الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 253 ] ذكر وصف حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                          الذي أمرنا الله جل وعلا باتباعه واتباع ما جاء به

                                                                                                                          3944 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم قال : حدثنا هشام بن عمار ، وأخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قالا : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : دخلنا على جابر بن عبد الله ، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي ، فقلت : أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل ، ثم وضع كفه بين ثديي ، وأنا غلام يومئذ شاب ، فقال : مرحبا يا ابن أخي ، سل عما شئت ، فسألته وهو أعمى ، وجاء وقت الصلاة ، فقام في نساجة ملتحف بها ، كلما وضعها على منكبيه ، رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بيده وعقد تسعا ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، [ ص: 254 ] كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع ؟ فقال : اغتسلي ، واستثفري بثوب ، وأحرمي .

                                                                                                                          فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشي ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيئا ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته .

                                                                                                                          قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى أتينا البيت معه ، استلم الركن فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم ، فقرأ : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول : - ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم - إنه كان يقرأ في الركعتين : قل هو الله أحد [ ص: 255 ] و قل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ، فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، ووحد الله ، وكبره ، وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، نجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه إلى بطن الوادي ، سعى ، حتى إذا صعد مشى ، حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة .

                                                                                                                          فقام سراقة بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : دخلت العمرة في الحج " مرتين " ، لا بل لأبد الأبد ، لا بل لأبد الأبد .

                                                                                                                          [ ص: 256 ] وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد فاطمة ممن قد حل ، ولبست ثياب صبغ ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : أبي أمرني بهذا ، قال : فكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت ، وأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : صدقت ، ما قلت حين فرضت الحج ؟ قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ، قال : فإن معي الهدي ، فلا تحل ، قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة ، قال : فحل الناس كلهم ، وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي .

                                                                                                                          فلما كان يوم التروية ، توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج ، ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء ، فرحلت له ، فأتى بطن الوادي يخطب الناس ، ثم قال صلى الله عليه وسلم :

                                                                                                                          إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، [ ص: 257 ] في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، وكان مسترضعا في بني ليث ، فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ؛ فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله . وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال صلى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد - ثلاث مرات -

                                                                                                                          ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل باطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، فاستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، وغاب القرص ، أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق [ ص: 258 ] للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة السكينة ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا .

                                                                                                                          ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر ، حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، دفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن العباس ، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه من الشق الآخر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الشق الآخر على وجه الفضل ، فصرف وجهه من الشق الآخر حتى أتى محسرا ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج إلى الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا ، رضوان الله عليه ، فنحر ما غبر منها ، وأشركه في هديه ، وأمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها .

                                                                                                                          [ ص: 259 ] ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يستقون على زمزم ، فقال : انزعوا يا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم ، لنزعت معكم ، فناولوه دلوا ، فشرب منه .


                                                                                                                          لفظ الخبر لأبي بكر بن أبي شيبة

                                                                                                                          قال أبو حاتم رضي الله عنه : هذا النوع لو استقصيناه لدخل فيه ثلث السنن ، وفيما أومأنا إليه من الأشياء التي فرضت على المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته جميعا من الوضوء والتيمم والاغتسال من الجنابة والصلاة والحج ، وما أشبه هذه الأشياء ما فيها غنية عن الإمعان والإكثار فيها لمن وفقه الله للصواب ، وهداه لسلوك الرشاد .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          الخدمات العلمية