القول في
تأويل قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ ص: 399 ]
قال
أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .
فقال بعضهم بما :
554 - حدثني به
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، في خبر ذكره ، عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس ، وعن
مرة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=19أو كصيب من السماء " الآيات الثلاث - قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة " إلى قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27أولئك هم الخاسرون "
وقال آخرون بما :
555 - حدثني به
أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا
قراد ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11960أبي جعفر الرازي ، عن
الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " قال : هذا
nindex.php?page=treesubj&link=28902_30550مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت . وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن : إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .
556 - حدثني
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت ، وتموت إذا رويت ، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله فأهلكهم . فذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) [ سورة الأنعام : 44 ] .
وقال آخرون بما :
557 - حدثنا به
بشر بن معاذ ، قال : حدثنا
يزيد عن
سعيد ، عن
قتادة ، قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله :
[ ص: 400 ] "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "
558 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "
وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية ، وفي المعنى الذي نزلت فيه ، مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق ، ما ذكرنا من قول
ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس .
وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ، ضربها للمنافقين ، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول - أعني قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة ، أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .
فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور ، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى لما أخبر عنه : أنه لا يستحيي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت ، وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب . وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة ، فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا .
[ ص: 401 ]
فإن ذلك بخلاف ما ظن . وذلك أن قول الله جل ثناؤه : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرها وكبيرها ، ابتلاء بذلك عباده واختبارا منه لهم ، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالا منه به لقوم ، وهداية منه به لآخرين .
559 - كما حدثني
محمد بن عمرو ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26مثلا ما بعوضة " يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
560 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد بمثله .
561 - حدثني
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
مجاهد ، مثله .
قال
أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
562 - كما حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثنا
أبو سفيان ، عن
معمر ، عن
قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .
563 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، بنحوه .
[ ص: 402 ]
- خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الأمثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع ، جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء ، على ما نعتهما به من نعتهما .
فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت ، الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟
قيل : الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره " :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " وإن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الآيتين المقدمتين - اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بموقد النار وبالصيب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26ماذا أراد الله بهذا مثلا فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به ، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .
وأما تأويل قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي " فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي " : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه ، فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء .
[ ص: 403 ]
وأما معنى قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26أن يضرب مثلا " فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) [ سورة الروم : 28 ] ، بمعنى وصف لكم ، وكما قال
الكميت :
وذلك ضرب أخماس أريدت لأسداس عسى أن لا تكونا
بمعنى : وصف أخماس .
والمثل : الشبه ، يقال : هذا مثل هذا ومثله ، كما يقال : شبهه وشبهه ، ومنه قول كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطيل
يعني شبها ، فمعنى قوله إذا : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " إن
[ ص: 404 ] الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به .
وأما " ما " التي مع " مثل " فإنها بمعنى " الذي " لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها - مثلا .
فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ؟ فأنى أتاها النصب ؟
قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما ، أن " ما " لما كانت في محل نصب بقوله " يضرب " وكانت البعوضة لها صلة ، عربت بتعريبها فألزمت إعرابها ، كما قال حسان بن ثابت :
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
فعربت " غير " بإعراب " من " والعرب تفعل ذلك خاصة في " من " و " ما " تعرب صلاتهما بإعرابهما ، لأنهما يكونان معرفة أحيانا ، ونكرة أحيانا .
[ ص: 405 ]
وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر " بين " و " إلى " إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في " ما " الثانية ، دلالة عليهما ، كما قالت العرب : " مطرنا ما زبالة فالثعلبية " و " له عشرون ما ناقة فجملا " و " هي أحسن الناس ما قرنا فقدما " يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول : " ما بين كذا إلى كذا " ينصبون الأول والثاني ، ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : " ما بعوضة فما فوقها "
وقد زعم بعض أهل العربية أن " ما " التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها . فعلى هذا التأويل ، يجب أن تكون " بعوضة " منصوبة ب " يضرب " وأن تكون " ما " الثانية التي في " فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما "
وأما تأويل قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فما فوقها " : فما هو أعظم منها - عندي - لما ذكرنا قبل من قول
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج : أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذ كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف . وإذ كانت كذلك ، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى
[ ص: 406 ] - على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .
وقيل في تأويل قوله "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فما فوقها " في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح ، فيقول السامع : " نعم ، وفوق ذاك " يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم ، وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضى معرفتهم بتأويل القرآن .
فقد تبين إذا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة .
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
الْقَوْلُ فِي
تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) [ ص: 399 ]
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَفِي تَأْوِيلِهَا .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا :
554 - حَدَّثَنِي بِهِ
مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ ، عَنْ
أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ
أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ
مُرَّةَ ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ - يَعْنِي قَوْلَهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا " وَقَوْلَهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=19أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ " الْآيَاتِ الثَّلَاثَ - قَالَ الْمُنَافِقُونَ : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً " إِلَى قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=27أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ "
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا :
555 - حَدَّثَنِي بِهِ
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
قُرَادٌ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=11960أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ ، عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " قَالَ : هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28902_30550مَثَّلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا ، إِنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ ، فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ . وَكَذَلِكَ مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ فِي الْقُرْآنِ : إِذَا امْتَلَأُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ . قَالَ : ثُمَّ تَلَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 ] .
556 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ
الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : فَإِذَا خَلَتْ آجَالُهُمْ وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُمْ ، صَارُوا كَالْبَعُوضَةِ تَحْيَا مَا جَاعَتْ ، وَتَمُوتُ إِذَا رَوِيَتْ ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّهُ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ ، إِذَا امْتَلَئُوا مِنَ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمُ اللَّهُ فَأَهْلَكَهُمْ . فَذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=44حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 ] .
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا :
557 - حَدَّثَنَا بِهِ
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
يَزِيدُ عَنْ
سَعِيدٍ ، عَنْ
قَتَادَةَ ، قَوْلُهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَذْكُرَ مِنْهُ شَيْئًا مَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ . إِنَّ اللَّهَ حِينَ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ قَالَ أَهْلُ الضَّلَالَةِ : مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ :
[ ص: 400 ] "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا "
558 - حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ ، عَنْ
قَتَادَةَ ، قَالَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْعَنْكَبُوتَ وَالذُّبَابَ ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ : مَا بَالُ الْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ يُذْكَرَانِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا "
وَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ ، مَذْهَبًا ، غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهَهُ بِالْحَقِّ ، مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ
ابْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنَّ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ، عُقَيْبَ أَمْثَالٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، ضَرْبَهَا لِلْمُنَافِقِينَ ، دُونَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا فِي سَائِرِ السُّوَرِ غَيْرِهَا . فَلِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي قَوْلَهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا " - جَوَابًا لِنَكِيرِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا ضُرِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، أَحَقُّ وَأُولَى مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّمَا أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَوَابًا لَنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي سَائِرِ السُّوَرِ ، لِأَنَّ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَلِآلِهَتِهِمْ فِي سَائِرِ السُّوَرِ أَمْثَالٌ مُوَافِقَةُ الْمَعْنَى لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَهُ مَثَلًا إِذْ كَانَ بَعْضُهَا تَمْثِيلًا لِآلِهَتِهِمْ بِالْعَنْكَبُوتِ ، وَبَعْضُهَا تَشْبِيهًا لَهَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ بِالذُّبَابِ . وَلَيْسَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا .
[ ص: 401 ]
فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظُنَّ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْحَقِّ مِنَ الْأَمْثَالِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا ، ابْتِلَاءً بِذَلِكَ عِبَادَهُ وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ ، لِيُمَيِّزَ بِهِ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ بِهِ ، إِضْلَالًا مِنْهُ بِهِ لِقَوْمٍ ، وَهِدَايَةً مِنْهُ بِهِ لِآخَرِينَ .
559 - كَمَا حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ
عِيسَى ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26مَثَلًا مَا بَعُوضَةً " يَعْنِي الْأَمْثَالَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ، يُؤْمِنُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ بِهَا وَيُضِلُّ بِهَا الْفَاسِقِينَ . يَقُولُ : يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَعْرِفُهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ .
560 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو حُذَيْفَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
شِبْلٌ ، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ .
561 - حَدَّثَنِي
الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ ، مِثْلَهُ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : لَا أَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قَصَدَ الْخَبَرَ عَنْ عَيْنِ الْبَعُوضَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَا ، وَلَكِنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ أَضْعَفَ الْخَلْقِ -
562 - كَمَا حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو سُفْيَانَ ، عَنْ
مَعْمَرٍ ، عَنْ
قَتَادَةَ ، قَالَ : الْبَعُوضَةُ أَضْعَفُ مَا خَلَقَ اللَّهُ .
563 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ ، بِنَحْوِهِ .
[ ص: 402 ]
- خَصَّهَا اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ أَقَلَّ الْأَمْثَالِ فِي الْحَقِّ وَأَحْقَرَهَا وَأَعْلَاهَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فِي الِارْتِفَاعِ ، جَوَابًا مِنْهُ جَلَّ ذَكَرُهُ لِمَنْ أَنْكَرَ مِنْ مُنَافِقِي خَلْقِهِ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ بِمُوقِدِ النَّارِ وَالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ ، عَلَى مَا نَعَتَهُمَا بِهِ مِنْ نَعْتِهِمَا .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَأَيْنَ ذِكْرُ نَكِيرِ الْمُنَافِقِينَ الْأَمْثَالَ الَّتِي وَصَفْتَ ، الَّذِي هَذَا الْخَبَرُ جَوَابُهُ ، فَنَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتَ ؟
قِيلَ : الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ " :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " وَإِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثَالَ فِي الْآيَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ - اللَّتَيْنِ مَثَّلَ مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مُقِيمُونَ فِيهِمَا بِمُوقِدِ النَّارِ وَبِالصَّيِّبِ مِنَ السَّمَاءِ ، عَلَى مَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا " - قَدْ أَنْكَرُوا الْمَثَلَ وَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا فَأَوْضَحَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَطَأَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ ، وَقَبَّحَ لَهُمْ مَا نَطَقُوا بِهِ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِحُكْمِهِمْ فِي قِيلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْهُ ، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ وَفُسُوقٌ ، وَأَنَّ الصَّوَابَ وَالْهُدَى مَا قَالَهُ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ مَا قَالُوهُ .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي " فَإِنَّ بَعْضَ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ كَانَ يَتَأَوَّلُ مَعْنَى "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي " : إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 37 ] ، وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : وَتَسْتَحِي النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحِيَهُ ، فَيَقُولُ : الِاسْتِحْيَاءُ بِمَعْنَى الْخَشْيَةِ ، وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ .
[ ص: 403 ]
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا " فَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ وَيَصِفَ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) [ سُورَةُ الرُّومِ : 28 ] ، بِمَعْنَى وَصْفٍ لَكُمْ ، وَكَمَا قَالَ
الْكُمَيْتُ :
وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ لَأَسْدَاسٍ عَسَى أَنْ لَا تَكُونَا
بِمَعْنَى : وَصْفِ أَخْمَاسٍ .
وَالْمَثَلُ : الشَّبَهُ ، يُقَالُ : هَذَا مَثَلُ هَذَا وَمِثْلُهُ ، كَمَا يُقَالُ : شَبَهُهُ وَشِبْهُهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ :
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الْأَبَاطِيلُ
يَعْنِي شَبَهًا ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِذًا : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا " إِنَّ
[ ص: 404 ] اللَّهَ لَا يَخْشَى أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شَبَّهَ بِهِ .
وَأَمَّا " مَا " الَّتِي مَعَ " مَثَلٍ " فَإِنَّهَا بِمَعْنَى " الَّذِي " لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : إِنَ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ فَمَا فَوْقَهَا - مَثَلًا .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قُلْتَ ، فَمَا وَجْهُ نَصْبِ الْبَعُوضَةِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ : أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ ، فَالْبَعُوضَةُ عَلَى قَوْلِكَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ ؟ فَأَنَّى أَتَاهَا النَّصْبُ ؟
قِيلَ : أَتَاهَا النَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ " مَا " لَمَّا كَانَتْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِقَوْلِهِ " يَضْرِبُ " وَكَانَتَ الْبَعُوضَةُ لَهَا صِلَةٌ ، عُرِّبَتْ بِتَعْرِيبِهَا فَأُلْزِمَتْ إِعْرَابَهَا ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
وَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
فَعُرِّبَتْ " غَيْرُ " بِإِعْرَابِ " مَنْ " وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ خَاصَّةً فِي " مَنْ " وَ " مَا " تُعْرِبُ صِلَاتِهُمَا بِإِعْرَابِهِمَا ، لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعْرِفَةً أَحْيَانًا ، وَنَكِرَةً أَحْيَانًا .
[ ص: 405 ]
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ ، فَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا ، ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ " بَيْنَ " وَ " إِلَى " إِذْ كَانَ فِي نَصْبِ الْبَعُوضَةِ وَدُخُولِ الْفَاءِ فِي " مَا " الثَّانِيَةِ ، دَلَالَةٌ عَلَيْهِمَا ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ : " مُطِرْنَا مَا زُبَالَةَ فَالثَعْلَبِيَّةَ " وَ " لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا " وَ " هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ مَا قَرْنًا فَقَدَمًا " يَعْنُونَ : مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَا حَسُنَ فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ دُخُولُ : " مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا " يَنْصِبُونَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ ، لِيَدُلَّ النَّصْبُ فِيهِمَا عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنَ الْكَلَامِ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : " مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا "
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ " مَا " الَّتِي مَعَ الْمَثَلِ صِلَةٌ فِي الْكَلَامِ بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : إِنَ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ بَعُوضَةً مَثَلًا فَمَا فَوْقَهَا . فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ " بَعُوضَةً " مَنْصُوبَةً بِ " يَضْرِبُ " وَأَنْ تَكُونَ " مَا " الثَّانِيَةُ الَّتِي فِي " فَمَا فَوْقَهَا " مَعْطُوفَةً عَلَى الْبَعُوضَةِ لَا عَلَى " مَا "
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فَمَا فَوْقَهَا " : فَمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا - عِنْدِي - لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ
قَتَادَةَ nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ : أَنَّ الْبَعُوضَةَ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ ، فَإِذْ كَانَتْ أَضْعَفَ خَلْقِ اللَّهِ فَهِيَ نِهَايَةٌ فِي الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ . وَإِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا فَوْقَ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَقْوَى مِنْهُ ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى
[ ص: 406 ] - عَلَى مَا قَالَاهُ - فَمَا فَوْقَهَا فِي الْعِظَمِ وَالْكِبَرِ ، إِذْ كَانَتِ الْبَعُوضَةُ نِهَايَةً فِي الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ .
وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26فَمَا فَوْقَهَا " فِي الصِّغَرِ وَالْقِلَّةِ ، كَمَا يُقَالُ فِي الرَّجُلِ يُذَكِّرُهُ الذَّاكِرُ فَيَصِفُهُ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ ، فَيَقُولُ السَّامِعُ : " نَعَمْ ، وَفَوْقَ ذَاكَ " يَعْنِي فَوْقَ الَّذِي وَصَفَ فِي الشُّحِّ وَاللُّؤْمِ ، وَهَذَا قَوْلٌ خِلَافُ تَأْوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ تُرْتَضَى مَعْرِفَتُهُمْ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ .
فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا ، بِمَا وَصَفْنَا ، أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَصِفَ شَبَهًا لِمَا شَبَّهَ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَ الْبَعُوضَةِ .
فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ لَوْ رُفِعَتِ الْبَعُوضَةُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي " مَا " إِلَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ تَكُونَ اسْمًا لَا صِلَةً بِمَعْنَى التَّطَوُّلِ .