الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        3379 حدثني محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم قال قتادة قلت لأنس كم كنتم قال ثلاث مائة أو زهاء ثلاث مائة

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني والثالث عن أنس في نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، أورده من أربعة طرق : من رواية قتادة وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة والحسن البصري وحميد ، وتقدم عنده في الطهارة من رواية ثابت كلهم عن أنس وعند بعضهم ما ليس عند بعض ، وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصتان في موطنين للتغاير في عدد من حضر ، وهي مغايرة واضحة يبعد الجمع فيها ، وكذلك تعيين المكان الذي وقع ذلك فيه ; لأن ظاهر رواية الحسن أن ذلك كان في سفر ، بخلاف رواية قتادة فإنها ظاهرة في أنها كانت بالمدينة ، وسيأتي في غير حديث أنس أنها كانت في مواطن أخر . قال عياض : هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر ، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك ، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته . وقال القرطبي : قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة ، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي . قلت : أخذ كلام عياض وتصرف فيه ، قال : ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم . وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق ، وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق ، وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي ، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين ، وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني ، فعدد هؤلاء الصحابة ليس كما يفهم من إطلاقهما ، وأما تكثير الماء يلمسه بيد أو يتفل فيه أو يأمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين ، وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين ، وعن أبي قتادة عند مسلم ، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل " ، وعن زياد بن الحارث الصدائي عنده ، وعن حبان بن بح بضم الموحدة وتشديد المهملة [ ص: 677 ] الصدائي أيضا ، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها . وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددا ، وإن كان شطر طرقه أفرادا . وفي الجملة يستفاد منها الرد على ابن بطال حيث قال : هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس ، وذلك لطول عمره وتطلب الناس العلو في السند انتهى . وهو ينادى عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                        قال القرطبي : ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه ، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال : " نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه ، لأن خروج الماء من الحجارة معهود ، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم " انتهى . وظاهر كلامه أن الماء نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع ، ويؤيده قوله في حديث جابر الآتي " فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه " وأوضح منه ما وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني " فجاءوا بشن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه ثم فرق أصابعه فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل عصا موسى ، فإن الماء تفجر من نفس العصا فتمسكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه ، ويحتمل أن يكون المراد أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي ، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء ، فرآه الرائي نابعا من بين أصابعه ، والأول أبلغ في المعجزة ، وليس في الأخبار ما يرده وهو أولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن سعيد ) هو ابن أبي عروبة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أنس ) لم أره من رواية قتادة إلا معنعنا ، لكن بقية الخبر تدل على أنه سمعه من أنس لقوله : " قلت كم كنتم " لكن أخرجه أبو نعيم في " الدلائل " من طريق مكي بن إبراهيم عن سعيد فقال : " عن قتادة عن الحسن عن أنس " فهذا لو كان محفوظا اقتضى أن في رواية الصحيح انقطاعا ، وليس كذلك لأن مكي بن إبراهيم ممن سمع من سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهو بالزوراء ) بتقديم الزاي على الراء وبالمد مكان معروف بالمدينة عند السوق . وزعم الداودي أنه كان مرتفعا كالمنارة ، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء ، وليس ذلك بلازم ، بل الواقع أن المكان الذي أمر عثمان بالتأذين فيه كان بالزوراء لا أنه الزوراء نفسها ، ووقع في رواية همام عن قتادة عن أنس " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء ، أو عند بيوت المدينة " أخرجه أبو نعيم . وعند أبي نعيم من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أنه هو الذي أحضر الماء ، وأنه أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت أم سلمة ، وأنه رده بعد فراغهم إلى أم سلمة وفيه قدر ما كان فيه أولا . ووقع عنده في رواية عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء ، فأتي من بعض بيوتهم بقدح صغير " ووقع في حديث جابر الآتي التصريح بأن ذلك كان في سفر ففي رواية نبيح العنزي عند أحمد عن جابر قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضرت الصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما في القوم من طهور ؟ فجاء رجل بفضلة في إداوة فصبه في قدح ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن القوم أتوا ببقية الطهور فقالوا : تمسحوا تمسحوا ، [ ص: 678 ] فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : على رسلكم ، فضرب بيده في القدح في جوف الماء ثم قال : أسبغوا الطهور ، قال جابر : فوالذي أذهب بصري لقد رأيت الماء يخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضئوا أجمعون ، قال حسبته قال : كنا مائتين وزيادة وجاء عن جابر قصة أخرى أخرجها مسلم من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب في حديث طويل فيه " أن الماء الذي أحضروه له كان قطرة في إناء من جلد لو أفرغها لشربها يابس الإناء ، وأنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها ، قال فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم وغمز بيده ثم قال : ناد بجفنة الركب فجيء بها ; فقال بيده في الجفنة فبسطها ثم فرق أصابعه ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة فقال : خذ يا جابر فصب علي وقل بسم الله ، ففعلت ، قال : فرأيت الماء يفور من بين أصابعه ، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت ، فأتى الناس فاستقوا حتى رووا ، فرفع يده من الجفنة وهي ملأى " وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم لاشتمالها على قلة الماء وعلى كثرة من استقى منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زهاء ثلاثمائة ) هو بضم الزاي وبالمد أي قدر ثلاثمائة مأخوذة من زهوت الشيء إذا حصرته . ووقع عند الإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث عن سعيد قال : " ثلاثمائة " بالجزم بدون قوله " زهاء " والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية