القول في تأويل قوله تعالى : (
nindex.php?page=treesubj&link=28987_29485_16839_32414nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم [ ص: 237 ] مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ( 66 ) )
يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونه .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( نسقيكم ) فقرأته عامة أهل
مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ; ومن أهل
المدينة أبو جعفر ( نسقيكم ) بضم النون . بمعنى : أنه أسقاهم شرابا دائما . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نهرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شربا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناهم فنحن نسقيهم بغير ألف ; وقرأ ذلك عامة قراء أهل
المدينة سوى
أبي جعفر ، ومن أهل
العراق عاصم (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نسقيكم ) بفتح النون من سقاه الله ، فهو يسقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائما ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال
الكسائي ، يدل على ما قلنا من ذلك ، قول
لبيد في صفة سحاب :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إلي قراءة ضم النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يسقي ، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم . وأما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويي
الكوفة يقول : النعم والأنعام شيء واحد ، لأنهما جميعا جمعان ، فرد الكلام في
[ ص: 238 ] قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) إلى التذكير مرادا به معنى النعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب :
إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخراة والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
ويقول : رجع بقوله "فبرد" إلى معنى اللبن ، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد ، وفي تذكير النعم قول الآخر :
أكل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه
[ ص: 239 ] فذكر النعم ; وكان غيره منهم يقول : إنما قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا وينشد في ذلك رجزا لبعضهم :
مثل الفراخ نتفت حواصله
وقول
الأسود بن يعفر :
إن المنية والحتوف كلاهما يوفي المخارم يرقبان سوادي
فقال : كلاهما ، ولم يقل : كلتاهما ; وقول
الصلتان العبدي :
إن السماحة والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
وقول الآخر :
وعفراء أدنى الناس مني مودة وعفراء عني المعرض المتواني
ولم يقل : المعرضة المتوانية ; وقول الآخر :
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة وإذ أم عمار صديق مساعف
[ ص: 240 ] ويقول : كل ذلك على معنى : هذا الشيء وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك ، ويقول : من ذلك قول الله تعالى ذكره (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) بمعنى : هذا الشيء الطالع . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=11كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ) ولم يقل ذكرها ، لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=35وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان ) ولم يقل جاءت . وكان بعض البصريين يقول : قيل (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) لأن المعنى : نسقيكم من أي الأنعام كان في بطونه ، ويقول : فيه اللبن مضمر ، يعني أنه يسقي من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يسقى من ذوات اللبن . والقولان الأولان أصح مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين فرث ودم لبنا خالصا ) يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا : يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66سائغا للشاربين ) يقول : يسوغ لمن شربه فلا يغص به كما يغص الغاص ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=treesubj&link=28987_29485_16839_32414nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ [ ص: 237 ] مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ( 66 ) )
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : وَإِنَّ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَعِظَةً فِي الْأَنْعَامِ الَّتِي نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ .
وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ( نُسْقِيكُمْ ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ أَهْلِ
مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ ، سِوَى عَاصِمٍ ; وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ أَبُو جَعْفَرٍ ( نُسْقِيكُمْ ) بِضَمِّ النُّونِ . بِمَعْنَى : أَنَّهُ أَسْقَاهُمْ شَرَابًا دَائِمًا . وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ : الْعَرَبُ تَقُولُ : أَسْقَيْنَاهُمْ نَهْرًا ، وَأَسْقَيْنَاهُمْ لَبَنًا : إِذَا جَعَلَتْهُ شِرْبًا دَائِمًا ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ شَرْبَةً قَالُوا : سَقَيْنَاهُمْ فَنَحْنُ نَسْقِيهُمْ بِغَيْرِ أَلْفٍ ; وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ سِوَى
أَبِي جَعْفَرٍ ، وَمِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ عَاصِمٌ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نَسْقِيكُمْ ) بِفَتْحِ النُّونِ مَنْ سَقَاهُ اللَّهُ ، فَهُوَ يَسْقِيهِ ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُدْخِلُ الْأَلْفَ فِيمَا كَانَ مِنَ السَّقْيِ غَيْرَ دَائِمٍ ، وَتَنْزِعُهَا فِيمَا كَانَ دَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ أَشْهَرُ الْكَلَامَيْنِ عِنْدَهَا مَا قَالَ
الْكِسَائِيُّ ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ ، قَوْلُ
لَبِيَدٍ فِي صِفَةِ سَحَابٍ :
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
فَجَمَعَ اللُّغَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَبِأَيَّةِ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ ، غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ قِرَاءَةُ ضَمِّ النُّونِ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْكَلَامَيْنِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِيمَا كَانَ دَائِمًا مِنَ السَّقْيِ أَسْقَى بِالْأَلْفِ فَهُوَ يُسْقِي ، وَمَا أَسْقَى اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ بُطُونِ الْأَنْعَامِ فَدَائِمٌ لَهُمْ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) وَقَدْ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهِيَ جَمْعٌ وَالْهَاءُ فِي الْبُطُونِ مُوَحَّدَةٌ ، فَإِنَّ لِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ
الْكُوفَةِ يَقُولُ : النَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا جَمْعَانِ ، فَرَدَّ الْكَلَامَ فِي
[ ص: 238 ] قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إِلَى التَّذْكِيرِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَى النَّعَمِ ، إِذْ كَانَ يُؤَدِّي عَنِ الْأَنْعَامِ ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِرَجَزِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ :
إِذَا رَأَيْتَ أَنْجُمًا مِنَ الْأَسَدْ جَبْهَتَهُ أَوِ الْخَرَاةَ وَالْكَتَدْ
بَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَضِيخِ فَفَسَدْ وَطَابَ أَلْبَانُ اللِّقَاحِ فَبَرَدْ
وَيَقُولُ : رَجَعَ بِقَوْلِهِ "فَبَرَدْ" إِلَى مَعْنَى اللَّبَنِ ، لِأَنَّ اللَّبَنَ وَالْأَلْبَانَ تَكُونُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ ، وَفِي تَذْكِيرِ النَّعَمِ قَوْلُ الْآخَرِ :
أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتُنْتِجُونَهُ
[ ص: 239 ] فَذِكْرُ النَّعَمِ ; وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ يَقُولُ : إِنَّمَا قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لِأَنَّهُ أَرَادَ : مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا وَيُنْشَدُ فِي ذَلِكَ رَجَزًا لِبَعْضِهِمْ :
مِثْلُ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ
وَقَوْلُ
الْأَسْوَدِ بْنُ يَعْفُرَ :
إِنَّ الْمَنِيَّةَ وَالْحُتُوفَ كِلَاهُمَا يُوفِي الْمَخَارِمَ يَرْقُبَانِ سَوَادِي
فَقَالَ : كِلَاهُمَا ، وَلَمْ يَقُلْ : كِلْتَاهُمَا ; وَقَوْلُ
الصَّلَتَانِ الْعَبْدِيِّ :
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ ضُمِّنَا قَبْرًا بِمَرْوٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ :
وَعَفْرَاءُ أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي مَوَدَّةً وَعَفْرَاءُ عَنِّي الْمُعْرِضُ الْمُتَوَانِي
وَلَمْ يَقِلْ : الْمُعْرِضَةُ الْمُتَوَانِيَةُ ; وَقَوْلُ الْآخَرِ :
إِذَا النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغَبْطَةٍ وَإِذْ أُمُّ عَمَّارٍ صَدِيقٌ مُسَاعِفُ
[ ص: 240 ] وَيَقُولُ : كُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى : هَذَا الشَّيْءُ وَهَذَا الشَّخْصُ وَالسَّوَادُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ : مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ) بِمَعْنَى : هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=11كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) وَلَمْ يَقُلْ ذَكَرَهَا ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ : فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=35وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ) وَلَمْ يَقُلْ جَاءَتْ . وَكَانَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ : قِيلَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لِأَنَّ الْمَعْنَى : نُسْقِيكُمْ مِنْ أَيِّ الْأَنْعَامِ كَانَ فِي بُطُونِهِ ، وَيَقُولُ : فِيهِ اللَّبَنُ مُضْمَرٌ ، يَعْنِي أَنَّهُ يُسْقِي مِنْ أَيِّهَا كَانَ ذَا لَبَنٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّهَا لَبَنٌ ، وَإِنَّمَا يُسْقَى مِنْ ذَوَاتِ اللَّبَنِ . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ أَصَحُّ مَخْرَجًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا ) يَقُولُ : نُسْقِيكُمْ لَبَنًا ، نُخْرِجُهُ لَكُمْ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ خَالِصًا : يَقُولُ : خَلَصَ مِنْ مُخَالَطَةِ الدَّمِ وَالْفَرْثِ ، فَلَمْ يَخْتَلِطَا بِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ) يَقُولُ : يَسُوغُ لِمَنْ شَرِبَهُ فَلَا يُغَصُّ بِهِ كَمَا يُغَصُّ الْغَاصُّ بِبَعْضِ مَا يَأْكُلُهُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ لَمْ يُغَصَّ أَحَدٌ بِاللَّبَنِ قَطُّ .