الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6141 باب حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها [ ص: 360 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 360 ] قوله ( باب ) كذا للأكثر بغير ترجمة وللكشميهني " باب طلوع الشمس من مغربها " وكذا هو في نسخة الصغاني وهو مناسب ولكن الأول أنسب لأنه يصير كالفصل من الباب الذي قبله ووجه تعلقه به أن طلوع الشمس من مغربها إنما يقع عند إشراف قيام الساعة كما سأقرره

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أبو الزناد عن عبد الرحمن هو الأعرج وصرح به الطبراني في مسند الشاميين عن أحمد بن عبد الوهاب عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها إلخ هذا بعض حديث ساقه المؤلف في أواخر كتاب الفتن بهذا الإسناد بتمامه وفي أوله لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظميتان الحديث وذكر فيه نحو عشرة أشياء من هذا الجنس ثم ذكر ما في هذا الباب وسأذكر شرحه مستوفى هناك وأقتصر هنا على ما يتعلق بطلوع الشمس لأنه المناسب لما قبله وما بعده من قرب القيامة خاصة وعامة .

                                                                                                                                                                                                        قال الطيبي : الآيات أمارات للساعة إما على قربها وإما على حصولها فمن الأول الدجال ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج والخسف ومن الثاني الدخان وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة والنار التي تحشر الناس وحديث الباب يؤذن بذلك لأنه جعل في طلوعها من المغرب غاية لعدم قيام الساعة فيقتضي أنها إذا طلعت كذلك انتفى عدم القيام فثبت القيام

                                                                                                                                                                                                        قوله فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ) وقع في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة في التفسير فإذا رآها الناس آمن من عليها أي على الأرض من الناس

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فذاك ) في رواية الكشميهني " فذلك " وكذا هو في رواية أبي زرعة ووقع في رواية همام عن أبي هريرة في التفسير أيضا " وذلك " بالواو

                                                                                                                                                                                                        قوله حين لا ينفع نفسا إيمانها الآية كذا هنا وفي رواية أبي زرعة " إيمانها لم تكن آمنت من قبل " وفي رواية همام " إيمانها ثم قرأ الآية " قال الطبري : معنى الآية لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع ولا ينفع مؤمنا لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا كما قال - تعالى - : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وكما ثبت في الحديث الصحيح تقبل توبة العبد ما لم يبلغ الغرغرة وقال ابن عطية : في هذا الحديث دليل على أن المراد بالبعض في قوله - تعالى - يوم يأتي بعض آيات ربك طلوع الشمس من المغرب [ ص: 361 ] وإلى ذلك ذهب الجمهور وأسند الطبري عن ابن مسعود أن المراد بالبعض إحدى ثلاث هذه أو خروج الدابة أو الدجال قال وفيه نظر لأن نزول عيسى ابن مريم يعقب خروج الدجال وعيسى لا يقبل إلا الإيمان فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة . قلت ثبت في صحيح مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رفعه ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض قيل فلعل حصول ذلك يكون متتابعا بحيث تبقى النسبة إلى الأول منها مجازية وهذا بعيد لأن مدة لبث الدجال إلى أن يقتله عيسى ثم لبث عيسى وخروج يأجوج ومأجوج كل ذلك سابق على طلوع الشمس من المغرب فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج مسلم أيضا من طريق أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب وفي الحديث قصة لمروان بن الحكم وأنه كان يقول أول الآيات خروج الدجال فأنكر عليه عبد الله بن عمرو . قلت ولكلام مروان محمل يعرف مما ذكرته .

                                                                                                                                                                                                        قال الحاكم أبو عبد الله : الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه . قلت والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس كما تقدم في حديث أنس في بدء الخلق في مسائل عبد الله بن سلام ففيه " وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب " وسيأتي فيه زيادة في " باب كيف الحشر " قال ابن عطية وغيره ما حاصله معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب وكذلك العاصي لا تنفعه توبته ومن لم يعمل صالحا من قبل ولو كان مؤمنا لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب وقال القاضي عياض : المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها .

                                                                                                                                                                                                        والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة وارتفع الإيمان بالغيب فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله وقال القرطبي في " التذكرة " بعد أن ذكر هذا فعلى هذا فتوبة من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر أو ينقطع تواتره ويصير الخبر عنه آحادا فمن أسلم حينئذ أو تاب قبل منه وأيد ذلك بأنه روي أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك ويطلعان ويغربان من المشرق كما كانا قبل ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عمران بن حصين قال إنما لا يقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذ صيحة فيهلك بها كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته . قال وذكر الميانشي عن عبد الله بن عمرو رفعه قال تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة . قلت رفع هذا لا يثبت وقد أخرجه عبد بن حميد في تفسيره بسند جيد عن عبد الله بن عمرو موقوفا وقد ورد عنه ما يعارضه فأخرج أحمد ونعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه الآيات خرزات منظومات في سلك إذا انقطع السلك تبع بعضها بعضا . وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو رفعه إذا طلع الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت الحديث وأخرج نعيم نحوه عن أبي هريرة والحسن وقتادة [ ص: 362 ] بأسانيد مختلفة وعند ابن عساكر من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رفعه بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقط منها واحدة توالت . وعن أبي العالية بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام ويمكن الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومائة سنة لكنها تمر مرورا سريعا كمقدار مرور عشرين ومائة شهر من قبل ذلك أو دون ذلك كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رفعه لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر الحديث وفيه واليوم كاحتراق السعفة وأما حديث عمران فلا أصل له وقد سبقه إلى هذا الاحتمال البيهقي في " البعث والنشور " فقال في " باب خروج يأجوج ومأجوج " فصل ذكر الحليمي أن أول الآيات الدجال ثم نزول عيسى لأن طلوع الشمس من المغرب لو كان قبل نزول عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم في زمانه ولكنه ينفعهم إذ لو لم ينفعهم لما صار الدين واحدا بإسلام من أسلم منهم .

                                                                                                                                                                                                        قال البيهقي : وهو كلام صحيح لو لم يعارض الحديث الصحيح المذكور أن أول الآيات طلوع الشمس من المغرب وفي حديث عبد الله بن عمرو طلوع الشمس أو خروج الدابة وفي حديث أبي حازم عن أبي هريرة الجزم بهما وبالدجال في عدم نفع الإيمان قال البيهقي : إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك فإذا انقرضوا وتطاول الزمان وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه الإيمان بالغيب وكذا في قصة الدجال لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال وينفعه بعد انقراضه وإن كان في علم الله طلوع الشمس بعد نزول عيسى احتمل أن يكون المراد بالآيات في حديث عبد الله بن عمرو آيات أخرى غير الدجال ونزول عيسى إذ ليس في الخبر نص على أنه يتقدم عيسى .

                                                                                                                                                                                                        قلت وهذا الثاني هو المعتمد والأخبار الصحيحة تخالفه ففي صحيح مسلم من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه فمفهومه أن من تاب بعد ذلك لم تقبل ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه لا تزال تقبل التوبة حتى يطلع الشمس من مغربها وسنده جيد وللطبراني عن عبد الله بن سلام نحوه وأخرج أحمد والطبري والطبراني من طريق مالك بن يخامر بضم التحتانية بعدها خاء معجمة وبكسر الميم وعن معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو رفعوه لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع الله على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل

                                                                                                                                                                                                        وأخرج أحمد والدارمي وعبد بن حميد في تفسيره كلهم من طريق أبي هند عن معاوية رفعه لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها وأخرج الطبري بسند جيد من طريق أبي الشعثاء عن ابن مسعود موقوفا التوبة مفروضة ما لم تطلع الشمس من مغربها وفي حديث صفوان بن عسال " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان . وفي حديث ابن عباس نحوه عند ابن مردويه وفيه فإذا طلعت الشمس من مغربها رد المصراعان فيلتئم ما بينهما فإذا أغلق ذلك الباب لم تقبل بعد ذلك توبة ولا تنفع حسنة إلا من كان يعمل الخير قبل ذلك فإنه يجري لهم ما كان قبل ذلك وفيه " فقال أبي بن كعب فكيف بالشمس والناس بعد ذلك ؟ قال تكسى الشمس الضوء وتطلع كما كانت تطلع وتقبل الناس على الدنيا فلو نتج رجل مهرا لم يركبه حتى تقوم الساعة وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند نعيم بن حماد في كتاب الفتن وعبد الرزاق في تفسيره عن وهب بن جابر الخيواني بالخاء المعجمة قال " كنا عند عبد الله بن عمرو فذكر قصة قال ثم أنشأ يحدثنا قال إن الشمس إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت في الطلوع فيؤذن لها حتى إذا كان ذات ليلة فلا يؤذن لها وتحبس ما شاء الله - تعالى - ثم يقال لها اطلعي من حيث [ ص: 363 ] غربت قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق كذلك ومن طريق أخرى وزاد فيها قصة المتهجدين وأنهم هم الذين يستنكرون بطء طلوع الشمس . وأخرج أيضا من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال تأتي ليلة قدر ثلاث ليال لا يعرفها إلا المتهجدون يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ ثم ينام ثم يقوم فعندها يموج الناس بعضهم في بعض حتى إذا صلوا الفجر وجلسوا فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها فيضج الناس ضجة واحدة حتى إذا توسطت السماء رجعت وعند البيهقي في " البعث والنشور " من حديث ابن مسعود نحوه فينادي الرجل جاره يا فلان ، ما شأن الليلة لقد نمت حتى شبعت وصليت حتى أعييت وعند نعيم بن حماد من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو قال لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج إلا قليلا حتى تطلع الشمس من مغربها فيناديهم مناد يا أيها الذين آمنوا قد قبل منكم ويا أيها الذين كفروا قد أغلق عنكم باب التوبة وجفت الأقلام وطويت الصحف ومن طريق يزيد بن شريح وكثير بن مرة إذا طلعت الشمس من المغرب يطبع على القلوب بما فيها وترتفع الحفظة وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملاوأخرج عبد بن حميد والطبري بسند صحيح من طريق عامر الشعبي عن عائشة " إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وطويت الصحف وخلصت الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال " وهو وإن كان موقوفا فحكمه الرفع

                                                                                                                                                                                                        ومن طريق العوفي عن ابن عباس نحوه ومن طريق ابن مسعود قال " الآية التي يختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها " فهذه آثار يشد بعضها بعضا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة ولم يفتح بعد ذلك وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع بل يمتد إلى يوم القيامة ويؤخذ منها أن طلوع الشمس من مغربها أول الإنذار بقيام الساعة وفي ذلك رد على أصحاب الهيئة ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا يختلف مقتضياتها ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه .

                                                                                                                                                                                                        قال الكرماني : وقواعدهم منقوضة ومقدماتهم ممنوعة وعلى تقدير تسليمها فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي معدل النهار بحيث يصير المشرق مغربا وبالعكس واستدل صاحب " الكشاف " بهذه الآية للمعتزلة فقال قوله لم تكن آمنت من قبل صفة لقوله : نفسا وقوله أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على آمنت المعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة للإيمان ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان حينئذ من غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات أو مقدمة إيمانها من غير تقديم عمل صالح فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكتسب خيرا ليعلم أن قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جمع بين قرينتين لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى حتى يفوز صاحبها ويسعد وإلا فالشقوة والهلاك

                                                                                                                                                                                                        قال الشهاب السمين : قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية أنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا فقد علق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين إما نفي سبق الإيمان فقط وإما سبقه مع نفي كسب الخير ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده وكذا السابق ومعه الخير ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة ويكون فيه قلب دليل المعتزلة دليلا عليهم وأجاب ابن المنير في " الانتصاف " فقال هذا الكلام من البلاغة يلقب اللف وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكتسبه من الخير بعد لف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن الحاجب في أماليه الإيمان قبل مجيء الآية نافع ولو لم يكن عمل صالح غيره ومعنى الآية لا ينفع نفسا إيمانها [ ص: 364 ] ولا كسبها العمل الصالح لم يكن الإيمان قبل الآية أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها فاختصر للعلم ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك ثم قال المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب وبسطه أن الله - تعالى - لما خاطب المعاندين بقوله - تعالى - وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه الآية علل الإنزال بقوله أن تقولوا إنما أنزل الكتاب إلخ إزالة للعذر وإلزاما للحجة وعقبه بقوله فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق من طلب الاتباع ثم قال فمن أظلم ممن كذب الآية . أي أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها ثم قال هل ينظرون الآية أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان وكذا العمل الصالح مع الإيمان فكأنه قيل يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل ففي الآية لف لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر ونظيره قوله - تعالى - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا قال فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله إن هذا الكلام في البلاغة يقال له اللف والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانها من بعد ذلك ولا ينفع نفسا كانت مؤمنة لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك قال وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير أي لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة .

                                                                                                                                                                                                        ثم قال الطيبي : وقد ظفرت بفضل الله بعد هذا التقرير على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا من غير إفراط ولا تفريط وهي قوله - تعالى - ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم الآية فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا والله أعلم انتهى ملخصا

                                                                                                                                                                                                        قوله ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته بكسر اللام وسكون القاف بعدها مهملة هي ذات الدر من النوق

                                                                                                                                                                                                        قوله يليط حوضه بضم أوله ويقال ألاط حوضه إذا مدره أي جمع حجارة فصيرها كالحوض ثم سد ما بينها من الفرج بالمدر ونحوه لينحبس الماء ; هذا أصله وقد يكون للحوض خروق فيسدها بالمدر قبل أن يملأه وفي كل ذلك إشارة إلى أن القيامة تقوم بغتة كما قال - تعالى - لا تأتيكم إلا بغتة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية