الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ هل يجب ذكر سبب الجرح والتعديل ] الجرح والتعديل ، هل يقبلان أو أحدهما من غير ذكر سبب ، فيه [ ص: 179 ] خلاف ، منشؤه أن المعدل والمجرح هل هو مخبر فيصدق ، أو حاكم ومفت فلا يقلد ؟ أحدها : وهو الصحيح يقبل التعديل من غير سبب ، بخلاف الجرح ; لأن أسباب التعديل كثيرة ، فيشق ذكرها ، بخلاف الجرح ، فإنه يحصل بأمر واحد ، والاختلاف في سبب الجرح ، فربما ذكر شيئا لا جرح فيه ، كما حكي عن شعبة أنه قيل له : لم تركت حديث فلان ؟ قال رأيته يركض برذونا ، فتركت حديثه . قال الصيرفي : ولأن الشافعي حكى أنه وقف عند بعض القضاة على رجل يجرح رجلا فسئل ، فقال : رأيته يبول قائما . فقيل له : فما بوله قائما ؟ قال يترشرش عليه ويصلي . فقيل له : رأيته بال قائما يترشرش عليه ثم صلى ؟ فلم يكن عنده جواب ; ولأنه بال قائما ، وهذا القول هو المنصوص للشافعي وقال القرطبي : هو أكثر من قول مالك . قال الخطيب : وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم . والثاني : عكسه ; لأن مطلق الجرح مبطل الثقة ، ومطلق التعديل لا يحصل به الثقة لتسارع الناس إلى الظاهر ، فلا بد من السبب ، ونقله الإمام في " البرهان " ، وإلكيا في " التلويح " ، وابن برهان في " الأوسط " ، [ ص: 180 ] والغزالي في " المنخول " عن القاضي ، وقال إمام الحرمين : إنه أوقع في مأخذ الأصول ، وما حكوه عن القاضي وهم ; لما سيأتي .

                                                      والثالث : أنه لا بد من السبب فيهما أخذا بمجامع كل من الفريقين ، وبه قال الماوردي . وقد روي أن عمر ( رضي الله عنه ) زكي عنده رجل فسأل المزكي عن أحواله فظهر له ما لا يكتفى به . والرابع : عكسه وهو أنه لا يجب ذكر السبب فيهما ; لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية ، وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال ، وهذا هو اختيار القاضي أبي بكر . كذا نص عليه في " التقريب " ، وكذا نقله عنه الخطيب البغدادي في " الكفاية " والغزالي في " المستصفى " ، وأبو نصر بن القشيري في كتابه ، ورد على إمام الحرمين في نقله عنه ما سبق ، وكذا نقله الماوردي في " شرح البرهان " والقرطبي في " الأصول " ، والآمدي والإمام الرازي ، والهندي . والخامس : إن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما ، وإن لم يعرف اطلاعه على شرائطهما استخبرناه عن أسبابهما ، وقال القاضي في " التقريب " : إن بعض أصحاب الشافعي عزاه للشافعي . قلت وهو ظاهر تصرفه ، فإن وجد له نص بالإطلاق حمل على ذلك ، ولا يخرج قولان .

                                                      وقد حكى القاضي أبو الطيب الطبري في تعليقه في باب الأواني : أن من أخبر بنجاسة الماء يعتمد خبره إذا بين السبب ، ثم قال : قال الشافعي في " الأم " : اللهم إلا أن يعلم من حال المخبر أنه يعلم أن سؤر السباع [ ص: 181 ] طاهر ، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس فيقبل قوله عند الإطلاق هذا كلامه ، وهو قول إمام الحرمين ، والغزالي ، والرازي ، وقال الهندي : إنه الصحيح ، وإليه ميل كلام الخطيب ، ويحتمل أن يكون هذا هو مذهب القاضي ، لأنه إذا لم يكن عارفا بشروط العدالة ، لم يصلح للتزكية .

                                                      وهذا حكاه ابن القشيري في كتابه عن إمام الحرمين . قال : وقد أشار القاضي إلى هذا في ، التقريب " أيضا . وحكاه إلكيا الطبري عن إمام الحرمين بلفظ : إن كان لا يطلق التعديل إلا بعد استقصاء ، كمالك ، فمطلق تعديله كاف ، وإن كان من المتساهلين فلا . ثم قال : ويرد عليه أنه إذا كان من العالمين بشرائط العدالة فالظن أنه استقصى ، وتقدير خلاف ذلك فيه نسبة إلى مخالفة الشرع . فإن علم من حاله ذلك وإلا فليس هو من أهل التعديل ، وكلامنا في التعديل المطلق فيمن هو من أهل التعديل ، فإن من الناس من يقول : هو وإن كان من أهل التعديل إلا أنه عرضة للغلط ، فلا بد وأن يبين لنا المستند ; لئلا نكون مقلدين غير معصوم ، وهذا هو الأصل إلا أن يسقط اعتباره . والإمام يقول : المعتبر غلبة الظن ، متى حصلت ، وإذا لاح لنا من حال مثل مالك أنه لا يتساهل ، حصلت غلبة الظن ، فيقال : غلبة الظن لا بد أن تستند إلى ضابط الشرع الواضح ، وقد روينا من روى عنه مالك في الموطإ ، وقد طعن فيه غيره ، مثل عبد الله بن أبي بكر ، فإنه من رجال الموطإ ، وقد قدح فيه سفيان بن عيينة ، فلا بد من بيان حاله إلا أن يتضمن ذلك عسرا ، كما قاله الشافعي . ا هـ .

                                                      وقال ابن دقيق العيد في " شرح العنوان " وقد حكى هذا المذهب : [ ص: 182 ] ينبغي أن يشترط في هذا عند التعديل بين يدي الحاكم شرط آخر ، وهو اتفاق مذهبه مع مذهب المعدل في الشرائط المعتبرة في التزكية ، وإلا فمن يعتقد أن المسلم على العدالة ، ويكتفي بظاهر الحال ، فقد يزكي من لا يقبله من يخالفه في هذا المذهب ، وكذا إذا ظهر في مزكي الرواة أن هذا مذهب لذلك المزكي ، فلا ينبغي أن يكتفي به من يخالفه في هذا المذهب .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية