الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( 65 ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ( 66 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ، حث متبعيك ومصدقيك على ما جئتهم به من الحق ، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين ( إن يكن منكم عشرون ) رجلا ( صابرون ) ، عند لقاء العدو ، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون [ ص: 51 ] لعدوهم ( يغلبوا مائتين ) ، من عدوهم ويقهروهم ( وإن يكن منكم مائة ) ، عند ذلك ( يغلبوا ) ، منهم ( ألفا ) ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، يقول : من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب ، ولا لطلب أجر ولا احتساب؛ لأنهم لم يفقهوا أن الله موجب لمن قاتل احتسابا ، وطلب موعود الله في الميعاد ، ما وعد المجاهدين في سبيله ، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء ، خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم ، ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين ، إذ علم ضعفهم فقال لهم : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، يعني : أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوهم ضعفا ( فإن يكن منكم مائة صابرة ) ، عند لقائهم للثبات لهم ( يغلبوا مائتين ) منهم ( وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) منهم ( بإذن الله ) يعني : بتخلية الله إياهم لغلبتهم ، ومعونته إياهم ( والله مع الصابرين ) ، لعدوهم وعدو الله ، احتسابا في صبره ، وطلبا لجزيل الثواب من ربه ، بالعون منه له ، والنصر عليه .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

16269 - حدثنا محمد بن بشار قال . حدثنا محمد بن محبب قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن عطاء في قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، قال : كان الواحد لعشرة ، ثم جعل الواحد باثنين؛ لا ينبغي له أن يفر منهما .

16270 - حدثنا سعيد بن يحيى قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابن جريج ، [ ص: 52 ] عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : جعل على المسلمين على الرجل عشرة من الكفار ، فقال : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، فخفف ذلك عنهم ، فجعل على الرجل رجلان . قال ابن عباس : فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم! .

16271 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ، ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفا ، فخفف الله عنهم ، فنسخها بالآية الأخرى فقال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، قال : وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم . وإن كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم أن يقاتلوا ، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم .

16272 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، قال : كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفر منهم ، فكانوا كذلك حتى أنزل الله : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) ، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين ، فنسخ الأمر الأول ، وقال مرة أخرى في قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار ، فشق ذلك على المؤمنين ، ورحمهم الله ، فقال : ( إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) ، [ ص: 53 ] فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار .

16273 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ، إلى قوله : ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشبهم يعني : يغريهم بذلك ، ليوطنوا أنفسهم على الغزو ، وأن الله ناصرهم على العدو ، ولم يكن أمرا عزمه الله عليهم ولا أوجبه ، ولكن كان تحريضا ووصية أمر الله بها نبيه ، ثم خفف عنهم فقال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، فجعل على كل رجل رجلين بعد ذلك ، تخفيفا ، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم ، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا ، ولو كان عليهم واجبا كفروا إذن كل رجل من المسلمين [ نكل ] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم ، فلا يغرنك قول رجال ! فإني قد سمعت رجالا يقولون : إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان ، وحتى يكون على كل رجلين أربعة ، ثم بحساب ذلك ، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك ، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدة أن يكون على كل رجل رجلان ، وعلى كل رجلين أربعة ، وقد قال الله : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ) [ سورة البقرة : 207 ] ، وقال الله : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) [ سورة النساء : 84 ] ، فهو التحريض الذي أنزل الله [ ص: 54 ] عليهم في "الأنفال" ، فلا تعجزن ، قاتل ، قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا .

16274 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحصين ، عن زيد ، عن عكرمة والحسن قالا : قال في "سورة الأنفال" ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) ، ثم نسخ فقال : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، إلى قوله : ( والله مع الصابرين ) .

16275 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة ، في قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون ) ، قال : واحد من المسلمين وعشرة من المشركين ، ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفر رجل من رجلين .

16276 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون ) ، إلى قوله : ( وإن يكن منكم مائة ) ، قال : هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار ، فضجوا من ذلك ، فجعل على الرجل قتال رجلين ، تخفيفا من الله .

16277 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، وأبي معبد عن ابن عباس قال : إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة ، والعشرة لمائة إذ المسلمون قليل ، فلما كثر [ ص: 55 ] المسلمون ، خفف الله عنهم ، فأمر الرجل أن يصبر لرجلين ، والعشرة للعشرين ، والمائة للمائتين .

16278 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مائتين أن لا يفروا ، فإنهم إن لم يفروا غلبوا ، ثم خفف الله عنهم وقال : ( إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، فيقول : لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم .

16279 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، جعل الله على كل رجل رجلين ، بعد ما كان على كل رجل عشرة وهذا الحديث عن ابن عباس .

16280 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : كان فرض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين . قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا ) ، فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله التخفيف ، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين ، قوله : ( إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) ، فخفف الله عنهم ، ونقصوا من النصر بقدر ذلك .

16281 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، يقول : يقاتلوا مائتين ، فكانوا أضعف من ذلك ، فنسخها الله عنهم ، فخفف [ ص: 56 ] فقال : ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة ، ثم جعل الرجل لاثنين .

16282 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، قال : كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مائتين أن لا يفروا ، فإنهم إن لم يفروا غلبوا ، ثم خفف الله عنهم فقال : ( إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ) ، فيقول : لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين ، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم .

16283 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان هذا واجبا أن لا يفر واحد من عشرة .

16284 - وبه قال : أخبرنا الثوري ، عن الليث ، عن عطاء ، مثل ذلك .

وأما قوله : ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، فقد بينا تأويله .

وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما : -

16285 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، أي لا يقاتلون على نية ولا حق فيه ، ولا معرفة بخير ولا شر .

قال أبو جعفر : وهذه الآية أعني قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) ، وإن كان مخرجها مخرج الخبر ، فإن معناها الأمر . يدل على [ ص: 57 ] ذلك قوله : ( الآن خفف الله عنكم ) ، فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل . ولو كان ثبوت العشرة منهم للمائة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف ، وكان ندبا ، لم يكن للتخفيف وجه؛ لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدو . وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدما ، لم يكن للترخيص وجه ، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن حكم قوله : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، ناسخ لحكم قوله : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) . وقد بينا في كتابنا "البيان عن أصول الأحكام" ، أن كل خبر من الله وعد فيه عباده على عمل ثوابا وجزاء ، وعلى تركه عقابا وعذابا ، وإن لم يكن خارجا ظاهره مخرج الأمر ، ففي معنى الأمر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : ( وعلم أن فيكم ضعفا ) .

فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين : ( وعلم أن فيكم ضعفا ) ، بضم "الضاد" في جميع القرآن ، وتنوين "الضعف" على المصدر من : "ضعف الرجل ضعفا" .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين : ( وعلم أن فيكم ضعفا ) ، بفتح "الضاد" ، على المصدر أيضا من "ضعف" .

وقرأه بعض المدنيين : ( ضعفاء ) ، على تقدير "فعلاء" ، جمع "ضعيف" على "ضعفاء" ، كما يجمع "الشريك" ، "شركاء" ، و"الرحيم" ، "رحماء" .

قال أبو جعفر : وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه : ( وعلم أن فيكم ضعفا ) ، [ ص: 58 ] و ( ضعفا ) ، بفتح الضاد أو ضمها ، لأنهما القراءتان المعروفتان ، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصواب .

فأما قراءة من قرأ ذلك : "ضعفاء" ، فإنها عن قراءة القرأة شاذة ، وإن كان لها في الصحة مخرج ، فلا أحب لقارئ القراءة بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية