الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( 81 ) وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( 82 ) )

اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : ( وما أنت بهادي ) بالياء والألف وإضافته إلى العمي بمعنى : لست يا محمد بهادي من عمي عن الحق ( عن ضلالتهم ) . وقراءة عامة قراء الكوفة " وما أنت تهدي العمي " بالتاء ونصب العمي ، بمعنى : ولست تهديهم ( عن ضلالتهم ) ولكن الله يهديهم إن شاء .

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وتأويل الكلام ما وصفت ( وما أنت ) يا محمد ( بهادي ) من أعماه الله عن الهدى والرشاد فجعل على بصره غشاوة أن يتبين سبيل الرشاد عن ضلالته التي هو فيها إلى طريق الرشاد وسبيل الرشاد . وقوله : ( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ) [ ص: 496 ] يقول : ما تقدر أن تفهم الحق وتوعيه أحدا إلا سمع من يصدق بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه وآي تنزيله ( فهم مسلمون ) فإن أولئك يسمعون منك ما تقول ويتدبرونه ، ويفكرون فيه ، ويعملون به ، فهم الذين يسمعون .

ذكر من قال مثل الذي قلنا في قوله تعالى : ( وقع )

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وإذا وقع القول عليهم ) قال : حق عليهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وإذا وقع القول عليهم ) يقول : إذا وجب القول عليهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وقع القول عليهم ) قال : حق العذاب .

قال ابن جريج : القول : العذاب .

ذكر من قال قولنا في معنى القول :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : ( وإذا وقع القول عليهم ) والقول : الغضب .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن هشام ، عن حفصة ، قالت : سألت أبا العالية ، عن قوله : ( وإذا وقع القول عليهم ) فقال : أوحى الله إلى نوح ( أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) قالت : فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف .

وقال جماعة من أهل العلم : خروج هذه الدابة التي ذكرها حين لا يأمر الناس بمعروف ولا ينهون عن منكر .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض ) قال : هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا محمد بن الحسن أبو الحسن ، قال : ثنا عمرو [ ص: 497 ] بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض ) قال : ذاك إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) قال : حين لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر .

حدثني محمد بن عمرو المقدسي ، قال : ثنا أشعث بن عبد الله السجستاني ، قال : ثنا شعبة ، عن عطية ، في قوله : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) قال : إذا لم يعرفوا معروفا ، ولم ينكروا منكرا .

وذكر أن الأرض التي تخرج منها الدابة مكة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثني الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا ، كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن الفرات القزاز ، عن عامر بن واثلة أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : إن الدابة حين تخرج يراها بعض الناس فيقولون : والله لقد رأينا الدابة ، حتى يبلغ ذلك الإمام ، فيطلب فلا يقدر على شيء . قال : ثم تخرج فيراها الناس ، فيقولون : والله لقد رأيناها ، فيبلغ ذلك الإمام فيطلب فلا يرى شيئا ، فيقول : أما إني إذا حدث الذي يذكرها قال : حتى يعد فيها القتل ، قال : فتخرج ، فإذا رآها الناس دخلوا المسجد يصلون ، فتجيء إليهم فتقول : الآن تصلون ، فتخطم الكافر ، وتمسح على جبين المسلم غرة ، قال : فيعيش الناس زمانا يقول هذا : يا مؤمن ، وهذا : يا كافر .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عثمان بن مطر ، عن واصل مولى أبي عيينة ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة ، وأبي سفيان ، ثنا عن معمر ، عن قيس بن سعد ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد ، في قوله : ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) قال : للدابة ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي ثم تكمن ، وخرجة في بعض القرى حين يهريق فيها الأمراء الدماء ، ثم تكمن ، فبينا الناس عند أشرف المساجد وأعظمها وأفضلها ، إذ ارتفعت بهم الأرض ، فانطلق الناس هرابا ، وتبقى طائفة من [ ص: 498 ] المؤمنين ، ويقولون : إنه لا ينجينا من الله شيء ، فتخرج عليهم الدابة تجلو وجوههم مثل الكوكب الدري ، ثم تنطلق فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، وتأتي الرجل يصلي ، فتقول : والله ما كنت من أهل الصلاة ، فيلتفت إليها فتخطمه ، قال : تجلو وجه المؤمن ، وتخطم الكافر ، قلنا : فما الناس يومئذ ؟ قال : جيران في الرباع ، وشركاء في الأموال ، وأصحاب في الأسفار .

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن ابن عمر : يبيت الناس يسيرون إلى جمع ، وتبيت دابة الأرض تسايرهم ، فيصبحون وقد خطمتهم من رأسها وذنبها ، فما من مؤمن إلا مسحته ، ولا من كافر ولا منافق إلا تخبطه .

حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا الخيبري ، عن حيان بن عمير ، عن حسان بن حمصة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : لو شئت لانتعلت بنعلي هاتين ، فلم أمس الأرض قاعدا حتى أقف على الأحجار التي تخرج الدابة من بينها ، ولكأني بها قد خرجت في عقب ركب من الحاج ، قال : فما حججت قط إلا خفت تخرج بعقبنا .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو ، وكان منزله قريبا من الصفا ، رفع قدمه وهو قائم ، وقال : لو شئت لم أضعها حتى أضعها على المكان الذي تخرج منه الدابة .

حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وذكر الدابة ، فقال حذيفة : قلت يا رسول الله ، من أين تخرج ؟ قال : " من أعظم المساجد حرمة على الله ، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم ، تحرك القنديل ، وينشق الصفا مما يلي المسعى ، وتخرج الدابة من الصفا ، أول ما يبدو رأسها ، ملمعة ذات وبر وريش ، لم يدركها طالب ، ولن يفوتها هارب ، تسم الناس مؤمن وكافر ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء كافر " . [ ص: 499 ]

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو الحسين ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تخرج الدابة معها خاتم سليمان وعصا موسى ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتختم أنف الكافر بالخاتم ، حتى إن أهل البيت ليجتمعون فيقول هذا . يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر " .

قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : هي دابة ذات زغب وريش ، ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة ، قال : قال عبد الله بن عمر : إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء ، فتفشو في وجهه ، فيسود وجهه ، وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجهه ، حتى يبيض وجهه ، فيجلس أهل البيت على المائدة ، فيعرفون المؤمن من الكافر ، ويتبايعون في الأسواق ، فيعرفون المؤمن من الكافر .

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : ثنا ابن أبي مريم ، قال : ثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب ، قالا : ثنا ابن الهاد ، عن عمر بن الحكم ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : تخرج الدابة من شعب ، فيمس رأسها السحاب ، ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمر بالإنسان يصلي ، فتقول : ما الصلاة من حاجتك فتخطمه .

حدثنا صالح بن مسمار ، قال : ثنا ابن أبي فديك ، قال : ثنا يزيد بن عياض ، عن محمد بن إسحاق ، أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخرج دابة الأرض ومعها خاتم سليمان وعصا موسى ، فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان ، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( تكلمهم ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار : ( تكلمهم ) بضم التاء وتشديد اللام ، بمعنى تخبرهم وتحدثهم ، وقرأه أبو زرعة بن عمرو : " تكلمهم " بفتح التاء وتخفيف اللام بمعنى : تسمهم .

والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) قال : تحدثهم . [ ص: 500 ]

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) وهي في بعض القراءة " تحدثهم " تقول لهم : ( أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : ( تكلمهم ) قال : كلامها تنبئهم ( أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) .

وقوله : ( أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة والشام : " إن الناس " بكسر الألف من " إن " على وجه الابتداء بالخبر عن الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون ; وهي وإن كسرت في قراءة هؤلاء فإن الكلام لها متناول . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض أهل البصرة : ( أن الناس كانوا ) بفتح أن بمعنى : تكلمهم بأن الناس ، فيكون حينئذ نصب بوقوع الكلام عليها .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية