الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ( 76 ) )

وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تعبد من دونه ، فقال تعالى ذكره ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا ، ولا ينطق ، لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضر عنه وهو كل على مولاه ، يقول : وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته ، فكذلك الصنم كل على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ، ويضعه ويخدمه ، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ، فهو كل على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم ( أينما يوجهه لا يأت بخير ) يقول : حيثما يوجهه لا يأت بخير ، لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد ، فهو لا يفهم ، ولا يفهم عنه ، فكذلك الصنم ، لا يعقل ما يقال له ، فيأتمر لأمر من أمره ، ولا ينطق فيأمر وينهى ، يقول الله تعالى ( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) يعني : هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحق ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار ، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ، يقول : لا يستوي هو تعالى ذكره ، والصنم الذي صفته ما وصف . وقوله : ( وهو على صراط مستقيم ) يقول : وهو مع أمره بالعدل ، على طريق من الحق في دعائه إلى العدل ، وأمره به ( مستقيم ) ، لا يعوج عن الحق ولا يزول عنه .

[ ص: 263 ] وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( لا يقدر على شيء ) قال : هو الوثن ( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) قال : الله يأمر بالعدل ( وهو على صراط مستقيم ) وكذلك كان مجاهد يقول إلا أنه كان يقول : المثل الأول أيضا ضربه الله لنفسه وللوثن .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره ( عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) و ( رجلين أحدهما أبكم ) ( ومن يأمر بالعدل ) قال : كل هذا مثل إله الحق ، وما يدعى من دونه من الباطل .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم ) قال : إنما هذا مثل ضربه الله .

وقال آخرون : بل كلا المثلين للمؤمن والكافر . وذلك قول يروى عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأول في موضعه .

وأما في المثل الآخر :

فحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ) . . . إلى آخر الآية ، يعني بالأبكم : الذي هو كل على مولاه الكافر ، وبقوله ( ومن يأمر بالعدل ) المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال .

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : ثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يعلى بن أمية ، عن ابن عباس ، في قوله ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا ) [ ص: 264 ] قال : نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله ( مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ) . . . إلى قوله ( وهو على صراط مستقيم ) قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يوجه لا يأت بخير ، ذاك مولى عثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأول لأنه تعالى ذكره مثل مثل الكافر بالعبد الذي وصف صفته ، ومثل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقا حسنا ، فهو ينفق مما رزقه سرا وجهرا ، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلا إذ كان الله إنما مثل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرا ; ومثل المؤمن الذي وفقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله ، كالحر الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرا وجهرا ، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق ، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن ، وأما المثل الثاني ، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره من مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء والكفار لا شك أن منهم من له الأموال الكثيرة ، ومن يضر أحيانا الضر العظيم بفساده ، فغير كائن ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره مثلا لمن يقدر على أشياء كثيرة . فإذا كان ذلك كذلك كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء ، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء ، بالأبكم الكل على مولاه الذي لا يقدر على شيء كما قال ووصف .

التالي السابق


الخدمات العلمية