الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث - أن هذا من أكبر الحجج عليكم; فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر، وعثمان، وعطاء، مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون تقليد واحد من هؤلاء.

بل إذا قال الشافعي: وقال الشافعي، وقال عمر، وعثمان، وابن مسعود، فضلا عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي، وهذا عين التناقض، فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي، فقلدوا من قلده الشافعي.

[ ص: 341 ] فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي .

قيل: لم يكن ذلك تقليدا منكم لهم، بل تقليدا له، وإلا، فلو جاء عنهم خلاف قوله، لم تلتفتوا إلى أحد منهم .

الرابع - أن من ذكرتم من الأئمة، لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه البتة .

بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم، فقلدوه.

وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب.

فإن التقليد إنما يباح للمضطر.

وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وعن معرفة الحق بالدليل، مع تمكنه منه، إلى التقليد، فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى.

فإن الأصل ألا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة. فجعلتم أنتم حال الضرورة، رأس أموالكم.

الوجه السادس والستون: قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا.

ونحن نقول ونصدق رأي الشافعي: ورأي الأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا .

جوابه من وجوه:

أحدها- أنكم أول مخالف لقوله، ولا ترون رأيهم لكم خيرا من رأي الأئمة لأنفسهم.

بل تقولون: رأيهم لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا.

فإذا جاءت الفتيا عن أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، وسادات الصحابة، [ ص: 342 ] وجاءت الفتيا عن الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم بما أفتى به الأئمة.

فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرا من رأي الأئمة لكم، لو نصحتم أنفسكم؟

الثاني - أن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة ; لما خصهم الله به من العلم، والفهم، والفضل، والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي، والتلقي عن الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم، وهي غضة محضة لم تشب، ومراجعتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يجليه لهم.

فمن له هذه المزية بعدهم، ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون، فضلا عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه، كما صرح به غلاتهم؟

وتالله! إن بين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل، كما بينهم وبينهم في ذلك.

قال الشافعي في "الرسالة القديمة" - بعد أن ذكرهم، وذكر من تعظيمهم وفضلهم - وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد وورع، وعقل وأمر استدرك به علم، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا.

قال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم.

وفي "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" .

وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" .

[ ص: 343 ] وقال ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب عباده، فوجد قلب "محمد" خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحا، فهو عند الله قبيح.

وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنة خلفائه الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين .

وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم- وشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل.

وضمه إليه مرة وقال: "اللهم علمه الحكمة" .

وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه، حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره، وأوله بالعلم.

وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر، وعمر، يرشدوا. وأخبر أنه لو كان بعده نبي، لكان عمر.

وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وقال: "رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد" - يعني: عبد الله بن مسعود-.

وفضائلهم ومناقبهم وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر من أن تذكر.

فهل يستوي تقليد هؤلاء، وتقليد من بعدهم، ممن لا يدانيهم ولا يقاربهم؟

الثالث - أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلدتموه حجة.

وأكثر العلماء، بل الذي نص عليه من قلدتموه: أن أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها، ويحرم الخروج منها، كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك.

وأبلغهم فيه الشافعي، ونبين أنه لم يختلف مذهبه: أن قول الصحابة حجة، ونذكر نصوصه في "الجديد" على ذلك - إن شاء الله -، وأن من حكى عنه قولين في ذلك، فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا بصريحه.

وإذا كان قول الصحابي حجة، فقبول قوله واجب متعين، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغا.

[ ص: 344 ] فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله.

الوجه السابع والستون: قولكم: وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين، في جميع الصنائع والعلوم... إلى آخره.

فجوابه: أن هذا حق لا ينكره عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه، وترك الحجة لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعا من السلف والخلف لقوله، فهل جعل الله ذلك في فطرة أحد من العالمين؟!.

ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده: طلب الحجة والدليل المثبت لقول المدعي .

فركز سبحانه في فطر الناس: أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله.

ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة، والحجج الساطعة، والأدلة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله; إقامة للحجة، وقطعا للمعذرة.

هذا وهم أصدق خلقه، وأعلمهم وأبرهم، وأكملهم، فأتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس.

فكيف يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟!

والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم، لما جعل في فطر عباده من الانقياد للحجة، وقبول صاحبها.

وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض، مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم: الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها، وإن خالفوه عنادا وبغيا، فلفوات أغراضهم بالانقياد، ولقد أحسن القائل:


أين وجه قول الحق في قلب سامع ودعه فنور الحق يسري ويشرق     سيؤنسه رشدا وينسى نفاره
كما نسي التوثيق من هو مطلق

[ ص: 345 ] ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد .

الوجه الثامن والستون: قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان.

فلا يليق بحكمته وعدله، أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى آخره .

فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق، بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دقه وجله.

وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة، ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نصب رجل واحد، وجعل فتاواه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم قوله على أقوال من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله، وسنة رسوله.

وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم، والإخبار عمن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة وقد تعارضت أقوالهما، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة، والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم معين .

فهو إما أن يسلك هذا المسلك، أو يخفي من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه.

إذا عرفت هذا، فنحن نقول: إن الله تعالى أوجب على العباد أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى من العمل به.

فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه، مما أمر الله به ونهاه [ ص: 346 ] عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله، وما خفي عليه، فهو فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول.

فكل أحد سواه، قد خفي بعض ما جاء به، ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه.

قال أبو عمر: وليس أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، إلا وقد خفي عليه بعض أمره.

فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق، وعذره فيما خفي عليه منه، فأخطأه، أو قلد فيه غيره، كان ذلك هو مقتضى حكمته، وعدله ورحمته.

بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من شاءوا من العلماء، وأن يختار كل منهم رجلا ينصبه معيارا على وحيه ويعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي، فإن هذا ينافي حكمته، ورحمته، وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه، وهجر كتابه، وسنة رسوله، كما وقع فيه من وقع، وبالله التوفيق .

الوجه التاسع والستون: قولكم: إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام، والمتبوع مع التابع، والركب خلف الدليل.

جوابه: إنا - والله - حولها ندندن، ولكن الشأن في الإمام، والدليل، والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تأتم به، وتسير خلفه.

وأقسم سبحانه بعزته: أن العباد لو أتوه من كل طريق، أو استفتحوا من كل باب، لم يفتح لهم حتى يدخلوا .

فهذا - لعمر الله - هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقا، ولم يجعل الله منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه، ودل عليه، وأمر الناس أن يقتدوا به، ويأتموا به، ويسيروا خلفه، وألا ينصبوا لنفوسهم متبوعا، ولا إماما، ولا دليلا غيره، بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين، كل واحد يصلي طاعة لله، وامتثالا لأمره، وهم في الجماعة متعاونون متساعدون، وبمنزلة الوفد مع الدليل كلهم يحج طاعة لله وامتثالا لأمره.

[ ص: 347 ] لا أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي، بل هو يصلي، صلى إمامه أو لا.

بخلاف المقلد، فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه ; لأنه قاله، لا لأن الرسول قاله.

ولو كان كذلك، لدار مع الرسول أين كان، ولم يكن مقلدا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة، ودليل الحاج، من أظهر الحجج عليهم.

يوضحه الوجه السبعون: أن الإمام قد علم أن هذه الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده، وأنه وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على من استطاع إليه سبيلا، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء.

فهو لم يحج تقليدا للدليل، ولم يصل تقليدا للإمام.

وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم- دليلا يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه .

وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف مأموما، والعالم يصلي خلف مثله، ومن هو دونه.

بل خلف من ليس بعالم، وليس من تقليده في شيء.

يوضحه الوجه الحادي والسبعون: أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل، وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت، ومع من كانت، فهذا يكون متبعا لهم.

وأما من أعرض عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك غير سبيلهم، ثم يدعي أنه مؤتم بهم، فتلك أمانيهم، ويقال لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [البقرة: 111].

الوجه الثاني والسبعون: قولكم: إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتحوا البلاد، [ ص: 348 ] وكان الناس حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل .

جوابه: أنهم لم يفتوهم بآرائهم، وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم، وفعله، وأمر به، فكان ما أفتوهم به هو الحكم، وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم. فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل، وهو الحكم.

فإن كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الحكم، وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن .

وكان الناس إذ ذاك، إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله، وأمر به . وإنما يبلغهم الصحابة ذلك.

فأين هذا من زمان، إنما يحرص الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر؟!

وكلما تأخر الرجل، أخذوا كلامه، وهجروا، أو كادوا يهجرون، كلام من فوقه، حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرا لكلامهم.

وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى إليهم .

وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدم هجرا ورغبة عنه، حتى إن كتبه لا تكاد تجد فيهم منها شيئا بحسب تقدم زمانه.

ولكن أين قول أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلا يختاره ويقلده دينه، ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلق الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال، فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء، وعمن نصبتموه إماما تقلدونه، فخذوا بقوله، ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله؟!.

فوالله ! لو كشف الغطاء لكم، وحقت الحقائق، لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة، كما قال الأول:


نزلوا بمكة في قبائل هاشم     ونزلت بالبيداء أبعد منزل
سارت مشرقة وسرت مغربا     شتان بين مشرق ومغرب
[ ص: 349 ] أيها المنكح الثريا سهيلا     عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت     وسهيل إذا استقل يماني

الوجه الثالث والسبعون: قولكم: إن التقليد من لوازم الشرع والقدر، والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد، كما تقدم بيانه من الأحكام.

جوابه: أن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع، وإن كان من لوازم القدر، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع، كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها، وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع: المتابعة.

وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع، ليست تقليدا، وإنما هي متابعة وامتثال للأمر.

فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدا، فالتقليد بهذا الاعتبار حق، وهو من الشرع.

ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع، ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه: يوضحه.

الوجه الرابع والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع، فبطلان ضده من لوازم الشرع.

فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع، لكان بطلان الاستدلال، واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع، فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر، وصحة أحد الضدين توجب بطلان الآخر.

ونحرره دليلا فنقول: لو كان التقليد من الدين، لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال ; لأنه يتضمن بطلانه .

فإن قيل: كلاهما من الدين، وأحدهما أكمل من الآخر، فيجوز العدول من المفضول إلى الفاضل.

قيل: إذا كان قد انسد باب الاجتهاد عندكم، وقطعت طريقه، وصار الفرض هو التقليد، فالعدول عنه إلى ما قد سد بابه، وقطعت طريقه، يكون عندكم معصية، وفاعله آثم.

[ ص: 350 ] وفي هذا من قطع طريق العلم، وإبطال حجج الله وبيناته، وخلو الأرض من قائم لله بحججه، ما يبطل هذا القول ويدحضه.

وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه "لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة" .

وهؤلاء هم أولو العلم بما بعث الله به رسوله، فإنهم على بصيرة من دينه.

بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر .

والمقصود: أن الذي هو من لوازم الشرع، فالمتابعة والاقتداء، وتقديم النصوص على آراء الرجال، وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء .

وأما الزهد في النصوص، والاستغناء عنها بآراء الرجال، وتقديمها عليها، والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة نصب عينيه، وعرض أقوال العلماء عليها، ولم يتخذ من دون الله، ولا رسوله وليجة، فبطلانه من لوازم الشرع، ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله. فهذا لون، والاتباع لون. والله الموفق.

الوجه الخامس والسبعون: قولكم: كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد، فأنتم مقلدون لحملتها ورواتها، وليس بيد العالم إلا تقليد الراوي، ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره.

جوابه: ما تقدم مرارا، من أن هذا الذي سميتموه تقليدا، هو اتباع أمر الله ورسوله.

ولو كان هذا تقليدا، لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدا، بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين .

[ ص: 351 ] ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس، يقصد لبس الحق بالباطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية