الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( سأصليه سقر ( 26 ) وما أدراك ما سقر ( 27 ) لا تبقي ولا تذر ( 28 ) لواحة للبشر ( 29 ) عليها تسعة عشر ( 30 ) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ( 31 ) ) .

يعني تعالى ذكره بقوله : ( سأصليه سقر ) سأورده بابا من أبواب جهنم اسمه سقر ، ولم يجر سقر لأنه اسم من أسماء جهنم ( وما أدراك ما سقر ) يقول تعالى ذكره : وأي شيء أدراك يا محمد ، أي شيء سقر . ثم بين الله تعالى ذكره ما سقر ، فقال : هي [ ص: 27 ] نار ( لا تبقي ) من فيها حيا ( ولا تذر ) من فيها ميتا ، ولكنها تحرقهم كلما جدد خلقهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( لا تبقي ولا تذر ) قال : لا تميت ولا تحيي .

حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن مرثد ، في قوله : ( لا تبقي ولا تذر ) قال : لا تبقي منهم شيئا أن تأكلهم ، فإذا خلقوا لها لا تذرهم حتى تأخذهم فتأكلهم .

وقوله : ( لواحة للبشر ) يعني جل ثناؤه : مغيرة لبشر أهلها ، واللواحة من نعت سقر ، وبالرد عليها رفعت ، وحسن الرفع فيها ، وهي نكرة ، وسقر معرفة ، لما فيها من معنى المدح .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( لواحة للبشر ) قال : الجلد .

حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبى رزين ( لواحة للبشر ) قال : تلفح الجلد لفحة ، فتدعه أشد سوادا من الليل .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، قال : قال زيد بن أسلم ( لواحة للبشر ) : أي تلوح أجسادهم عليها .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( لواحة للبشر ) أي حراقة للجلد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، [ ص: 28 ] عن أبيه ، عن ابن عباس : ( لواحة للبشر ) يقول : تحرق بشرة الإنسان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( لواحة للبشر ) قال : تغير البشر ، تحرق البشر ; يقال : قد لاحه استقباله السماء ، ثم قال : النار تغير ألوانهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ( لواحة للبشر ) غيرت جلودهم فاسودت .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين مثله .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لواحة للبشر ) يعني : بشر الإنسان ، يقول : تحرق بشره .

وروي عن ابن عباس في ذلك ، ما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( لواحة للبشر ) يقول : معرضة ، وأخشى أن يكون خبر علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس هذا غلطا ، وأن يكون موضع معرضة مغيرة ، لكن صحف فيه .

وقوله : ( عليها تسعة عشر ) يقول تعالى ذكره : على سقر تسعة عشر من الخزنة .

وذكر أن ذلك لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل ما حدثني به محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( عليها تسعة عشر ) إلى قوله : ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) فلما سمع أبو جهل بذلك قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ؟ فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي أبا جهل ، فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) فلما فعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل : والله لا تفعل أنت وربك شيئا ، فأخزاه الله يوم بدر .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( عليها تسعة عشر ) ذكر لنا أن أبا جهل حين أنزلت هذه الآية قال : يا معشر قريش ، ما يستطيع كل [ ص: 29 ] عشرة منكم أن يغلبوا واحدا من خزنة النار وأنتم الدهم ؟ فصاحبكم يحدثكم أن عليها تسعة عشر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال أبو جهل : يخبركم محمد أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم ليجتمع كل عشرة على واحد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( عليها تسعة عشر ) قال : خزنتها تسعة عشر .

وقوله : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) يقول تعالى ذكره : وما جعلنا خزنة النار إلا ملائكة يقول لأبي جهل في قوله لقريش : أما يستطيع كل عشرة منكم أن تغلب منها واحدا ؟ فمن ذا يغلب خزنة النار وهم الملائكة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا ابن زيد ، في قوله : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) قال : ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا كما قال هذا .

وقوله : ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) يقول : وما جعلنا عدة هؤلاء الخزنة إلا فتنة للذين كفروا بالله من مشركي قريش .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) : إلا بلاء .

وإنما جعل الله الخبر عن عدة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا ، لتكذيبهم بذلك ، وقول بعضهم لأصحابه : أنا أكفيكموهم .

ذكر الخبر عمن قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني [ ص: 30 ] الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( تسعة عشر ) قال : جعلوا فتنة ، قال أبو الأشد بن الجمحي : لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم .

وقوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) يقول تعالى ذكره : ليستيقن أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدة خزنة جهنم ، إذ وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) قال : وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشر ، فأراد الله أن يستيقن أهل الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) قال : يجدونه مكتوبا عندهم عدة خزنة أهل النار .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) يصدق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها ، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) قال : ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدة خزنة النار ما في كتبهم .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) قال : عدة خزنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) أنك رسول الله . [ ص: 31 ]

وقوله : ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) يقول تعالى ذكره : وليزداد الذين آمنوا بالله تصديقا إلى تصديقهم بالله وبرسوله بتصديقهم بعدة خزنة جهنم .

وقوله : ( ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) يقول : ولا يشك أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك ، والمؤمنون بالله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ) يقول تعالى ذكره : وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق ، والكافرون بالله من مشركي قريش ( ماذا أراد الله بهذا مثلا )

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وليقول الذين في قلوبهم مرض ) : أي نفاق .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) يقول : حتى يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر .

وقوله : ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) يقول تعالى ذكره : كما أضل الله هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين في خبر الله عن عدة خزنة جهنم ، أي شيء أراد الله بهذا الخبر من المثل حتى يخوفنا بذكر عدتهم ، ويهتدي به المؤمنون ، فازدادوا بتصديقهم إلى إيمانهم إيمانا ( كذلك يضل الله من يشاء ) من خلقه فيخذله عن إصابة الحق ( ويهدي من يشاء ) منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب ( وما يعلم جنود ربك ) من كثرتهم ( إلا هو ) يعني : الله .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) أي : من كثرتهم .

وقوله : ( وما هي إلا ذكرى للبشر ) يقول تعالى ذكره : وما النار التي وصفتها إلا تذكرة ذكر بها البشر ، وهم بنو آدم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وما هي إلا ذكرى للبشر ) يعني النار .

[ ص: 32 ] حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وما هي إلا ذكرى للبشر ) قال : النار .

التالي السابق


الخدمات العلمية