القول في
nindex.php?page=treesubj&link=29015_30397_30413تأويل قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54كذلك وزوجناهم بحور عين ( 54 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ( 55 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ( 56 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=57فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم ( 57 ) )
يقول - تعالى ذكره - : كما أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة بإدخالنا لهم
[ ص: 52 ] الجنات ، وإلباسنا لهم فيها السندس والإستبرق ، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضا فيها حورا من النساء ، وهن النقيات البياض ، واحدتهن : حوراء .
وكان
مجاهد يقول في معنى الحور ما حدثني به
محمد بن عمرو قال : ثنا
أبو عاصم قال : ثنا
عيسى ، وحدثني
الحارث قال : ثنا
الحسن قال : ثنا
ورقاء جميعا ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54وزوجناهم بحور عين ) قال : أنكحناهم حورا . قال : والحور : اللاتي يحار فيهن الطرف ، باد مخ سوقهن من وراء ثيابهن ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد ، وصفاء اللون . وهذا الذي قاله
مجاهد من أن الحور إنما معناها : أنه يحار فيها الطرف قول لا معنى له في كلام العرب ؛ لأن الحور إنما هو جمع حوراء ، كالحمر جمع حمراء ، والسود : جمع سوداء ، والحوراء إنما هي فعلاء من الحور وهو نقاء البياض ، كما قيل للنقي البياض من الطعام الحواري . وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54كذلك وزوجناهم بحور عين ) قال : بيضاء عيناء ، قال : وفي قراءة
ابن مسعود ( بعيس عين ) .
حدثنا
ابن عبد الأعلى قال : ثنا
ابن ثور ، عن
معمر ، عن
قتادة في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54بحور عين ) قال : بيض عين ، قال : وفي حرف
ابن مسعود ( بعيس عين ) . وقرأ
ابن مسعود هذه ، يعني أن معنى الحور غير الذي ذهب إليه
مجاهد ، لأن العيس عند العرب جمع عيساء ، وهي البيضاء من الإبل ، كما قال
الأعشى :
ومهمه نازح تعوي الذئاب به كلفت أعيس تحت الرحل نعابا
[ ص: 53 ]
يعني بالأعيس : جملا أبيض . فأما العين فإنها جمع عيناء ، وهي العظيمة العينين من النساء .
وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يدعون فيها ) . . . الآية ، يقول : يدعو هؤلاء المتقون في الجنة بكل نوع من فواكه الجنة اشتهوه ، آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم ونفاده وفنائه ، ومن غائلة أذاه ومكروهه ، يقول : ليست تلك الفاكهة هنالك كفاكهة الدنيا التي نأكلها ، وهم يخافون مكروه عاقبتها ، وغب أذاها مع نفادها من عندهم ، وعدمها في بعض الأزمنة والأوقات .
وكان
قتادة يوجه تأويل قوله : ( آمنين ) إلى ما حدثنا به
بشر قال : ثنا
يزيد قال : ثنا
سعيد ، عن
قتادة (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يدعون فيها بكل فاكهة آمنين ) أمنوا من الموت والأوصاب والشيطان .
وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) يقول - تعالى ذكره - : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا .
وكان بعض أهل العربية يوجه " إلا" في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله - تعالى ذكره - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ؛ لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره .
وإذ كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت
[ ص: 54 ] بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56إلا الموتة الأولى ) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ؛ لأن الله - عز وجل - قد آمن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع " إلا" في موضع " بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو .
وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو ، فبعد ، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ؛ لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب ، فقال في ذلك
أبو ذؤيب :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظن موضع العلم الذي لم يدرك من قبل العيان ، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا ، كما قال الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
[ ص: 55 ]
بمعنى : أيقنوا بألفي مدجج واعلموا ، فوضع الظن موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإنما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه .
فكذلك قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وضعت " إلا" في موضع " بعد" لما نصف من تقارب معنى" إلا" ، و" بعد" في هذا الموضع ، وكذلك (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت " إلا" في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشد التباسا على من أراد علم معناها منها .
وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ) يقول - تعالى ذكره - : ووقى هؤلاء المتقين ربهم يومئذ عذاب النار تفضلا يا
محمد من ربك عليهم ، وإحسانا منه عليهم بذلك ، ولم يعاقبهم بجرم سلف منهم في الدنيا ، ولولا تفضله عليهم بصفحه لهم عن العقوبة لهم على ما سلف منهم من ذلك ، لم يقهم عذاب الجحيم ، ولكن كان ينالهم ويصيبهم ألمه ومكروهه .
وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=57ذلك هو الفوز العظيم ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي أعطينا هؤلاء المتقين في الآخرة من الكرامة التي وصفت في هذه الآيات ، هو الفوز العظيم : يقول : هو الظفر العظيم بما كانوا يطلبون من إدراكه في الدنيا بأعمالهم وطاعتهم لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات والفرائض ، واجتناب المحارم .
الْقَوْلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29015_30397_30413تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 54 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ( 55 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 56 )
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=57فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 57 ) )
يَقُولُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - : كَمَا أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكَرَامَةِ بِإِدْخَالِنَا لَهُمُ
[ ص: 52 ] الْجَنَّاتِ ، وَإِلْبَاسِنَا لَهُمْ فِيهَا السُّنْدُسَ وَالْإِسْتَبْرَقَ ، كَذَلِكَ أَكْرَمْنَاهُمْ بِأَنْ زَوَّجْنَاهُمْ أَيْضًا فِيهَا حُورًا مِنَ النِّسَاءِ ، وَهُنَّ النَّقِيَّاتُ الْبَيَاضِ ، وَاحِدَتُهُنَّ : حَوْرَاءُ .
وَكَانَ
مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي مَعْنَى الْحُورِ مَا حَدَّثَنِي بِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : ثَنَا
أَبُو عَاصِمٍ قَالَ : ثَنَا
عِيسَى ، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ قَالَ : ثَنَا
الْحَسَنُ قَالَ : ثَنَا
وَرْقَاءُ جَمِيعًا ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) قَالَ : أَنَكَحْنَاهُمْ حُورًا . قَالَ : وَالْحُورُ : اللَّاتِي يَحَارُ فِيهِنَّ الطَّرْفُ ، بَادٍ مُخُّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهِنَّ ، وَيَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ فِي كَبِدِ إِحْدَاهُنَّ كَالْمِرْآةِ مِنْ رِقَّةِ الْجِلْدِ ، وَصَفَاءِ اللَّوْنِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ الْحُورَ إِنَّمَا مَعْنَاهَا : أَنَّهُ يَحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ الْحُورَ إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ حَوْرَاءَ ، كَالْحُمْرِ جَمْعُ حَمْرَاءَ ، وَالسُّودِ : جَمْعُ سَوْدَاءَ ، وَالْحَوْرَاءُ إِنَّمَا هِيَ فَعْلَاءُ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ نَقَاءُ الْبَيَاضِ ، كَمَا قِيلَ لِلنَّقِيِّ الْبَيَاضِ مِنَ الطَّعَامِ الْحُوَّارِيُّ . وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَالَ سَائِرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
حَدَّثَنَا
بِشْرٌ قَالَ : ثَنَا
يَزِيدُ قَالَ : ثَنَا
سَعِيدٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) قَالَ : بَيْضَاءُ عَيْنَاءُ ، قَالَ : وَفِي قِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ ( بِعِيسٍ عِينٍ ) .
حَدَّثَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ : ثَنَا
ابْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ
مَعْمَرٍ ، عَنْ
قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=54بِحُورٍ عِينٍ ) قَالَ : بِيضٌ عِينٌ ، قَالَ : وَفِي حَرْفِ
ابْنِ مَسْعُودٍ ( بِعِيسٍ عِينٍ ) . وَقَرَأَ
ابْنُ مَسْعُودٍ هَذِهِ ، يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْحُورِ غَيْرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ
مُجَاهِدٌ ، لِأَنَّ الْعِيسَ عِنْدَ الْعَرَبِ جَمْعُ عَيْسَاءَ ، وَهِيَ الْبَيْضَاءُ مِنَ الْإِبِلِ ، كَمَا قَالَ
الْأَعْشَى :
وَمَهْمَهٍ نَازِحٍ تَعْوِي الذِّئَابُ بِهِ كَلَّفْتُ أَعْيَسَ تَحْتَ الرَّحْلِ نَعَّابَا
[ ص: 53 ]
يَعْنِي بِالْأَعْيَسِ : جَمَلًا أَبْيَضَ . فَأَمَّا الْعِينُ فَإِنَّهَا جَمْعُ عَيْنَاءَ ، وَهِيَ الْعَظِيمَةُ الْعَيْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ .
وَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يَدْعُونَ فِيهَا ) . . . الْآيَةَ ، يَقُولُ : يَدْعُو هَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ فِي الْجَنَّةِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ اشْتَهَوْهُ ، آمَنِينَ فِيهَا مِنَ انْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَنَفَادِهِ وَفَنَائِهِ ، وَمِنْ غَائِلَةِ أَذَاهُ وَمَكْرُوهِهِ ، يَقُولُ : لَيْسَتْ تِلْكَ الْفَاكِهَةُ هُنَالِكَ كَفَاكِهَةِ الدُّنْيَا الَّتِي نَأْكُلُهَا ، وَهُمْ يَخَافُونَ مَكْرُوهَ عَاقِبَتِهَا ، وَغِبَّ أَذَاهَا مَعَ نَفَادِهَا مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَعُدْمِهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ .
وَكَانَ
قَتَادَةُ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ : ( آمِنِينَ ) إِلَى مَا حَدَّثَنَا بِهِ
بِشْرٌ قَالَ : ثَنَا
يَزِيدُ قَالَ : ثَنَا
سَعِيدٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=55يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) أَمِنُوا مِنَ الْمَوْتِ وَالْأَوْصَابِ وَالشَّيْطَانِ .
وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) يَقُولُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - : لَا يَذُوقُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقُونَ فِي الْجَنَّةِ الْمَوْتَ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَاقُوهَا فِي الدُّنْيَا .
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ " إِلَّا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى أَنَّهَا فِي مَعْنَى سِوَى ، وَيَقُولُ : مَعْنَى الْكَلَامِ : لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ سِوَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى ، وَيُمَثِّلُهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) بِمَعْنَى : سِوَى مَا قَدْ فَعَلَ آبَاؤُكُمْ ، وَلَيْسَ لِلَّذِي قَالَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدِي وَجْهٌ مَفْهُومٌ ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : لَا أَذُوقُ الْيَوْمَ الطَّعَامَ إِلَّا الطَّعَامَ الَّذِي ذُقْتُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخَبَرَ عَنْ قَائِلِهِ أَنَّ عِنْدَهُ طَعَامًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ذَائِقُهُ وَطَاعِمُهُ دُونَ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ غَيْرِهِ .
وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ الْأَغْلَبَ مِنْ مَعْنَاهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثْبَتَ
[ ص: 54 ] بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) مَوْتَةً مِنْ نَوْعِ الْأُولَى هُمْ ذَائِقُوهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ آمَنَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ إِذَا هُمْ دَخَلُوهَا مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْتُ مِنْ مَعْنَاهُ . وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ تُوضَعَ " إِلَّا" فِي مَوْضِعِ " بَعْدَ" لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ : لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا إِلَّا رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ عِنْدَ عَمْرٍو قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلًا بَعْدَ كَلَامِ الرَّجُلِ الَّذِي عِنْدَ عَمْرٍو .
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ : لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ عِنْدَ عَمْرٍو ، قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُكَلِّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ رَجُلًا إِلَّا رَجُلًا عِنْدَ عَمْرٍو ، فَبَعْدَ ، وَإِلَّا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ تَضَعَ الْكَلِمَةَ مَكَانَ غَيْرِهَا إِذَا تَقَارَبَ مَعْنَيَاهُمَا ، وَذَلِكَ كَوَضْعِهِمُ الرَّجَاءَ مَكَانَ الْخَوْفِ لِمَا فِي مَعْنَى الرَّجَاءِ مِنَ الْخَوْفِ ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَيْسَ بِيَقِينٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ طَمَعٌ ، وَقَدْ يَصْدُقُ وَيَكْذِبُ كَمَا الْخَوْفُ يَصْدُقُ أَحْيَانًا وَيَكْذِبُ ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ
أَبُو ذُؤَيْبٍ :
إِذَا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ
فَقَالَ : لَمْ يَرُجْ لَسْعَهَا ، وَمَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ : لَمْ يَخَفْ لَسْعَهَا ، وَكَوَضْعِهِمُ الظَّنَّ مَوْضِعَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ مِنْ قِبَلِ الْعِيَانِ ، وَإِنَّمَا أُدْرِكَ اسْتِدْلَالًا أَوْ خَبَرًا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سَرَاتُهُمْ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ
[ ص: 55 ]
بِمَعْنَى : أَيْقِنُوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ وَاعْلَمُوا ، فَوَضَعَ الظَّنَّ مَوْضِعَ الْيَقِينِ ، إِذْ لَمْ يَكُنِ الْمَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ قَدْ عَايَنُوا أَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ، وَلَا رَأَوْهُمْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ هَذَا الْمُخْبِرُ ، فَقَالَ لَهُمْ ظُنُّوا الْعِلْمَ بِمَا لَمْ يُعَايَنْ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ ، فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي نَظَائِرَ لِمَا ذَكَرْتُ يَكْثُرُ إِحْصَاؤُهَا ، كَمَا يَتَقَارَبُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي ، وَهُمَا مُخْتَلِفَتَا الْمَعْنَى فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ ، فَتَضَعُ الْعَرَبُ إِحْدَاهُمَا مَكَانَ صَاحِبَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَقَارَبُ مَعْنَيَاهُمَا فِيهِ .
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) وُضِعَتْ " إِلَّا" فِي مَوْضِعِ " بَعْدَ" لِمَا نَصِفُ مِنْ تَقَارُبِ مَعْنَى" إِلَّا" ، وَ" بَعْدَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَكَذَلِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=22وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) إِنَّمَا مَعْنَاهُ : بَعْدَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَمَّا إِذَا وُجِّهَتْ " إِلَّا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَعْنَى سِوَى ، فَإِنَّمَا هُوَ تَرْجَمَةٌ عَنِ الْمَكَانِ ، وَبَيَانٌ عَنْهَا بِمَا هُوَ أَشَدُّ الْتِبَاسًا عَلَى مَنْ أَرَادَ عِلْمَ مَعْنَاهَا مِنْهَا .
وَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=56وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ) يَقُولُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - : وَوَقَى هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ رَبَّهُمْ يَوْمَئِذٍ عَذَابَ النَّارِ تَفَضُّلًا يَا
مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ عَلَيْهِمْ ، وَإِحْسَانًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ بِجُرْمٍ سَلَفَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا ، وَلَوْلَا تَفَضُّلُهُ عَلَيْهِمْ بِصَفْحِهِ لَهُمْ عَنِ الْعُقُوبَةِ لَهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ ، لَمْ يَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، وَلَكِنْ كَانَ يَنَالُهُمْ وَيُصِيبُهُمْ أَلَمُهُ وَمَكْرُوهُهُ .
وَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=57ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يَقُولُ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - : هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ، هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ : يَقُولُ : هُوَ الظَّفَرُ الْعَظِيمُ بِمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْ إِدْرَاكِهِ فِي الدُّنْيَا بِأَعْمَالِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ ، وَاتِّقَائِهِمْ إِيَّاهُ ، فِيمَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْفَرَائِضِ ، وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ .