الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 107 ] مسألة [ الشك ] الشك : قال العسكري : أصله من قولهم : شككت الشيء إذا جمعته بشيء يدخل فيه ، والشك : هو اجتماع شيئين في الضمير ، وقال أبو هاشم في أحد قوليه : اعتقادان يتعاقبان لا يتصور الجمع بينهما ، وأفسدوه بما إذا زال الاعتقاد الجازم باعتقاد آخر . وقال في قوله الآخر : عدم العلم : وهو فاسد لحصوله من الجماد والنائم ، ولا يوصف بالشك . وقال القاضي أبو بكر : استواء معتقدين في نفس المستريب مع قطعه أنهما لا يجتمعان ، وفيه زيادة ، وهي قوله : " استواء " وقوله : " المستريب " فإن أحدهما يغني عن الآخر ، إذ لا يمكن استرابة مع ظهور أحدهما ، ولا استواء مع عدم استرابة ، وأيضا فغير جامع ; لما إذا ظن عدم الاجتماع . فإنه خرج بقوله : مع قطعه أنهما لا يجتمعان . وقال الآمدي : وصف كل من الأمرين بكونه معتقدا ، ومن ضرورته تعلق الاعتقاد الجازم به ، وذلك مع الاستواء محال ، وقد يمنع الاستحالة ، إذ الاعتقاد غير منحصر في الجازم . [ ص: 108 ] وقال إمام الحرمين : هو الاسترابة في معتقدين . وأفسده الآمدي بأنه جمع بين الاسترابة والاعتقاد بالنسبة إلى شيء واحد . وهذا الإفساد فاسد ; لعدم اتحاد المحل ; لأن الاسترابة في تعيين المراد في نفس الأمر ، والاعتقاد لصلاحية إرادة كل واحد ، وقد يكون من غير جزم فيكون ذلك ترادفا . نعم هو غير جامع لما إذا كانت الاسترابة في غير نفي ولا إثبات من وقف وشك وغيره ، وغير مانع ; لدخول الاسترابة في معتقدين في وقتين ، فإنه ليس بشك فلا بد أن يقول : في وقت واحد ، ولا يجتمعان وقوعا . وقال الآمدي : الأقرب أن الشك التردد في أمرين متقابلين لا ترجيح لوقوع أحدهما على الآخر في النفس . انتهى . ويرد على الجميع التقيد بالأمرين ، فإن الشك قد يكون بين أمور متعددة ، كما لو شك هل زيد قائم أو قاعد أو نائم ؟ وذكر الهندي أن الشك قسمان : أحدهما : التردد في ثبوت الشيء ونفيه ترددا على السواء . والثاني : أن لا يتردد بل يحكم بأحدهما مع تجويز نقيضه تجويز استواء . قال : والفرق بينهما فرق ما بين الخاص والعام ، فإن الأول منهما قد يكون لعدم الدليل على الاحتمالين ، وقد يكون لدليلين متساويين عليهما ، وأما الثاني فإنه لا يكون إلا بدليلين متساويين ، وإلا لم يكن ذلك الحكم يعتبر ، لأنه حينئذ يكون بالتشهي [ ص: 109 ] قال : والذي يدل على أن الأول شك وإن لم يذكره كثير من الأصوليين أن من توقف عن الحكم بثبوت الشيء ونفيه يقال : إنه شاك في وجوده ونفيه . انتهى . ونبه إمام الحرمين على فائدة ، وهي أن الشك لا بد وأن يكون مع قيام المقتضي لكل واحد من الأمرين . وقال : هو اعتقاد أن يتقاوم سببهما . ذكره في " النهاية " في أبواب الصلاة ، وفيه تنبيه على أن مجرد التردد في الأمرين من غير قيام ما يقتضي ذلك لا يسمى شكا ، وكذلك من غفل عن شيء بالكلية . فيسأل عنه لا يسمى شاكا . وكلام الراغب يوافقه ، فإنه قال : هو اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما ، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده في النقيض أو لعدم الأمارة فيهما . والشك ربما كان في الشيء هل هو موجود أو لا ؟ وربما كان في جنسه أي : أي جنس هو ؟ وربما كان في بعض صفاته ، وربما كان في الغرض الذي لأجله وجد . والشك ضرب من الجهل ، وهو أخص منه ; لأن الجهل قد يكون عدم العلم بالنقيض أصلا ، فكل شك جهل ، وليس كل جهل شكا . قال تعالى : { وإنهم لفي شك منه مريب } وأصله : إما من شككت الشيء أي خرقته ، فكان الشك الخرق في الشيء وكونه بحيث لا يجد الرائي مستقرا يثبت فيه ويعتمد عليه ، ويصح أن يكون مستعارا من الشك ، وهو لصوق العضد بالجنب وذلك أن يتلاصق النقيضان . فلا يدخل الفهم والرأي لتخلله بينهما ، ولهذا يقولان : التبس الأمر واختلط وأشكل ونحوه من الاستعارات [ ص: 110 ] وقال الغزالي : في الإحياء في الباب الثاني في مراتب الشبهات : الشك عبارة عن اعتقادين متقابلين نشآ عن سببين ، وقال في الباب الثالث في البحث والسؤال : إنه عبارة عن اعتقادين متقابلين لهما سببان متقابلان

                                                      . وأكثر الفقهاء لا يدرون الفرق بين ما لا يدرى وبين ما لا يشك فيه . وقال قبل ذلك : إذا دخلت بلدا غريبا ، ودخلت سوقا ، ووجدت قصابا أو خبازا أو غيره ولا علامة تدل على كونه مريبا أو خائنا ، ولا ما لا يدل على نفيه ، فهذا مجهول لا يدرى حاله ، ولا نقول : إنه مشكوك فيه ، وقال في الباب الثاني : لو سئل الإنسان عن صلاة الظهر التي أداها قبل هذا بعدة سنين كانت أربعا أو ثلاثا ؟ لم يتحقق قطعا أنها أربع ، وإذا لم يقطع جوز أن تكون ثلاثا ، وهذا التجويز لا يكون شكا إذا لم يحضره سبب أوجب اعتقاد كونه ثلاثا ، فليفهم حقيقة الشك حتى لا يشتبه بالوهم والتجويز بغير سبب .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية