الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              282 [ ص: 375 ] (باب منه) وأورده النووي في (إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار)

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 50-52 ج3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن يزيد الفقير ، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته و كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فما هذا الذي تقولون؟! قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام يعني الذي يبعثه الله فيه، قلت: نعم، قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال أبو نعيم ].

                                                                                                                              [ ص: 376 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 376 ] (الشرح)

                                                                                                                              "عن يزيد الفقير": وهو يزيد بن صهيب الكوفي. ثم المكي أبو عثمان.

                                                                                                                              قيل له "الفقير" لأنه أصيب في فقار ظهره، فكان يألم منه حتى ينحني له:

                                                                                                                              "قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج" هكذا في الأصول "بالغين المعجمة".

                                                                                                                              وحكى عياض "بالعين المهملة"، وهما متقاربان. ومعناه: لصق بشغاف قلبي؛ وهو "غلافه".

                                                                                                                              ورأي الخوارج، هو: أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار؛ ولا يخرج منها من دخلها.

                                                                                                                              "فخرجنا في عصابة ذوي عدد" أي: خرجنا من بلادنا. ونحن جماعة كثيرة "نريد أن نحج ثم نخرج على الناس" مظهرين مذهب الخروج، وندعو إليه، ونحث عليه.

                                                                                                                              "قال: فمررنا على المدينة" المنورة "فإذا جابر بن عبد الله، يحدث القوم، جالس إلى سارية" من سواري المسجد، "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا هو قد ذكر الجهميين؛ قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول [ ص: 377 ] إنك من تدخل النار فقد أخزيته .

                                                                                                                              و( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ).

                                                                                                                              فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.

                                                                                                                              قال: فهل سمعت بمقام محمد "عليه السلام؟" يعني: الذي يبعثه الله فيه.

                                                                                                                              قلت: نعم.

                                                                                                                              قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود، الذي يخرج الله به من يخرج.

                                                                                                                              وما أحسن هذا الجواب من جابر ليزيد! فقد أجاب عن القرآن بالقرآن، واستدل على الخصم بالقرآن، الذي جاء به على إثبات مذهبه.

                                                                                                                              قال: ثم نعت وضع الصراط، ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. غير أنه. قد زعم أن قوما يخرجون من النار.

                                                                                                                              زعم هنا بمعنى "قال".

                                                                                                                              "بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم" بفتح السين الأولى وكسر الثانية. جمع "سمسم"، وهو هذا المعروف الذي يستخرج منه الشيرج.

                                                                                                                              [ ص: 378 ] قال ابن الأثير: معناه، والله أعلم: أن السماسم جمع "سمسم" وعيدانه، تراها إذا قلعت، وتركت، في الشمس ليؤخذ حبها دقاقا سودا، كأنها محترقة فشبه بها هؤلاء.

                                                                                                                              قال: وطالما طلبت "هذه اللفظة" وسألت عنها، فلم أجد فيها شافيا.

                                                                                                                              قال: فما أشبه أن تكون اللفظة محرفة، وربما كانت "عيدان الساسم" وهو خشب أسود كالأبنوس، انتهى.

                                                                                                                              "والساسيم" بحذف الميم. كذا قاله الجوهري، وغيره.

                                                                                                                              وقال عياض: لا يعرف معنى "السماسم" هنا. قال: ولعله "الساسم" وهو أشبه. وهو "عود أسود". وقيل: هو "الأبنوس". وقال بعضهم "السماسم" كل نبت ضعيف "كالسمسم" والكزبرة.

                                                                                                                              وقال آخرون: لعله "أساسم" وهو "الأبنوس" شبههم به في سواده.

                                                                                                                              فهذا مختصر ما قالوه فيه. والمختار أنه "السمسم" على ما بينه ابن الأثير وفي كثير من الأصول "كأنها" وفي معظمها "كأنهم".

                                                                                                                              وعلى الأول: الضمير عائد على "الصور"، أي: كأن صورهم عيدان السماسم.

                                                                                                                              "قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه. فيخرجون كأنهم القراطيس" جمع "قرطاس" بكسر القاف، وضمها "لغتان" وهو الصحيفة؛ التي يكتب فيها. شبههم بها لشدة بياضهم، بعد اغتسالهم، وزوال ما كان عليهم من السواد، والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 379 ] "فرجعنا قلنا: ويحكم؟ أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

                                                                                                                              يعني "بالشيخ": جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وهو استفهام إنكار، وجحد. أي لا يظن به الكذب بلا شك. فإن الصحابة كلهم عدول، ولله در يزيد الفقير. ما أقربه لقبول الحق!

                                                                                                                              وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

                                                                                                                              لاسيما عند سماع الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              وهكذا ينبغي ترك الرأي والاجتهاد، في مقابلة النص وقول الشارع عليه السلام.

                                                                                                                              "فرجعنا: فلا والله! ما خرج منا غير رجل واحد" يعني: رجعنا من حجنا، ولم نتعرض لرأي الخوارج، بل كففنا عنه، وتبنا منه، إلا رجلا منا، فإنه لم يوافقنا في الانكفاف عنه.

                                                                                                                              "أو كما قال أبو نعيم": المراد به "الفضل بن دكين"، بضم الدال في أول الإسناد، وهو شيخ شيخ "مسلم".

                                                                                                                              وهذا الذي فعله، أدب معروف، من آداب "الرواة"، وهو أنه ينبغي للراوي إذا روى بالمعنى أن يقول عقب روايته: "أو كما قال، احتياطا وخوفا من تغيير حصل.




                                                                                                                              الخدمات العلمية