الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6161 حدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال إنكم محشورون حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده الآية وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله الحكيم قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        " 9753 قوله في الطريق الثانية قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وقع لمسلم بدل قوله : يخطب " بموعظة " أخرجه عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه ومحمد بن المثنى قال واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر بسنده المذكور هنا وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر .

                                                                                                                                                                                                        قوله فقال إنكم زاد ابن المثنى " يا أيها الناس إنكم "

                                                                                                                                                                                                        قوله تحشرون ) في رواية الكشميهني " محشورون " وهي رواية ابن المثنى .

                                                                                                                                                                                                        قوله حفاة لم يقع فيه أيضا " مشاة "

                                                                                                                                                                                                        قوله عراة ) قال البيهقي : وقع في حديث أبي سعيد يعني الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها وقال " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها ويجمع بينهما بأن بعضهم يحشر عاريا وبعضهم كاسيا أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيحشرون عراة ثم يكون أول من يكسى إبراهيم وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال دفنا أم معاذ بن جبل فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها قال وحمله بعض أهل العلم على العمل وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله - تعالى - ولباس التقوى ذلك خير وقوله - تعالى - وثيابك فطهر على أحد الأقوال وهو قول قتادة قال معناه وعملك فأخلصه ويؤكد ذلك حديث جابر رفعه يبعث كل عبد على ما مات عليه أخرجه مسلم وحديث فضالة بن عبيد من مات على مرتبة من هذه المراتب بعث عليها يوم القيامة الحديث أخرجه أحمد ورجح القرطبي الحمل على ظاهر الخبر ويتأيد بقوله - تعالى - ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وقوله - تعالى - كما بدأكم تعودون وإلى ذلك الإشارة في حديث الباب بذكر قوله - تعالى - كما بدأنا أول خلق نعيده عقب قوله : حفاة عراة " قال فيحمل ما دل عليه حديث أبي سعيد على الشهداء لأنهم يدفنون بثيابهم فيبعثون فيها تمييزا لهم عن غيرهم وقد نقله ابن عبد البر عن أكثر العلماء ومن حيث النظر إن الملابس في الدنيا أموال ولا مال في الآخرة مما كان في الدنيا ولأن الذي يقي النفس مما تكره في الآخرة ثواب بحسن عملها أو رحمة مبتدأة من الله وأما ملابس الدنيا فلا تغني عنها شيئا قاله الحليمي . وذهب الغزالي إلى ظاهر حديث أبي سعيد وأورده بزيادة لم أجد لها أصلا وهي فإن أمتي تحشر في أكفانها وسائر الأمم عراة قال القرطبي : إن ثبت حمل على الشهداء من أمته حتى لا تتناقض الأخبار

                                                                                                                                                                                                        قوله ( غرلا ) بضم المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف وزنه ومعناه وهو من بقيت غرلته وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذكر قال أبو هلال العسكري : لا تلتقي اللام مع الراء في كلمة إلا في أربع أرل اسم جبل وورل اسم حيوان معروف وحرل ضرب من الحجارة والغرلة واستدرك عليه كلمتان هرل ولد الزوجة وبرل الديك الذي يستدير بعنقه والستة حوشية إلا الغرلة قال ابن عبد البر : يحشر الآدمي عاريا ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع منه شيء يرد حتى الأقلف وقال أبو الوفاء بن عقيل : حشفة الأقلف [ ص: 392 ] موقاة بالقلفة فتكون أرق فلما أزالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله - تعالى - ليذيقها من حلاوة فضله

                                                                                                                                                                                                        قوله كما بدأنا أول خلق نعيده ] الآية ساق ابن المثنى الآية كلها إلى قوله : فاعلين ومثله كما بدأكم تعودون ومنه ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ووقع في حديث أم سلمة عند ابن أبي الدنيا " يحشر الناس حفاة عراة كما بدئوا .

                                                                                                                                                                                                        قوله وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل ) تقدم بعض الكلام عليه في أحاديث الأنبياء قال القرطبي في " شرح مسلم : يجوز أن يراد بالخلائق من عدا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلم يدخل هو في عموم خطاب نفسه وتعقبه تلميذه القرطبي أيضا في " التذكرة " فقال هذا حسن لولا ما جاء من حديث علي يعني الذي أخرجه ابن المبارك في الزهد من طريق عبد الله بن الحارث عن علي قال " أول من يكسى يوم القيامة خليل الله عليه السلام قبطيتين ثم يكسى محمد - صلى الله عليه وسلم - حلة حبرة عن يمين العرش .

                                                                                                                                                                                                        قلت كذا أورده مختصرا موقوفا وأخرجه أبو يعلى مطولا مرفوعا وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد " وأول من يكسى من الجنة إبراهيم يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر ثم يؤتى بكرسي فيطرح على ساق العرش وهو عن يمين العرش وفي مرسل عبيد بن عمير عند جعفر الفريابي " يحشر الناس حفاة عراة فيقول الله - تعالى - ألا أرى خليلي عريانا ؟ فيكسى إبراهيم ثوبا أبيض فهو أول من يكسى قيل الحكمة في كون إبراهيم أول من يكسى أنه جرد حين ألقي في النار وقيل لأنه أول من استن التستر بالسراويل وقيل إنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه فعجلت له الكسوة أمانا له ليطمئن قلبه وهذا اختيار الحليمي والأول اختيار القرطبي .

                                                                                                                                                                                                        قلت وقد أخرج ابن منده من حديث حيدة بفتح المهملة وسكون التحتانية رفعه قال أول من يكسى إبراهيم يقول الله اكسوا خليلي ليعلم الناس اليوم فضله عليهم . قلت وقد تقدم شيء من هذا في ترجمة إبراهيم من بدء الخلق وإنه لا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام مطلقا وقد ظهر لي الآن أنه يحتمل أن يكون نبينا عليه الصلاة والسلام خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها والحلة التي يكساها حينئذ من حلل الجنة خلعة الكرامة بقرينة إجلاسه على الكرسي عند ساق العرش فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق وأجاب الحليمي بأنه يكسى أولا ثم يكسى نبينا - صلى الله عليه وسلم - على ظاهر الخبر لكن حلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعلى وأكمل فتجبر نفاستها ما فات من الأولية والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        قوله وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال أي إلى جهة النار ووقع ذلك صريحا في حديث أبي هريرة في آخر " باب صفة النار " من طريق عطاء بن يسار عنه ولفظه فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم فقلت إلى أين ؟ قال إلى النار الحديث وبين في حديث أنس الموضع ولفظه " ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني الحديث وفي حديث سهل " ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم وفي حديث أبي هريرة عند مسلم " ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله فأقول يا رب أصحابي ) في رواية أحمد " فلأقولن " وفي رواية أحاديث الأنبياء " أصيحابي " بالتصغير وكذا هو في حديث أنس وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هؤلاء

                                                                                                                                                                                                        قوله فيقول الله إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) في حديث أبي هريرة المذكور " إنهم ارتدوا على أدبارهم [ ص: 393 ] القهقرى " وزاد في رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أيضا فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا أي بعدا بعدا والتأكيد للمبالغة وفي حديث أبي سعيد في " باب صفة النار " أيضا " فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي " وزاد في رواية عطاء بن يسار " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه " ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني " وسنده حسن وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه وزاد فقلت يا رسول الله ادع الله أن لا يجعلني منهم قال لست منهم وسنده حسن

                                                                                                                                                                                                        قوله فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا - إلى قوله - الحكيم ) كذا لأبي ذر وفي رواية غيره زيادة ما دمت فيهم والباقي سواء

                                                                                                                                                                                                        قوله قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ) وقع في رواية الكشميهني " لن يزالوا " ووقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء قال الفربري ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر وقد وصله الإسماعيلي من وجه آخر عن قبيصة . وقال الخطابي : لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين ويدل قوله " أصيحابي " بالتصغير على قلة عددهم وقال غيره قيل هو على ظاهره من الكفر والمراد بأمتي أمة الدعوة لا أمة الإجابة ورجح بقوله في حديث أبي هريرة " فأقول بعدا لهم وسحقا " ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه وهذا يرده قوله في حديث أنس " حتى إذا عرفتهم " وكذا في حديث أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن التين يحتمل أن يكونوا منافقين أو من مرتكبي الكبائر وقيل هم قوم من جفاة الأعراب دخلوا في الإسلام رغبة ورهبة وقال الداودي : لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر والبدع في ذلك وقال النووي قيل هم المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل لكونهم من جملة الأمة فيناديهم من أجل السيما التي عليهم فيقال إنهم بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه .

                                                                                                                                                                                                        قال عياض وغيره وعلى هذا فيذهب عنهم الغرة والتحجيل ويطفأ نورهم وقيل لا يلزم أن تكون عليهم السيما بل يناديهم لما كان يعرف من إسلامهم وقيل هم أصحاب الكبائر والبدع الذين ماتوا على الإسلام وعلى هذا فلا يقطع بدخول هؤلاء النار لجواز أن يذادوا عن الحوض أولا عقوبة لهم ثم يرحموا ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل فعرفهم بالسيما سواء كانوا في زمنه أو بعده ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قال قبيصة راوي الخبر إنهم من ارتد بعده - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما لأنها كرامة يظهر بها عمل المسلم والمرتد قد حبط عمله فقد يكون عرفهم بأعيانهم لا بصفتهم باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضا من كان في زمنه من المنافقين وسيأتي في حديث الشفاعة " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها " فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين فيعرف أعيانهم ولو لم يكن لهم تلك السيما فمن عرف صورته ناداه مستصحبا لحاله التي فارقه عليها في الدنيا وأما دخول أصحاب البدع في ذلك فاستبعد لتعبيره في الخبر بقوله : أصحابي " وأصحاب البدع إنما حدثوا بعده وأجيب بحمل الصحبة على المعنى الأعم واستبعد أيضا أنه لا يقال للمسلم ولو كان مبتدعا سحقا وأجيب بأنه لا يمتنع أن يقال ذلك لمن علم أنه قضي عليه بالتعذيب على معصية ثم ينجو بالشفاعة فيكون قوله سحقا تسليما لأمر الله مع بقاء الرجاء وكذا القول في أصحاب الكبائر .

                                                                                                                                                                                                        وقال البيضاوي ليس قوله " مرتدين " نصا في كونهم ارتدوا عن الإسلام بل يحتمل ذلك ويحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدون عن الاستقامة يبدلون [ ص: 394 ] الأعمال الصالحة بالسيئة انتهى وقد أخرج أبو يعلى بسند حسن عن أبي سعيد " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر حديثا فقال يا أيها الناس إني فرطكم على الحوض فإذا جئتم قال رجل يا رسول الله أنا فلان بن فلان وقال آخر أنا فلان ابن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولعلكم أحدثتم بعدي وارتددتم ولأحمد والبزار نحوه من حديث جابر وسأذكر في آخر " باب صفة النار " ما يحتاج إلى شرحه من ألفاظ الأحاديث التي أشرت إليها إن شاء الله - تعالى -




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية