الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره : ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( 13 ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( 14 ) )

قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم ، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، وفراق عبادة الآلهة والأوثان [ ص: 540 ] ( لنخرجنكم من أرضنا ) ، يعنون : من بلادنا فنطردكم عنها ( أو لتعودن في ملتنا ) ، يعنون : إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام .

وأدخلت في قوله : ( لتعودن ) "لام" وهو في معنى شرط ، كأنه جواب لليمين ، وإنما معنى الكلام : لنخرجنكم من أرضنا ، أو تعودون في ملتنا .

ومعنى "أو" ههنا معنى "إلا" أو معنى "حتى" كما يقال في الكلام : "لأضربنك أو تقر لي" فمن العرب من يجعل ما بعد "أو" في مثل هذا الموضع عطفا على ما قبله ، إن كان ما قبله جزما جزموه ، وإن كان نصبا نصبوه ، وإن كان فيه "لام" جعلوا فيه "لاما" إذ كانت "أو" حرف نسق . ومنهم من ينصب ما بعد "أو" بكل حال ، ليعلم بنصبه أنه عن الأول منقطع عما قبله ، كما قال امرؤ القيس :


بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا     فقلت له : لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

فنصب "نموت فنعذرا" وقد رفع "نحاول" لأنه أراد معنى : إلا أن نموت ، أو : حتى نموت .

ومنه قول الآخر :


لا أستطيع نزوعا عن مودتها     أو يصنع الحب بي غير الذي صنعا

[ ص: 541 ]

وقوله : ( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) ، الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم . وقد يجوز أن يكون قيل لهم : "الظالمون" لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة ، فيكون بوضعهم العبادة في غير موضعها ، إذ كان ظلما ، سموا بذلك .

وقوله : ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ، هذا وعد من الله من وعد من أنبيائه النصر على الكفرة به من قومه . يقول : لما تمادت أمم الرسل في الكفر ، وتوعدوا رسلهم بالوقوع بهم ، أوحى الله إليهم بإهلاك من كفر بهم من أممهم ووعدهم النصر . وكل ذلك كان من الله وعيدا وتهددا لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على كفرهم به ، وجرأتهم على نبيه ، وتثبيتا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرا له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه ، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من رسله ، ومعرفه أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك ، وعاقبته النصر عليهم ، سنة الله في الذين خلوا من قبل .

20611 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) ، قال : وعدهم النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة .



وقوله : ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) ، يقول جل ثناؤه : [ ص: 542 ] هكذا فعلي لمن خاف مقامه بين يدي ، وخاف وعيدي فاتقاني بطاعته ، وتجنب سخطي ، أنصره على ما أراد به سوءا وبغاه مكروها من أعدائي ، أهلك عدوه وأخزيه ، وأورثه أرضه ودياره .

وقال : ( لمن خاف مقامي ) ، ومعناه ما قلت من أنه لمن خاف مقامه بين يدي بحيث أقيمه هنالك للحساب ، كما قال : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) [ سورة الواقعة : 82 ] ، معناه : وتجعلون رزقي إياكم أنكم تكذبون . وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : "قد سررت برؤيتك ، وبرؤيتي إياك" فكذلك ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية