الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 277 ]

199 . وهي تجيء غالبا في السند تقدح في المتن بقطع مسند      200 . أو وقف مرفوع وقد لا يقدح
(كالبيعان بالخيار) صرحوا      201 . بوهم (يعلى بن عبيد) : أبدلا
(عمرا) بـ (عبد الله) حين نقلا      202 . وعلة المتن كنفي البسمله
إذ ظن راو نفيها فنقله      203 . وصح أن أنسا يقول : (لا
أحفظ شيئا فيه) حين سئلا

التالي السابق


العلة تكون في الإسناد - وهو الأغلب الأكثر - وتكون في المتن [ ص: 278 ] [ ص: 279 ] ثم العلة في الإسناد قد تقدح في صحة المتن أيضا ، وقد لا تقدح . فأما علة الإسناد التي تقدح في صحة المتن ، فكالتعليل بالإرسال ، والوقف . وأما علة الإسناد التي لا تقدح في صحة المتن ، فكحديث رواه يعلى بن عبيد الطنافسي أحد رجال الصحيح ، عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " البيعان بالخيار " ، الحديث . فوهم يعلى بن عبيد على سفيان في قوله : عمرو بن دينار . وإنما المعروف من حديث سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر . هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان أبو نعيم الفضل بن دكين ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، [ ص: 280 ] ومحمد بن يوسف الفريابي ، ومخلد بن يزيد ، وغيرهم . وهكذا رواه عن عبد الله بن دينار شعبة ، وسفيان بن عيينة ويزيد بن عبد الله بن الهاد ، ومالك بن أنس من رواية ابن وهب عنه . والحديث مشهور لمالك ، وغيره ، عن نافع ، عن ابن عمر . وأما رواية عمرو بن دينار له فوهم من يعلى بن عبيد ، وقال عثمان بن سعيد ، عن يحيى بن معين : يعلى بن عبيد ضعيف في الثوري ، ثقة في غيره .

وقولي : ( أبدل عمرا بعبد الله ) أي : ترك عبد الله بن دينار ، وأتى بعمرو بن دينار ، لأن الباء تدخل على المتروك .

وأما علة المتن ، فمثاله ما تفرد به مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، عن قتادة ، أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال : [ ص: 281 ] صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ; فكانوا يستفتحون بـ : الحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ، في أول قراءة ، ولا في آخرها .

ثم رواه من رواية الوليد ، عن الأوزاعي : أخبرني إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك . وروى مالك في الموطأ عن حميد ، عن أنس ، قال : صليت وراء أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . وزاد فيه الوليد بن مسلم ، عن مالك به : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عبد البر : "وهو عندهم خطأ" . وحديث أنس قد أعله الشافعي رضي الله عنه ، فيما ذكره البيهقي في المعرفة عنه أنه قال في سنن حرملة جوابا لسؤال أورده : فإن قال قائل قد روى مالك ، فذكره . قال الشافعي : قيل له خالفه سفيان بن عيينة والفزاري ، والثقفي ، وعدد لقيتهم سبعة أو ثمانية ، مؤتفقين مخالفين له .

[ ص: 282 ] قال : والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد . ثم رجح روايتهم بما رواه عن سفيان ، عن أيوب ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر يفتتحون القراءة بـ : الحمد لله رب العالمين . قال الشافعي : يعني يبدؤون بقراءة أم القرآن ، قبل ما يقرأ بعدها . ولا يعني أنهم يتركون : بسم الله الرحمن الرحيم . وحكى الترمذي عن الشافعي في معنى الحديث مثل هذا . قال الدارقطني : "هذا هو المحفوظ عن قتادة وغيره ، عن أنس " . قال البيهقي : وكذلك رواه أكثر أصحاب قتادة ، عن قتادة قال : وهكذا رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وثابت البناني عن أنس . انتهى . وممن رواه عن قتادة هكذا أيوب السختياني ، وشعبة ، وهشام الدستوائي ، [ ص: 283 ] وشيبان بن عبد الرحمن ، وسعيد بن أبي عروبة ، وأبو عوانة وغيرهم .

قال ابن عبد البر : "فهؤلاء حفاظ أصحاب قتادة ليس في روايتهم لهذا الحديث ما يوجب سقوط : بسم الله الرحمن الرحيم من أول فاتحة الكتاب . انتهى" . وهذا هو اللفظ المتفق عليه في الصحيحين وهو رواية الأكثرين . وما أوله عليه الشافعي مصرح به في رواية الدارقطني فكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر به . قال الدارقطني : هذا صحيح . وأيضا فلو قال قائل إن رواية حميد منقطعة بينه وبين أنس ; لم يكن بعيدا . فقد رواها ابن عدي عن حميد ، عن قتادة ، عن أنس قال ابن عبد البر : ويقولون : إن أكثر رواية حميد ، عن أنس ، إنما سمعها من قتادة ، وثابت عن أنس . وقال ابن عبد البر في الاستذكار : اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا . منهم من يقول فيه : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، ومنهم من يذكر عثمان ، ومنهم من لا يذكر : فكانوا لا يقرؤون : بسم الله الرحمن الرحيم . ومنهم من قال : فكانوا لا يجهرون بـ : بسم الله الرحمن الرحيم . وقال كثير منهم : فكانوا يفتتحون [ ص: 284 ] القراءة بـ : الحمد لله رب العالمين . وقال بعضهم : فكانوا يجهرون بـ : بسم الله الرحمن الرحيم . وقال بعضهم : كانوا يقرؤون : بسم الله الرحمن الرحيم . قال : وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء الذين يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم ، والذين لا يقرؤونها .

وقولي : ( إذ ظن راو نفيها ، فنقله ) أي : اذ ظن بعض الرواة فهما منه أن معنى قول أنس : يستفتحون بـ : الحمد لله ، أنهم لا يبسملون ، فرواه على فهمه بالمعنى ، وهو مخطئ في فهمه . ومما يدل على أن أنسا لم يرد بذلك نفي البسملة ، ما صح عنه من رواية أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، قال : سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بـ : الحمد لله رب العالمين أو بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ، وما سألني عنه أحد قبلك . رواه أحمد في مسنده ، وابن خزيمة في صحيحه ، والدارقطني وقال : هذا إسناد صحيح . قال البيهقي في المعرفة : في هذا دلالة على أن مقصود أنس ما ذكره الشافعي . وقد اعترض ابن [ ص: 285 ] عبد البر على هذا الحديث بأن قال : "من حفظه عنه حجة على من سأله في حال نسيانه" . وأجاب أبو شامة بأنهما مسألتان . فسؤال أبي مسلمة عن البسملة وتركها ، وسؤال قتادة عن الاستفتاح بأي سورة . وفي صحيح مسلم : أن قتادة قال : نحن سألناه عنه ، فاتضح أن سؤال قتادة كان غير سؤال أبي مسلمة . وأما قول ابن الجوزي في التحقيق : "حديث أبي مسلمة ليس في الصحاح ، فلا يعارض ما في الصحاح . وإن الأئمة اتفقوا على صحة حديث أنس " ففيه نظر . فهذا الشافعي ، والدارقطني ، والبيهقي لا يقولون بصحة حديث أنس الذي فيه نفي البسملة . فلا يصح نقل اتفاق الأئمة عليه ، ولا يرد حديث أبي مسلمة ، بكونه ليس في الصحاح . فقد صححه ابن خزيمة والدارقطني . وأيضا فقد وصف أنس قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بـ : بسم الله الرحمن الرحيم .

فروى البخاري في صحيحه من رواية قتادة ، قال : سئل [ ص: 286 ] أنس بن مالك ، كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كانت مدا . ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله . ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم . قال الدارقطني : هذا حديث صحيح . وكلهم ثقات . وقال الحازمي : هذا حديث صحيح لا يعرف له علة . وفيه دلالة على الجهر مطلقا ، وإن لم يقيد بحالة الصلاة . فيتناول الصلاة وغير الصلاة . قال أبو شامة : وتقرير هذا أن يقال : لو كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الجهر والإسرار تختلف في الصلاة وخارج الصلاة ، لقال أنس لمن سأله عن أي قراءتيه تسأل ؟ عن التي في الصلاة أم عن التي خارج الصلاة ؟ فلما أجاب مطلقا علم أن الحال لم يختلف في ذلك . وحيث أجاب بالبسملة دون غيرها من آيات القرآن ، دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة في قراءته . ولولا ذلك لكان أنس أجاب : الحمد لله رب العالمين ، أو غيرها من الآيات . قال : وهذا واضح . قال : ولنا أن نقول : الظاهر أن السؤال لم يكن إلا عن قراءته في الصلاة ، فإن الراوي قتادة ، وهو راوي حديث أنس ذاك . وقال فيه : نحن سألناه عنه . انتهى . فهذا ترجيح لقراءة البسملة . وقد قال الحازمي : إنه لا يعرف له علة . ولم يختلف على قتادة فيه . وأما حديث أنس ذاك ، فله علل اختلف على قتادة فيه . وأعله الشافعي بخطأ الراوي في فهمه ، وأعله ابن عبد البر بالاضطراب . ومن علله أنه ليس متصلا بالسماع ، فإن قتادة كتب إلى الأوزاعي به . والخلاف في الكتابة معروف ، كما سيأتي .

وأما رواية مسلم الثانية فإن مسلما لم يسق لفظها ، وقد ساقه ابن عبد البر ، كرواية الأكثرين ، كانوا يفتتحون القراءة بـ : الحمد لله رب العالمين ، وليس فيها نفي [ ص: 287 ] البسملة . رواها من رواية محمد بن كثير قال : حدثنا الأوزاعي وهذه أولى من رواية مسلم ; لأن تلك من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بالعنعنة ، والوليد مدلس ، كما تقدم . وأيضا فقد تقدم قول البيهقي أن رواية إسحاق ، وثابت هكذا ، وهو خلاف ما يوهمه عمل مسلم رحمه الله تعالى .




الخدمات العلمية