الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ( 42 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد وهم قوم المرأة البغية محتكمين إليك ، فاحكم بينهم إن شئت بالحق الذي جعله الله حكما له فيمن فعل فعل المرأة البغية منهم ، أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت ، والخيار إليك في ذلك .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

11970 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "أو أعرض عنهم " ، يهود ، زنى رجل منهم له نسب حقير فرجموه ، ثم زنى منهم شريف فحمموه ، ثم طافوا به ، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم . قال : فأفتاهم فيه بالرجم ، فأنكروه ، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم ، فناشدهم بالله : أتجدونه في التوراة؟ فكتموه ، إلا رجلا من أصغرهم أعور ، فقال : كذبوك يا رسول الله ، إنه لفي التوراة!

11971 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن ابن شهاب : أن الآية التي في"سورة المائدة " ، " فإن جاءوك فاحكم بينهم " ، كانت في شأن الرجم .

11972 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إنهم أتوه يعني اليهود [ ص: 326 ] في امرأة منهم زنت ، يسألونه عن عقوبتها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة؟ فقالوا : نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت ، وقد قال الله تبارك وتعالى : " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " .

11973 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قال : كانوا يحدون في الزنا ، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف ، فقال بعضهم لبعض : لا يدعكم قومه ترجمونه ، ولكن اجلدوه ومثلوا به! فجلدوه وحملوه على حمار إكاف ، وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف ، فقالوا : ارجموه! ثم قالوا : فكيف لم ترجموا الذي قبله؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : سلوه ، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنزلت : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " إلى قوله : "إن الله يحب المقسطين" .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قتيل قتل في يهود منهم ، قتله بعضهم .

ذكر من قال ذلك :

11974 - حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن الآيات في"المائدة " ، قوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، إلى قوله : "المقسطين " ، إنما نزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة ، وذلك أن قتلى بني النضير ، وكان لهم شرف ، تؤدي الدية كاملة ، وإن قريظة كانوا يؤدون [ ص: 327 ] نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذاك سواء والله أعلم أي ذلك كان .

11975 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن علي بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير ، وكان النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير ، قتل به . وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، أدى مائة وسق تمر . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا! فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنزلت " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " .

11976 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : كان في حكم حيي بن أخطب : للنضيري ديتان ، والقرظي دية لأنه كان من النضير . قال : وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة ، قال : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [ سورة المائدة : 45 ] ، إلى آخر الآية . قال : فلما رأت ذلك قريظة ، لم يرضوا بحكم ابن أخطب ، فقالوا : نتحاكم [ ص: 328 ] إلى محمد ! فقال الله تبارك وتعالى : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، فخيره " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " ، الآية كلها . وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي ، وحمموا وجه الشريف ، وحملوه على البعير ، وجعلوا وجهه من قبل ذنب البعير . وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه ، وفعلوا بها هي ذلك . فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها . قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا : فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه ، فقال : أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال : كذاك تزعم يهود! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال : يا أبا القاسم ، يرجمون الدنيئة ، ويحملون الشريف على بعير ، ويحممون وجهه ، ويجعلون وجهه من قبل ذنب البعير ، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة ، ويفعلون بها هي ذلك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أنشدك بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينشده بالله وبالتوراة التي أنزلها على موسى يوم طور سيناء ، حتى قال : يا أبا القاسم ، "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهو ذاك ، اذهبوا بهما فارجموهما . قال عبد الله : فكنت فيمن رجمهما فما زال يجنأ عليها ، ويقيها الحجارة بنفسه حتى مات .

[ ص: 329 ] ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية ، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمة والعهد إذا احتكموا إليهم ، مثل الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ، أم ذلك منسوخ؟

فقال بعضهم : ذلك ثابت اليوم ، لم ينسخه شيء ، وللحكام من الخيار في كل دهر بهذه الآية ، مثل ما جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

11977 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : إن رفع إليك أحد من المشركين في قضاء ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنزل الله ، وإن شئت أعرضت عنهم .

11978 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي وإبراهيم قالا : إذا أتاك المشركون فحكموك ، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين ، ولا تعده إلى غيره .

11979 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، وحدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم .

11980 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : إن شاء حكم ، وإن شاء لم يحكم .

11981 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير ، عن محمد بن سالم ، عن الشعبي قال : إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ، أو خل عنهم وأهل دينهم يحكمون فيهم ، إلا في سرقة أو قتل .

11982 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق عن ابن [ ص: 330 ] جريج قال ، قال لي عطاء ، نحن مخيرون ، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب ، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم . وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا ، أو نتركهم وحكمهم بينهم ، قال ابن جريج : وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب . وذلك قوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " .

11983 - حدثنا يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة وحدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قالا إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم . وإن حكم بينهم حكم بينهم بما في كتاب الله .

11984 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم " ، يقول : إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله ، أو أعرض عنهم . فجعل الله له في ذلك رخصة ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم .

11985 - حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا : إذا أتاك المشركون فحكموك فيما بينهم ، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعده إلى غيره ، أو أعرض عنهم وخلهم وأهل دينهم .

وقال آخرون : بل التخيير منسوخ ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكم بينهم بالحق ، وليس له ترك النظر بينهم .

ذكر من قال ذلك :

11986 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، نسخت بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) . [ سورة المائدة : 49 ] .

[ ص: 331 ] 11987 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن السدي قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) .

11988 - حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا : حدثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي قال : سمعت عكرمة يقول : نسختها : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) .

11989 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : لم ينسخ من " المائدة " إلا هاتان الآيتان : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، نسختها : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) [ سورة المائدة : 49 ] ، وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ) [ سورة المائدة : 2 ] ، نسختها : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ سورة التوبة : 5 ] .

11990 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مجاهد قال : نسختها : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) .

11991 - حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج بن منهال قال ، حدثنا همام ، عن قتادة قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، يعني اليهود ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم ، ورخص له أن يعرض عنهم إن شاء ، ثم أنزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها : ( وأنزلنا إليك الكتاب ) إلى قوله : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) [ سورة المائدة : 48 ] . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله بعد ما رخص له ، إن شاء أن يعرض عنهم .

[ ص: 332 ] 11992 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري : أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن عدي : "إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم" .

11993 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن السدي ، عن عكرمة قال : نسخت بقوله : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ) [ سورة المائدة : 48 ] .

11994 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، قال : مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم ، إلا أن يأتوا راغبين في حد ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله .

11995 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما نزلت : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، كان النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، ثم نسخها فقال : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) ، وكان مجبورا على أن يحكم بينهم .

11996 - حدثنا محمد بن عمار قال ، حدثنا سعيد بن سليمان قال ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد قال : آيتان نسختا من هذه السورة ، يعني"المائدة " ، آية القلائد ، وقوله : " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا ، إن شاء حكم ، وإن شاء أعرض عنهم ، فردهم إلى احتكامهم ، أن يحكم بينهم بما في كتابنا .

[ ص: 333 ] قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن حكم هذه الآية ثابت لم ينسخ ، وأن للحكام من الخيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا ، وترك الحكم بينهم والنظر ، مثل الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية .

وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب ، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ ، زعموا أنه نسخ بقوله : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ سورة المائدة : 49 ] وقد دللنا في كتابنا : "كتاب البيان عن أصول الأحكام" : أن النسخ لا يكون نسخا ، إلا ما كان نفيا لحكم غيره بكل معانيه ، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعا على صحته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " ، ومعناه : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم ، باختيارك الحكم بينهم ، إذا اخترت ذلك ، ولم تختر الإعراض عنهم ، إذ كان قد تقدم إعلام المقول له ذلك من قائله : إن له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلوما بذلك أن لا دلالة في قوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " ، أنه ناسخ قوله : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بينا ، بل هو [ ص: 334 ] دليل على مثل الذي دل عليه قوله : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " .

وإذ لم يكن في ظاهر التنزيل دليل على نسخ إحدى الآيتين الأخرى ، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يصح بأن أحدهما ناسخ صاحبه ولا من المسلمين على ذلك إجماع صح ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيد أحدهما صاحبه ، ويوافق حكمه حكمه ، ولا نسخ في أحدهما للآخر .

وأما قوله : " وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " ، فإن معناه : وإن تعرض يا محمد ، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب ، فتدع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك ، فلا تحكم فيه بينهم "فلن يضروك شيئا " ، يقول : فلن يقدروا لك على ضر في دين ولا دنيا ، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم .

وأما قوله : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، فإن معناه : وإن اخترت الحكم والنظر ، يا محمد ، بين أهل العهد إذا أتوك " فاحكم بينهم بالقسط " ، وهو العدل ، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكما في مثله على جميع خلقه من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

11997 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة ، [ ص: 335 ] عن إبراهيم والشعبي : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، قالا : إن حكم بينهم ، حكم بما في كتاب الله .

11998 - حدثنا سفيان قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، قال : أمر أن يحكم فيهم بالرجم .

11999 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن العوام ، عن إبراهيم التيمي في قوله : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ، قال : بالرجم .

21000 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "بالقسط " بالعدل .

12001 - حدثنا هناد قال ، حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي في قوله : " فاحكم بينهم بالقسط " ، قال : أمر أن يحكم بينهم بالرجم .

وأما قوله : " إن الله يحب المقسطين " ، فمعناه : إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس ، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنزله في كتابه وأمره أنبياءه صلوات الله عليهم .

يقال منه : "أقسط الحاكم في حكمه " ، إذا عدل وقضى بالحق ، "يقسط [ ص: 336 ] إقساطا " وأما"قسط " ، فمعناه : الجور ، ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ سورة الجن : 15 ] ، يعني بذلك : الجائرين عن الحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية