الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( 17 ) )

يقول - تعالى ذكره - : فلا تعلم نفس ذي نفس ما أخفى الله لهؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هاتين الآيتين ، مما تقر به أعينهم في جنانه يوم القيامة ( جزاء بما كانوا يعملون ) يقول : ثوابا لهم على أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال : ثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، [ ص: 183 ] عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : إن في التوراة مكتوبا : لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولم تسمع أذن ، وما لم يسمعه ملك مقرب . قال : ونحن نقرؤها : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) .

حدثنا خلاد قال : أخبرنا النضر بن شميل قال : أخبرنا إسرائيل قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن عبيدة بن ربيعة ، عن ابن مسعود قال : مكتوب في التوراة على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، في القرآن ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : خبأ لهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال سفيان : فيما علمت على غير وجه الشك .

حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت أبا عبيدة قال : قال عبد الله قال : - يعني - الله : " أعددت لعبادي الصالحين ما لم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب ناظر ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون ) " .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن صلت ، عن قيس بن الربيع ، عن أبي إسحاق ، عن عبيدة بن ربيعة الحارثي ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن في التوراة للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع من الكرامة ، ما لم تر عين ، ولم يخطر على قلب بشر ، ولم تسمع أذن ، وإنه لفي القرآن ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا الأشجعي ، عن ابن أبجر قال : سمعت الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر : إن موسى - صلى الله عليه وسلم - سأل [ ص: 184 ] عن أبخس أهل الجنة فيها حظا ، فقيل له : رجل يؤتى به وقد دخل أهل الجنة الجنة ، قال : فيقال له : ادخل ، فيقول : أين وقد أخذ الناس أخذاتهم ؟ فيقال : اعدد أربعة ملوك من ملوك الدنيا ، فيكون لك مثل الذي كان لهم ، ولك أخرى شهوة نفسك ، فيقول : أشتهي كذا وكذا ، وأشتهي كذا ، وقال : لك أخرى ، لك لذة عينك ، فيقول : ألذ كذا وكذا ، فيقال : لك عشرة أضعاف مثل ذلك ، وسأله عن أعظم أهل الجنة فيها حظا ، فقال : ذاك شيء ختمت عليه يوم خلقت السموات والأرض . قال الشعبي : فإنه في القرآن : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) .

حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال : ثنا الحميدي قال : ثنا ابن عيينة ، وحدثني به القرقساني ، عن ابن عيينة ، عن مطرف بن طريف ، وابن أبجر ، سمعنا الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة على المنبر يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن موسى سأل ربه : أي رب ، أي أهل الجنة أدنى منزلة ؟ قال : رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل . فيقول : كيف أدخل وقد نزلوا منازلهم ؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : بخ أي رب قد رضيت ، فيقال له : إن لك هذا ومثله ومثله ومثله ، فيقول : رضيت أي رب رضيت ، فيقال له : إن لك هذا وعشرة أمثاله معه ، فيقول : رضيت أي رب ، فيقال له : فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك ، ولذت عينك ، قال : فقال موسى : أي رب ، وأي أهل الجنة أرفع منزلة ، قال : إياها أردت ، وسأحدثك عنهم ، غرست لهم كرامتي بيدي ، وختمت عليها ، فلا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . قال : ومصداق ذلك في كتاب الله ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) .

حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال : ثنا إسحاق بن سليمان قال : ثنا عمرو بن أبي قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وكان عرشه على الماء ) وكان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنة ، ثم اتخذ دونها أخرى ، ثم أطبقها بلؤلؤة واحدة ، قال : ( ومن دونهما جنتان ) قال : وهي التي لا تعلم نفس ، أو قال : هما التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء [ ص: 185 ] بما كانوا يعملون . قال : وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو ما فيهما يأتيهم كل يوم منها أو منهما تحفة .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .

حدثنا سهل بن موسى الرازي قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو ، عن أبي اليمان الهوزني أو غيره ، قال : الجنة مئة درجة ، أولها درجة فضة ، أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها المسك . والثانية ذهب ، وأرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها المسك . والثالثة لؤلؤ ، وأرضها لؤلؤ ، ومساكنها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها المسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأته ، ولا أذن سمعته ، ولا خطر على قلب بشر ، وتلا هذه الآية ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا المحاربي وعبد الرحيم ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، واقرءوا إن شئتم ، قال الله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) " .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو معاوية وابن نمير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " قال أبو هريرة : ومن بله ما أطلعكم عليه ، اقرءوا إن شئتم : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) قال أبو هريرة : نقرؤها : ( قرات أعين ) .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن الغطريف ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن الروح الأمين ، قال : " يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ، فينقص بعضها من بعض ، فإن بقيت حسنة واحدة ، وسع الله له في الجنة " ، قال : فدخلت على يزداد ، فحدث بمثل هذا ؛ قال : قلت : فأين ذهبت الحسنة ؟ قال : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) ، [ ص: 186 ] قلت : قوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) قال : العبد يعمل سرا أسره إلى الله لم يعلم به الناس ، فأسر الله له يوم القيامة قرة عين .

حدثني العباس بن أبي طالب قال : ثنا معلى بن أسد قال : ثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يروي عن ربه ، قال : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .

حدثني أبو السائب قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني أبو صخر ، أن أبا حازم حدثه ، قال : سمعت سهل بن سعد يقول : شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه : " فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ثم قرأ هذه الآية ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) إلى قوله : ( جزاء بما كانوا يعملون ) .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال ربكم : أعددت لعبادي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يروي ذلك عن ربه ، " قال ربكم : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .

حدثني ابن وكيع قال : ثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) قال : أخفوا عملا في الدنيا ، فأثابهم الله بأعمالهم .

حدثني القاسم بن بشر قال : ثنا سليمان بن حرب قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : حماد : أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من يدخل الجنة ينعم ولا يبؤس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) فقرأ ذلك بعض المدنيين والبصريين ، وبعض الكوفيين : ( أخفي ) بضم الألف وفتح الياء [ ص: 187 ] بمعنى فعل . وقرأ بعض الكوفيين : ( أخفي لهم ) بضم الألف وإرسال الياء ، بمعنى أفعل ، أخفي لهم أنا .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ، متقاربتا المعنى ، لأن الله إذا أخفاه فهو مخفي ، وإذا أخفي فليس له مخف غيره ، و " ما " في قوله : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ) فإنها إذا جعلت بمعنى الذي كانت نصبا بوقوع " تعلم " عليها كيف قرأ القارئ " أخفي " ، وإذا وجهت إلى معنى أي كانت رفعا إذا قرئ أخفي بنصب الياء وضم الألف ، لأنه لم يسم فاعله ، وإذا قرئ " أخفي " بإرسال الياء كانت نصبا بوقوع أخفي عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية