الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: فوات فسخ عقد الإيصاء بغيبة الموصي:

        صورة ذلك: أن يوصي شخص لآخر بالقيام بتربية أولاده، أو تزويجهم، أو تنمية أموالهم بعد موته، فيقبل ذلك، فهل له أن يرجع عن قبوله الوصية في حال غيبة الموصي، أو لا بد أن يكون الموصي حاضرا حتى يصح الرجوع عن قبول الوصية من طرف الموصى إليه؟

        اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن غيبة الموصي تفيت الفسخ على الموصى إليه حتى يعلم الموصي.

        [ ص: 74 ] وبه قال الحنفية.

        وعللوا لما ذهبوا إليه: بأن الموصي قد اعتمد على الموصى إليه، فلو فسخ الإيصاء بدون علمه لكان في ذلك غرر للموصي، والغرر ضرر، والضرر مرفوع، فلا يصح الفسخ.

        ونوقش: بأن الوصية إنما تترتب عليها أحكامها بعد موت الموصي، وما دام الموصي حيا فللوصي التراجع عن قبوله للوصية; لأنه لا ضرر على الموصي في ذلك ولا على الموصى به; لكون الموصي يمكنه أن يغير الوصية إلى شخص آخر.

        وكون الموصي لم يعلم بالفسخ لا أثر له إلا على افتراض أنه مات قبل أن يعلم.

        القول الثاني: أن ذلك لا يفيت الفسخ على الموصى إليه.

        وهذا القول هو مقتضى قول بعض المالكية، الذين أطلقوا جواز رجوع الموصى إليه عن الوصية في حياة الموصي، وهو مقتضى مذهب الشافعية؛ لأنهم أطلقوا جواز رجوع الموصى إليه عن الوصية في أي وقت شاء، وهو المذهب من الروايتين عند الحنابلة.

        وحجته: بأن الموصى إليه متصرف بالإذن كالوكيل، فكان له أن يعزل نفسه دون علم الموصي كالوكيل.

        [ ص: 75 ] ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا قياس مع الفارق; لأن الوكيل في الموكل فيه تبدأ من صورة الوكالة، بينما ولاية الموصى إليه في الوصية تبدأ من موت الموصي.

        الثاني: أن هذا من باب القياس على أمر مختلف فيه; إذ عزل الوكيل نفسه دون علم الموكل محل خلاف كما سبق، والقياس على المختلف فيه غير ملزم; لأنه من باب إثبات المذهب بالمذهب، وهو لا يثمر حجة عند من لا يرى الحكم في المقيس عليه.

        القول الثالث: أن الموصى إليه لا يمكنه أن يفسخ الوصية بعد قبوله لها.

        وبه قال بعض المالكية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

        وحجته:

        1- أن قبول الموصى إليه الوصية بمثابة هبته بعض منافعه، وهبته بعض منافعه لا يصح له الرجوع فيها، فكذلك هنا.

        2- أن هذه قربة وفعل خير ألزمه نفسه، فلم يكن له الخروج منه بغير عذر اعتبارا بالصوم والحج.

        ونوقش من وجوه:

        الأول: أن قبول الوصية في حال حياة الموصي في حكم المعلق على الشرط; لأن العمل بالوصية معلق بموت الموصي، والمعلق على الشرط إنما يلزم بحصوله، فكيف يقال بلزوم الوصية في حق الموصى إليه قبل موت الموصي؟!

        [ ص: 76 ] الثاني: أن قياسهم له على كونه كهبة الشخص بعض منافعه قياس مع الفارق; لأن المنافع مستهلكة في وقت هبتها فلا يمكن استرجاعها، أما المنافع في الوصية فغير مستهلكة وقت القبول; لأنها معلقة على موت الموصي.

        الثالث: أن قياسهم له على الصوم والحج لا يستقيم; لوجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه; لأن الصوم والحج إنما يلزم نفلهما بالشروع فيهما، وقبول الوصي الإيصاء في حياة الموصي لا يعد شروعا فيها; لأن أحكامها الحقيقية إنما تبدأ بعد وفاة الموصي، والموصي ما زال حيا.

        الرابع: أن كون الصوم يلزم بالشروع مسألة خلافية، فيكون القياس عليها قياسا على مختلف فيه، والقياس على المختلف فيه لا يصح دليلا كما هو معروف.

        الترجيح:

        يترجح -والله أعلم- أن يقال: إن الفسخ يترتب عليه ضرر فيمنع منه، إلا من عذر، وإلا فإنه لا يمنع منه، كما لو كان الموصي عالما بالفسخ; لتمكنه من نقل الوصية إلى شخص آخر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية