الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ( 105 ) فيذرها قاعا صفصفا ( 106 ) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ( 107 ) ) [ ص: 371 ] يقول تعالى ذكره : ويسألك يا محمد قومك عن الجبال ، فقل لهم : يذريها ربي تذرية ، ويطيرها بقلعها واستئصالها من أصولها ، ودك بعضها على بعض ، وتصييره إياها هباء منبثا

( فيذرها قاعا صفصفا ) يقول تعالى ذكره : فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها نسفا قاعا ، يعني : أرضا ملساء ، صفصفا : يعني مستويا لا نبات فيه ، ولا نشز ، ولا ارتفاع .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( قاعا صفصفا ) يقول : مستويا لا نبات فيه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( فيذرها قاعا صفصفا ) قال : مستويا ، الصفصف : المستوي .

حدثني يونس قال : أخبرنا عبد الله بن يوسف قال : ثنا عبد الله بن لهيعة قال : ثنا أبو الأسود عن عروة قال : كنا قعودا عند عبد الملك حين قال كعب : إن الصخرة موضع قدم الرحمن يوم القيامة ، فقال : كذب كعب ، إنما الصخرة جبل من الجبال ، إن الله يقول ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ) فسكت عبد الملك .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( صفصفا ) قال : مستويا .

حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر : وكان بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل الكوفة يقول : القاع : مستنقع الماء ، والصفصف : الذي لا نبات فيه .

وقوله ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) يقول : لا ترى في الأرض عوجا ولا أمتا .

واختلف أهل التأويل في معنى العوج والأمت ، فقال بعضهم عنى [ ص: 372 ] بالعوج في هذا الموضع الأودية ، وبالأمت الروابي والنشوز .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) يقول : واديا ، ولا أمتا : يقول : رابية .

حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال : ثنا أبو عامر العقدي عن عبد الواحد بن صفوان مولى عثمان قال : سمعت عكرمة قال : سئل ابن عباس عن قوله ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) قال : هي الأرض البيضاء ، أو قال : الملساء التي ليس فيها لبنة مرتفعة .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) قال : ارتفاعا ، ولا انخفاضا .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) قال : لا تعادي ، الأمت : التعادي .

وقال آخرون : بل عنى بالعوج في هذا الموضع الصدوع ، وبالأمت الارتفاع من الآكام وأشباهها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : ( لا ترى فيها عوجا ) قال : صدعا ( ولا أمتا ) يقول : ولا أكمة .

وقال آخرون : عنى بالعوج الميل ، وبالأمت الأثر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( لا ترى فيها عوجا ) يقول : لا ترى فيها ميلا ، والأمت : الأثر مثل الشراك .

وقال آخرون : الأمت : المحاني والأحداب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قال : الأمت : الحدب .

[ ص: 373 ] قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالعوج الميل ، وذلك أن ذلك هو المعروف في كلام العرب .

فإن قال قائل : وهل في الأرض اليوم من عوج ، فيقال : لا ترى فيها يومئذ عوجا ، قيل : إن معنى ذلك : ليس فيها أودية وموانع تمنع الناظر أو السائر فيها عن الأخذ على الاستقامة ، كما يحتاج اليوم من أخذ في بعض سبلها إلى الأخذ أحيانا يمينا ، وأحيانا شمالا لما فيها من الجبال والأودية والبحار . وأما الأمت فإنه عند العرب الانثناء والضعف ، مسموع منهم ، مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا ، أي انثناء ، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا ، ومنه قول الراجز :


ما في انجذاب سيره من أمت



يعني : من وهن وضعف ، فالواجب إذا كان ذلك معنى الأمت عندهم أن يكون أصوب الأقوال في تأويله : ولا ارتفاع ولا انخفاض ، لأن الانخفاض لم يكن إلا عن ارتفاع ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : لا ترى فيها ميلا عن الاستواء ، ولا ارتفاعا ، ولا انخفاضا ، ولكنها مستوية ملساء ، كما قال جل ثناؤه : ( قاعا صفصفا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية