الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4140 - حدثنا يونس قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه قال : من حبس دون البيت بمرض ، فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت ، وبين الصفا والمروة .

                                                        فلما وقع في هذا ، هذا الاختلاف ، وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الحجاج بن عمرو ، وابن عباس ، وأبي هريرة رضي الله عنهم ما ذكرنا من قوله - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - : " من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه حجة أخرى " ، ثبت بذلك أن الإحصار يكون بالمرض ، كما يكون بالعدو .

                                                        فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار .

                                                        وأما وجهه من طريق النظر ، فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن إحصار العدو ، يجب به للمحصر الإحلال كما قد ذكرنا .

                                                        واختلفوا في المرض ، فقال قوم : حكمه حكم العدو في ذلك ، إذا كان قد منعه من المضي في الحج ، كما منعه العدو .

                                                        وقال آخرون : حكمه بائن من حكم العدو .

                                                        فأردنا أن ننظر ما أبيح بالضرورة من العدو ، هل يكون مباحا بالضرورة بالمرض أم لا ؟

                                                        فوجدنا الرجل إذا كان يطيق القيام ، كان فرض أن يصلي قائما ، وإن كان يخاف إن قام أن يعاينه العدو فيقتله ، أو كان العدو قائما على رأسه ، فمنعه من القيام ، فكل قد أجمع أنه قد حل له أن يصلي قاعدا ، وسقط عنه فرض القيام .

                                                        [ ص: 253 ] وأجمعوا أن رجلا لو أصابه مرض أو زمانة ، فمنعه ذلك من القيام ، أنه قد سقط عنه فرض القيام ، وحل له أن يصلي قاعدا ، يركع ويسجد إذا أطاق ذلك ، أو يومي إن كان لا يطيق ذلك .

                                                        فرأينا ما أبيح له من هذا بالضرورة من العدو ، قد أبيح له بالضرورة من المرض ، ورأينا الرجل إذا حال العدو بينه وبين الماء ، سقط عنه فرض الوضوء ، ويتيمم ويصلي .

                                                        فكانت هذه الأشياء التي قد عذر فيها بالعدو ، قد عذر فيها أيضا بالمرض ، وكان الحال في ذلك سواء .

                                                        ثم رأينا الحاج المحصر بالعدو ، قد عذر فجعل له في ذلك أن يفعل ما جعل للمحصر أن يفعل ، حتى يحل ، واختلفوا في المحصر بالمرض .

                                                        فالنظر على ما ذكرنا من ذلك أن يكون ما وجب له من العذر بالضرورة بالعدو ، يجب له أيضا بالضرورة بالمرض ، ويكون حكمه في ذلك سواء ، كما كان حكمه في ذلك أيضا سواء ، في الطهارات ، والصلوات .

                                                        ثم اختلف الناس بعد هذا في المحرم بعمرة ، يحصر بعدو أو بمرض .

                                                        فقال قوم : يبعث بهدي ويواعدهم أن ينحروه عنه ، فإذا نحر حل .

                                                        وقال آخرون : بل يقيم على إحرامه أبدا ، وليس لها وقت كوقت الحج .

                                                        وكان من الحجة للذين ذهبوا إلى أنه يحل منها بالهدي ، ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذا الباب ، لما أحصر بعمرة زمن الحديبية ، حصرته كفار قريش ، فنحر الهدي ، وحل ، ولم ينتظر أن يذهب عنه الإحصار ، إذ كان لا وقت لها كوقت الحج ، بل جعل العذر في الإحصار بها ، كالعذر في الإحصار بالحج .

                                                        فثبت بذلك أن حكمها في الإحصار فيهما سواء ، وأنه يبعث الهدي حتى يحل به مما أحصر به منهما .

                                                        إلا أن عليه في العمرة قضاء عمرة ، مكان عمرته ، وعليه في الحجة ، حجة مكان حجته وعمرة لإخلاله .

                                                        وقد روينا في العمرة أنه قد يكون المحرم محصرا بها ، ما قد تقدم في هذا الباب ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

                                                        فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار .

                                                        وأما النظر في ذلك ، فإنا قد رأينا أشياء قد فرضت على العباد ، مما جعل لها وقت خاص ، وأشياء فرضت عليهم ، مما جعل الدهر كله وقتا لها .

                                                        منها الصلوات ، فرضت عليهم في أوقات خاصة ، تؤدى في تلك الأوقات بأسباب متقدمة لها ، من التطهر بالماء ، وستر العورة .

                                                        ومنها الصيام في كفارات الظهار وكفارات الصيام ، وكفارات القتل ، جعل ذلك على المظاهر ، والقاتل [ ص: 254 ] لا في أيام بعينها ، بل جعل الدهر كله وقتا لها ، وكذلك كفارة اليمين جعلها الله عز وجل على الحانث في يمينه ، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة .

                                                        ثم جعل الله عز وجل من فرض عليه الصلوات بالأسباب التي يتقدم ، والأسباب المفعولة فيها في ذلك ، عذرا إذا منع منه .

                                                        فمن ذلك ما جعل له في عدم الماء ، من سقوط الطهارة بالماء والتيمم .

                                                        ومن ذلك ما جعل للذي منع من ستر العورة أن يصلي بادي العورة .

                                                        ومن ذلك ما جعل لمن منع من القبلة أن يصلي إلى غير قبلة .

                                                        ومن ذلك ما جعل للذي منع من القيام ، أن يصلي قاعدا ، يركع ويسجد ، فإن منع من ذلك أيضا ، أومى إيماء ، فجعل له ذلك .

                                                        وإن كان قد بقي عليه من الوقت ما قد يجوز أن يذهب عنه ذلك العذر ، ويعود إلى حاله قبل العذر ، وهو في الوقت ، لم يفته .

                                                        وكذلك جعل لمن لا يقدر على الصوم في الكفارات التي أوجب الله عز وجل عليه فيها الصوم ، لمرض حل به مما قد يجوز برؤه منه بعد ذلك ، ورجوعه إلى حال الطاقة لذلك الصوم ، فجعل ذلك له عذرا في إسقاط الصوم عنه به ، ولم يمنع من ذلك إذا كان ما جعل عليه من الصوم لا وقت له .

                                                        وكذلك فيما ذكرنا من الإطعام في الكفارات والعتق فيها ، والكسوة ، إذا كان الذي فرض ذلك عليه معدما .

                                                        وقد يجوز أن يجد بعد ذلك ، فيكون قادرا على ما أوجب الله عز وجل عليه من ذلك ، من غير فوات لوقت شيء مما كان أوجب عليه فعله فيه .

                                                        فلما كانت هذه الأشياء يزول فرضها بالضرورة فيها ، وإن كان لا يخاف فوت وقتها ، فجعل ذلك ما خيف فوت وقته ، سواء من الصلوات في أواخر أوقاتها ، وما أشبه ذلك .

                                                        فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك العمرة ، وإن كان لا وقت لها أن يباح في الضرورة فيها ، ما يباح بالضرورة في غيرها ، مما له وقت معلوم .

                                                        فثبت بما ذكرنا ، قول من ذهب إلى أنه قد يكون الإحصار بالعمرة ، كما يكون الإحصار بالحج سواء .

                                                        وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد رحمهم الله تعالى .

                                                        ثم تكلم الناس بعد هذا في المحصر إذا نحر هديه ، هل يحلق رأسه أم لا ؟

                                                        فقال قوم : ليس عليه أن يحلق ؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله ، وممن قال ذلك ، أبو حنيفة ، ومحمد رحمهما الله .

                                                        وقال آخرون : بل يحلق ، فإن لم يحلق حل ولا شيء عليه ، وممن قال ذلك ، أبو يوسف رحمه الله .

                                                        وقال آخرون : يحلق ويجب ذلك عليه ، كما يجب على الحاج والمعتمر .

                                                        [ ص: 255 ] فكان من حجة أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - في ذلك ، أنه قد سقط عنه بالإحصار ، جميع مناسك الحج ، من الطواف والسعي بين الصفا والمروة ، وذلك مما يحل المحرم به من إحرامه .

                                                        ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر ، حل له أن يحلق ، فيحل له بذلك الطيب ، واللباس ، والنساء .

                                                        قالوا : فلما كان ذلك مما يفعله ، حتى يحل ، فسقط ذلك عنه كله بالإحصار ، سقط أيضا عنه سائر ما يحل به المحرم بسبب الإحصار ، هذه حجة لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - .

                                                        وكان من حجة الآخرين عليهما في ذلك أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، قد صد عنه المحرم ، وحيل بينه وبينه ، فسقط عنه أن يفعله .

                                                        والحلق لم يحل بينه وبينه ، وهو قادر على أن يفعله .

                                                        فما كان يصل إلى أن يفعله ، فحكمه فيه في حال الإحصار ، كحكمه فيه حال الإحصار .

                                                        وما لا يستطيع أن يفعله في حال الإحصار ، فهو الذي يسقط عنه بالإحصار ، فهو النظر عندنا .

                                                        وإذا كان حكمه في وقت الحلق عليه ، وهو محصر ، كحكمه في وجوبه عليه وهو غير محصر ، كان تركه إياه أيضا وهو محصر ، كتركه إياه وهو غير محصر . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما قد دل على أن حكم الحلق باق على المحصرين ، كما هو على من وصل إلى البيت .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية