأثر دال على جواز التيمم بقرب الحضر على من خاف الفوت. قال محمد بن مسلمة: إنما تيمم؛ لأنه خاف الفوت. أي: فوت الوقت المستحب، وهو أن تصفر الشمس. وارتفاعها يحتمل أن يكون عن الأفق مع دخول الصفرة فيها، ويحتمل أن ابن عمر رأى أن من رجا إدراك الماء في آخر الوقت وتيمم في أوله يجزئه ويعيد في الوقت استحبابا، وهو قول ابن القاسم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال سحنون في "شرح الموطأ": كان ابن عمر على وضوء؛ لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عوضا من الوضوء.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: كان يرى أن الوقت إذا دخل حل التيمم، وليس عليه التأخير.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري حديث أبي جهيم: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث أخرجه مسلم معلقا حيث قال: وروى الليث، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              والبخاري وصله فرواه عن يحيى بن بكير عنه. ووصله أيضا أبو داود والنسائي، ووقع في مسلم: عبد الرحمن بن يسار، والصواب: عبد الله كما وقع في البخاري، مولى ميمونة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 173 ] ووقع فيه أيضا: أبو الجهم مكبرا، وإنما هو مصغر كما ساقه البخاري. وقد ذكره مسلم على الصواب في حديث المرور.

                                                                                                                                                                                                                              وسماه أبو نعيم وابن منده: عبد الله بن جهيم، وجعلاهما واحدا.

                                                                                                                                                                                                                              ورجح ابن الأثير كونهما اثنين.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الدارقطني أنه الذي سلم. أعني: أبا الجهيم وهو يبين المجهول في رواية البخاري: فلقيه رجل فسلم عليه. ورواه الشافعي عن شيخه إبراهيم، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن أبي جهيم، الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وحسنه البغوي في "شرح السنة"، وهو منقطع بين الأعرج وأبي جهيم عمير مولى ابن عباس كما ساقه البخاري. ورواه أبو داود والبزار من حديث ابن عمر مرفوعا، وروي موقوفا.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أيضا جابر بن سمرة والبراء، أخرجهما الطبراني، وعبد الله [ ص: 174 ] ابن حنظلة أخرجه أحمد، والمهاجر بن قنفذ أخرجه الحاكم، وأبو هريرة أخرجه ابن ماجه، وغيرهم، وبعضها يشد بعضا.

                                                                                                                                                                                                                              وبئر جمل، بجيم مفتوحة، وللنسائي: الجمل -بالألف واللام - وهو موضع بقرب المدينة فيه مال من أموالها، ذكره أبو عبيد.

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر لك ذلك فأصل المسألة التي بوب البخاري لها الباب، وهو من كان في الحضر وخاف فوت الصلاة، وفقد الماء إذ ذاك، هل له أن يتيمم، وفيه قولان حكاهما ابن بزيزة، والذي عليه الجمهور أنه يتيمم (قال مالك: إذا خاف الفوت إن عالج الماء يتيمم ويصلي ولا يعيد، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومحمد، وعن مالك أنه يصلي بالتيمم) ويعيد، وهو قول الليث والشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              وروي عن مالك أنه يعالج الماء وإن طلعت الشمس، وهو قول أبي يوسف وزفر قالا: لا يصلي أصلا، والفرض في ذمته إلى أن يقدر على الماء؛ لأنه لا يجوز عندهما التيمم في الحضر، واحتجا بأن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، ولم يبحه إلا بشرط المرض والسفر، فلا دخول للحاضر ولا للصحيح في ذلك؛ لخروجهما من شرطه تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 175 ] واحتج من قال: يتيمم ويصلي ويعيد قال: إنا قد رأينا من يفعل ما أمر به، ولا يسقط عنه بالإعادة، وهو واقع موقع فساد، مثل من أفسد حجه وصومه الفرض عليه، فإنه مأمور بالمضي فيه فرض عليه، ومع هذا فعليه الإعادة، وأيضا فإن المسافر والمريض قد أبيح لهما الفطر في رمضان مع القضاء، فكذا هذا الحاضر.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج من قال بعدم الإعادة، بأن الفطر رخصة لهما ولم يفعلا الصوم، والمتيمم فعل الواجب وفعل الصلاة، فلو رخص له في الخروج منها كما رخص للمسافر في الفطر لوجب عليه القضاء.

                                                                                                                                                                                                                              وأما من أفسد حجه وصومه فإنما أمر بالمضي فيه عقوبة لإفساده له، ثم وجب عليه قضاؤه ليؤدي الفرض كما أمر به، والحاضر عند التعذر والخوف مطيع بالتيمم والصلاة ابتداء، ولم يفسد شيئا يجب معه القضاء.

                                                                                                                                                                                                                              وحجة من لم يعد أثر البخاري عن ابن عمر، فإنه تيمم بمربد النعم وهو في طرف المدينة؛ لأنه خشي فوت الوقت الفاضل، ولم يجد ماء، ثم صلى، فهو حجة (الحاضر) عند الخوف في الإقدام على التيمم؛ لأنه إذا فعل ذلك مع سعة الوقت فخوف فوته أولى.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي جهيم فإن فيه التيمم في الحضر إلا أنه لا دليل فيه لرفع الحدث به؛ لأنه أراد أن يجعله تحية لرد السلام، فإنه كره أن يذكر الله على غير طهارة، كما رواه حماد بن سلمة في "مصنفه" في هذا الحديث، كذا قاله المهلب، وهو مع ذلك دال على التيمم في الحضر عند خوف الفوات؛ لأنه كما يتيمم في الحضر لرد السلام -وكان له - صلى الله عليه وسلم - أن يرده قبل تيممه -دل على التيمم في الحضر عند خوف [ ص: 176 ] الفوات، بل أولى؛ لأن الطهارة فيها شرط بخلاف السلام.

                                                                                                                                                                                                                              وأيضا فإن التيمم إنما ورد في المسافرين والمرضى لإدراك الوقت وخوف فواته، فإذا كان حاضرا وخاف فوته جاز.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الطحاوي بهذا الحديث على جواز التيمم للجنازة عند خوف فواتها، وهو قول الكوفيين والليث والأوزاعي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - تيمم لرد السلام في الحضر لأجل فور الرد، وإن كانت ليست شرطا، ومنع مالك والشافعي وأحمد ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: والدليل على سنية ذلك قوله لأبي هريرة: "المؤمن لا ينجس" قال: ويحتمل أنه فعل ذلك قبل أن يخبر. قلت: فيه بعد، وسيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القصار: وفي تيممه - صلى الله عليه وسلم - بالجدار رد على أبي يوسف والشافعي في اشتراطهما التراب في صحة التيمم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - تيمم بالجدار. قال: ومعلوم أنه لم يعلق بيده منه تراب؛ إذ لا تراب على الجدار.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ورواية الشافعي السالفة ترده إذ فيها: عن أبي جهيم قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 177 ] وبهذه الرواية يرد أيضا على من استدل من الحنفية بهذا الحديث على جواز التيمم على الحجر. قال: لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود.

                                                                                                                                                                                                                              فرع متعلق بالباب:

                                                                                                                                                                                                                              لو تيقن وجود الماء آخر الوقت فانتظاره أفضل، وإن ظنه فقولان للشافعي أظهرهما: أن تعجيل الصلاة بالتيمم أفضل، وقال أبو حنيفة: في الرجاء التأخير أفضل. وعنه أنه حتم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وبه قال الثوري وأحمد وعطاء. وقال مالك: لا يعجل ولا يؤخر، ولكن في وسط الوقت.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مرة: إن أيقن بوجود الماء قبل خروج الوقت أخره إلى آخره، فإن وجده وإلا تيمم، وإن كان طامعا بوجوده قبله أخره إلى وسط الوقت، وإن تيقن عدمه تيمم وصلى. وعن الأوزاعي: كل ذلك سواء.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المدونة" حكاية قولين فيما إذا وجد الحاضر الماء في الوقت هل يعيد أم لا؟ وقيل: إنه يعيد أبدا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري في السفر لما أعاد أحدهما عند وجود الماء قال له - صلى الله عليه وسلم: "لك الأجر مرتين" وصححه الحاكم على شرطهما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 178 ] فائدة تنعطف على ما مضى:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا أن تيممه لرد السلام إنما كان على وجه الأكمل. قال ابن الجوزي: كره أن يرده؛ لأنه اسم من أسماء الله تعالى، أو يكون هذا في أول الأمر، ثم استقر الأمر على غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقد رأى الأوزاعي أن الجنب إذا خاف إن اشتغل بالغسل طلعت الشمس (تيمم وصلى) قبل فوت الوقت. قال الخطابي: وبه قال مالك في بعض الروايات.

                                                                                                                                                                                                                              وعند الحنفية: إذا خاف فوت الصلاة على الجنازة والعيدين تيمم.

                                                                                                                                                                                                                              ومسألة الجنازة أسلفناها عنهم.

                                                                                                                                                                                                                              وعندنا وجه أنه إذا خاف فوت الفريضة لضيق الوقت صلاها بالتيمم ثم قضاها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "شرح الآثار" للطحاوي: حديث المنع من رد السلام منسوخ بآية الوضوء، وقيل: بحديث عائشة: كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء ذلك مصرحا به (في) حديث رواه جابر الجعفي، عن عبد الله [عن] أبي بكر بن محمد بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن [ ص: 179 ] الفغواء، عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الماء نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يسلم علينا، حتى نزلت آية الرخصة: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة [المائدة: 6].

                                                                                                                                                                                                                              وزعم الحسن أنه ليس منسوخا، وتمسك بمقتضاه، فأوجب الطهارة للذكر ومنعه للمحدث، ثم ناقض بإيجابه التسمية للطهارتين، فإنه مستلزم لإيقاع الذكر حالة الحدث. وروي عن عمر إيجاب الطهارة للذكر. وقيل: يتأول الخبر على الاستحباب؛ لأن ابن عمر راويه رأى ذلك، والراوي الصحابي أعلم بالمقصود، وهو حسن إن لم يثبت حديث الجعفي لتضمنه الجمع بين الأدلة. قلت: وأنى له بالثبوت وحالته ظاهرة؟ تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: كيف يتيمم بالجدار بغير إذن مالكه؟ والجواب: أنه كان مباحا أو مملوكا لمن يعرفه ولا يكره ذلك منه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: كيف يتيمم في الحضر؟ والجواب: أن هذا كان في أول الأمر ثم استقر الأمر على غيره، وأيضا فهو تشبيه بالطاهرين وإن لم يصح كما في حق الممسك في رمضان، ذكرهما ابن الجوزي، لكن الطحاوي استدل على ثبوت الطهارة به وإلا لم يفعله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 180 ] ثالثها فيه دلالة على جواز التيمم للنوافل كالفرائض، وأبعد من خصه من أصحابنا بالفرض، وهو واه.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أطلق اليد في الحديث ولم يقيدها، ومشهور مذهب الشافعي مسحها إلى المرفقين كالوضوء، ومحل الخوض فيها الخلافيات، وكذا هل هو بضربة أو (بضربتين)؟ وسيأتي أيضا، ورواية ضربة أصح من ضربتين، وأبعد من قال: بثلاث وأربع، ثنتان للوجه ولكل يد واحدة، حكاه ابن بزيزة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية