nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=29وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين .
هذا تأييد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا عند الثقلين ومعظما في العالمين وذلك ما لم يحصل لرسول قبله .
والمقصود من
nindex.php?page=treesubj&link=28797نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر علموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله ، والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم .
ومناسبة ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=28797إيمان الجن ما تقدم من قوله - تعالى -
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=18أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين .
فالجملة معطوفة على جملة واذكر أخا عاد عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا إذ صرفنا بفعل يدل عليه قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=21واذكر أخا عاد [ ص: 58 ] والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفرا من الجن .
وأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون .
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله
nindex.php?page=treesubj&link=31694_28797_28747أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن واختلف المفسرون لهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو بدون علمه . ففي جامع
الترمذي nindex.php?page=hadith&LINKID=2002389عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخلة - اسم موضع - وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا .
وفي الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=hadith&LINKID=2002390افتقدنا النبيء - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فعل به اغتيل أو واستطير فبتنا بشر ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قبل حراء فقال : أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن .
وأيا ما كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - . وقد تقدم قوله - تعالى -
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=130يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي في سورة الأنعام .
والصرف : البعث .
والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله من الجن .
وجملة يستمعون القرآن في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيدا لعاملها وهو " صرفنا " كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا فصار ذلك مؤديا مؤدى المفعول لأجله . فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .
وضمير حضروه عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
و أنصتوا أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماما به لئلا يفوت منه شيء .
[ ص: 59 ] وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال له : استنصت الناس ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002392إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ، أي قالوا كلهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصا على الوعي فنطق بها جميعهم .
و " قضي " مبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبيء - صلى الله عليه وسلم - من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تم مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن فولوا ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه بـ " قومهم " على طريقة المجاز ، نزل منزلة الأنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .
والمنذر : المخبر بخبر مخيف .
ومعنى ولوا إلى قومهم منذرين رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبيء - صلى الله عليه وسلم - يستمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله - تعالى - لمن لا يؤمن بالقرآن .
والتبشير لمن عمل بما جاء به القرآن .
ولا شك أن الله يسر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص .
وجملة قالوا يا قومنا إلى آخرها مبينة لقوله منذرين .
وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس ، وكذلك فعل " قالوا " مجاز عن الإفادة ، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معاني ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله - تعالى - قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم .
وابتدءوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتابا تمهيدا للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرف المخاطبون لما بعد ذلك .
[ ص: 60 ] ووصف الكتاب بأنه أنزل من بعد
موسى دون : أنزل على
محمد - صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التوراة آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن ، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل زبور
داود وإنجيل
عيسى ، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد التوراة فلما نزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ، ولكنه مصدق للتوراة وهاد إلى أزيد مما هدت إليه التوراة .
و ما بين يديه : ما سبقه من الأديان الحق .
ومعنى يهدي إلى الحق : يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله - تعالى - من الصفات وما يستحيل وصفه به .
والمراد بالطريق المستقيم : ما يسلك من الأعمال والمعاملة . وما يترتب على ذلك من الجزاء ، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره .
ويجوز أن يراد بـ " الحق " ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة . ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل ، فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعيها إلى معرفة الحق .
وإعادتهم نداء قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو أجيبوا داعي الله إلى آخره ؛ لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا ، ولأن اختلاف الأغراض وتجدد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله أيها الناس كما وقع في خطبة حجة الوداع . واستعير أجيبوا لمعنى : اعملوا وتقلدوا تشبيها للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني . لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء ، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه .
و " داعي الله " يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى .
nindex.php?page=treesubj&link=28867وأطلق على القرآن داعي الله مجازا لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله ، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه
[ ص: 61 ] داعي الله على طريقة التبعية وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل .
ويجوز أن يكون داعي الله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - لأنه يدعو إلى الله بالقرآن .
وعطف وآمنوا به على أجيبوا داعي الله عطف خاص على عام .
وضمير به عائد إلى الله ، أي وآمنوا بالله ، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم أو عائد إلى داعي الله ، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به ، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام .
و ( من ) في قوله " من ذنوبكم " الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل أجيبوا باعتبار أنه مجاب بفعل " يغفر " ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، فيكون ذلك احترازا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه .
ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة ( من ) في الإثبات كما تزاد في النفي .
وأما ( من ) التي في قوله ويجركم من عذاب أليم فهي لتعدية فعل يجركم لأنه يقال : أجاره من ظلم فلان ، بمعنى منعه وأبعده .
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكا للمعاني وعلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=28797ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك ، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس . وهؤلاء قد نبهوا إليها بصرفهم إلى استماع القرآن ، وهم قد نبهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال - تعالى -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، وقال في خطاب الشيطان
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=85لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجن . وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون .
[ ص: 62 ] واختلفوا في
nindex.php?page=treesubj&link=28797جزاء الجن على الإحسان فقال
أبو حنيفة : ليس للجن ثواب إلا أن يجاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم ، وقال
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى والضحاك : كما يجازون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة . وحكى
الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين
أبي حنيفة ومالك ولم أره لغيره .
وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالم إذا مرت به الآيات يتعين عليه فهمها .
ومعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32فليس بمعجز في الأرض أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه ، فمفعول ( معجز ) مقدر دل عليه المضاف إليه في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31داعي الله أي فليس بمعجز الله ، وقال في سورة الجن
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=12أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه ، أي ناجيا من قدرة الله عليه . والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب .
والمقصود من قوله في الأرض تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معين .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32وليس له من دونه أولياء ، أي لا نصير ينصره على الله ويحميه منه ، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله ، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله . وذكر هذا تعريض للمشركين .
واسم الإشارة في
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32أولئك في ضلال مبين للتنبيه على أن من هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم .
والظرفية المستفادة من
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32في ضلال مبين مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال .
والمبين : الواضح ، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=29وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ .
هَذَا تَأْيِيدٌ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ سَخَّرَ اللَّهُ الْجِنَّ لِلْإِيمَانِ بِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصَدَّقًا عِنْدَ الثَّقَلَيْنِ وَمُعَظَّمًا فِي الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِرَسُولٍ قَبْلَهُ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28797نُزُولِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْجِنِّ تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْجِنَّ وَهُمْ مِنْ عَالَمٍ آخَرَ عَلِمُوا الْقُرْآنَ وَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَالْمُشْرِكُونَ وَهُمْ مِنْ عَالَمِ الْإِنْسِ وَمِنْ جِنْسِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ وَمِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ لَمْ يَزَالُوا فِي رَيْبٍ مِنْهُ وَتَكْذِيبٍ وَإِصْرَارٍ ، فَهَذَا مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ لِأَحْوَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ مَوْعِظَتُهُمْ بِحَالِ مُمَاثَلِيهِمْ فِي الْكُفْرِ مِنْ جِنْسِهِمْ .
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ
nindex.php?page=treesubj&link=28797إِيمَانِ الْجِنِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=18أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ .
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ هُنَا إِذْ صَرَفْنَا بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=21وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [ ص: 58 ] وَالتَّقْدِيرُ : وَاذْكُرْ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ .
وَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِكْرِ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُصَدِّقُونَهُ لِتَسْجِيلِ بُلُوغِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَهْتَدِي وَلِتُكْتَبَ تَبِعَتُهُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ .
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ
nindex.php?page=treesubj&link=31694_28797_28747أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْجِنِّ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْجِنَّ حَضَرُوا بِعِلْمٍ مِنَ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ . فَفِي جَامِعِ
التِّرْمِذِيِّ nindex.php?page=hadith&LINKID=2002389عَنِ nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ ، انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ فَلَمَّا كَانُوا بِنَخْلَةَ - اسْمُ مَوْضِعٍ - وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِيهِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=2002390افْتَقَدْنَا النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقُلْنَا مَا فُعِلَ بِهِ اغْتِيلَ أَوْ وَاسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ فَقَالَ : أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَأَتَيْتُهُمْ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ .
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذَا الْحَادِثُ خَارِقُ عَادَةٍ وَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=130يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
وَالصَّرْفُ : الْبَعْثُ .
وَالنَّفَرُ : عَدَدٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْعِشْرِينَ . وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْجِنِّ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ الْإِنْسِ وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ الْجِنِّ .
وَجُمْلَةُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْجِنِّ وَحَيْثُ كَانَتِ الْحَالُ قَيْدًا لِعَامِلِهَا وَهُوَ " صَرَفْنَا " كَانَ التَّقْدِيرُ : يَسْتَمِعُونَ مِنْكَ إِذَا حَضَرُوا فَصَارَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا مُؤَدَّى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ . فَالْمَعْنَى : صَرَفْنَاهُمْ إِلَيْكَ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ .
وَضَمِيرُ حَضَرُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ حَضَرُوا إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا حَضَرُوا قَارِئَ الْقُرْآنِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَ أَنْصِتُوا أَمْرٌ بِتَوْجِيهِ الْأَسْمَاعِ إِلَى الْكَلَامِ اهْتِمَامًا بِهِ لِئَلَّا يَفُوتَ مِنْهُ شَيْءٌ .
[ ص: 59 ] وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : اسْتَنْصِتِ النَّاسَ ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ فِي خُطْبَتِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2002392إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ ، أَيْ قَالُوا كُلُّهُمْ : أَنْصِتُوا ، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُهَا لِلْبَقِيَّةِ حِرْصًا عَلَى الْوَعْيِ فَنَطَقَ بِهَا جَمِيعُهُمْ .
وَ " قُضِيَ " مَبْنِيٌّ لِلنَّائِبِ . وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ ، أَيْ قُضِيَتْ قِرَاءَتُهُ ، أَيِ انْتَهَى النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقِرَاءَةِ حِينَ حَضَرُوا وَبِانْتِهَائِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ تَمَّ مُرَادُ اللَّهِ مَنْ صَرْفِ الْجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا الْقُرْآنَ فَوَلَّوْا ، أَيِ انْصَرَفُوا مِنْ مَكَانِ الِاسْتِمَاعِ وَرَجَعُوا إِلَى حَيْثُ يَكُونُ جِنْسُهُمْ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ " قَوْمِهِمْ " عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ ، نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْأُنْسِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّبِيهَةِ بِحَالَةِ النَّاسِ ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْمِ عَلَى أُمَّةِ الْجِنِّ نَظِيرُ إِطْلَاقِ النَّفَرِ عَلَى الْفَرِيقِ مِنَ الْجِنِّ الْمَصْرُوفِ إِلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ .
وَالْمُنْذِرُ : الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ مُخِيفٍ .
وَمَعْنَى وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ رَجَعُوا إِلَى بَنِي جِنْسِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي حَضْرَةِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَأَبْلَغُوهُمْ مَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا فِيهِ التَّخْوِيفُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ .
وَالتَّبْشِيرُ لِمَنْ عَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ حُضُورَهُمْ لِقِرَاءَةِ سُورَةٍ جَامِعَةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ كَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ .
وَجُمْلَةُ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِلَى آخِرِهَا مُبَيِّنَةٌ لِقَوْلِهِ مُنْذِرِينَ .
وَحِكَايَةُ تَخَاطُبِ الْجِنِّ بِهَذَا الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مِنْ كَلَامٍ عَرَبِيٍّ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى إِذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لِلْجِنِّ مَعْرِفَةً بِكَلَامِ الْإِنْسِ ، وَكَذَلِكَ فَعْلُ " قَالُوا " مَجَازٌ عَنِ الْإِفَادَةِ ، أَيْ أَفَادُوا جِنْسَهُمْ بِمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِطُرُقِ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهُمْ مَعَانِيَ مَا حُكِيَ بِالْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ .
وَابْتَدَءُوا إِفَادَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كِتَابًا تَمْهِيدًا لِلْغَرَضِ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَوَصْفِهِ لِيَسْتَشْرِفَ الْمُخَاطَبُونَ لِمَا بَعْدَ ذَلِكَ .
[ ص: 60 ] وَوَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ
مُوسَى دُونَ : أُنْزِلَ عَلَى
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ آخِرُ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ نَزَلَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بَعْدَهُ فَكُتُبٌ مُكَمِّلَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَمُبَيِّنَةٌ لَهَا مِثْلُ زَبُورِ
دَاوُدَ وَإِنْجِيلِ
عِيسَى ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ التَّوْرَاةِ فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ جَاءَ بِهَدْيٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْهُ بَيَانُ التَّوْرَاةِ ، وَلَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ وَهَادٍ إِلَى أَزْيَدَ مِمَّا هَدَتْ إِلَيْهِ التَّوْرَاةُ .
وَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ : مَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ الْحَقِّ .
وَمَعْنَى يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ : يَهْدِي إِلَى الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ ضِدَّ الْبَاطِلِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنَ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِهِ .
وَالْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ : مَا يُسْلَكُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمُعَامَلَةِ . وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ عَنِ الْقَصْدِ مِنْ سَيْرِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِـ " الْحَقِّ " مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ . وَيُرَادُ بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ وَتَزْيِيفِ الْبَاطِلِ ، فَإِنَّهَا كَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِبْلَاغِ مُتَّبِعِيهَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ .
وَإِعَادَتُهُمْ نِدَاءَ قَوْمِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى قَوْمِهِمْ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامُ قَوْمِهِمْ بِمَا لَقُوا مِنْ عَجِيبِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِهَذَا ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَغْرَاضِ وَتَجَدُّدَ الْغَرَضِ مِمَّا يَقْتَضِي إِعَادَةَ مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ كَمَا يُعِيدُ الْخَطِيبُ قَوْلَهُ أَيُّهَا النَّاسُ كَمَا وَقَعَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ . وَاسْتُعِيرَ أَجِيبُوا لِمَعْنَى : اعْمَلُوا وَتَقَلَّدُوا تَشْبِيهًا لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِإِجَابَةِ نِدَاءِ الْمُنَادِي كَمَا فِي الْآيَةِ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أَيْ إِلَّا أَنْ أَمَرْتُكُمْ فَأَطَعْتُمُونِي . لِأَنَّ قَوْمَهُمْ لَمْ يَدْعُهُمْ دَاعٍ إِلَى شَيْءٍ ، أَيْ أَطِيعُوا مَا طُلِبَ مِنْكُمْ أَنْ تَعْمَلُوهُ .
وَ " دَاعِيَ اللَّهِ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى .
nindex.php?page=treesubj&link=28867وَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ دَاعِيَ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى طَلَبِ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِ اللَّهِ ، فَشُبِهَ ذَلِكَ بِدُعَاءٍ إِلَى اللَّهِ وَاشْتُقَّ مِنْهُ وَصْفٌ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ
[ ص: 61 ] دَاعِيَ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لِاسْتِعَارَةِ الْإِجَابَةِ لِمَعْنَى الْعَمَلِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَ اللَّهِ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِالْقُرْآنِ .
وَعَطْفُ وَآمِنُوا بِهِ عَلَى أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ .
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ ، أَيْ وَآمِنُوا بِاللَّهِ ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ مَعَ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أَوْ عَائِدٌ إِلَى دَاعِيَ اللَّهِ ، أَيْ آمِنُوا بِمَا فِيهِ أَوْ آمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجِنَّ مَأْمُورُونَ بِالْإِسْلَامِ .
وَ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ " مِنْ ذُنُوبِكُمْ " الْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ فَتَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ أَجِيبُوا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُجَابٌ بِفِعْلِ " يَغْفِرْ " ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً ، أَيْ : يَغْفِرْ لَكُمْ بَعْضَ ذُنُوبِكُمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ احْتِرَازًا فِي الْوَعْدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَقَّقُوا تَفْصِيلَ مَا يُغْفَرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا لَا يُغْفَرُ إِذْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحِيطُوا بِمَا فِيهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ عَلَى رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يَرَوْنَ زِيَادَةَ ( مِنْ ) فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا تُزَادُ فِي النَّفْيِ .
وَأَمَّا ( مِنْ ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فَهِيَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ يُجِرْكُمْ لِأَنَّهُ يُقَالُ : أَجَارَهُ مِنْ ظُلْمِ فُلَانٍ ، بِمَعْنَى مَنَعَهُ وَأَبْعَدَهُ .
وَحِكَايَةُ اللَّهِ هَذَا عَنِ الْجِنِّ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالُوهُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْجِنِّ إِدْرَاكًا لِلْمَعَانِي وَعَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28797مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَاجِبٌ عَلَى الْجِنِّ اعْتِقَادُهُ لِأَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ بِالْإِلَهِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ هُوَ الْإِدْرَاكُ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْمُدْرَكَاتِ إِذَا تَوَجَّهَتْ مَدَارِكُهُمْ إِلَيْهَا أَوْ إِذَا نُبِّهُوا إِلَيْهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ إِبْلِيسَ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ نُبِّهُوا إِلَيْهَا بِصَرْفِهِمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ ، وَهُمْ قَدْ نَبَّهُوا قَوْمَهُمْ إِلَيْهَا بِإِبْلَاغِ مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى حَسَبِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَرَتَّبُ الْجَزَاءُ بِالْعِقَابِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، وَقَالَ فِي خِطَابِ الشَّيْطَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=85لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ لَائِقَةٍ بِجِنْسِ الْجِنِّ . وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ مُؤَاخَذُونَ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ .
[ ص: 62 ] وَاخْتَلَفُوا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28797جَزَاءِ الْجِنِّ عَلَى الْإِحْسَانِ فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْجِنِّ ثَوَابٌ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنْ عَذَابِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ ، وَقَالَ
مَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=12526وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالضَّحَّاكُ : كَمَا يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِسَاءَةِ يُجَازَوْنَ عَلَى الْإِحْسَانِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ . وَحَكَى
الْفَخْرُ أَنَّ مُنَاظَرَةً جَرَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا جَدْوَى لَهَا وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا مَرَّتْ بِهِ الْآيَاتُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَهْمُهَا .
وَمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْ عِقَابِ اللَّهِ عَلَى عَدَمِ إِجَابَتِهِ دَاعِيَهُ ، فَمَفْعُولُ ( مُعْجِزٍ ) مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31دَاعِيَ اللَّهِ أَيْ فَلَيْسَ بِمُعْجِزِ اللَّهِ ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=12أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا وَهُوَ نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ يَعْجِزُ طَالِبُهُ ، أَيْ نَاجِيًا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ . وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعِقَابِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ فَجَرَى عَلَى أُسْلُوبِ اسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَّا فَإِنَّ مَكَانَ الْجِنِّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ .
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ ، أَيْ لَا نَصِيرَ يَنْصُرُهُ عَلَى اللَّهِ وَيَحْمِيهِ مِنْهُ ، فَهُوَ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى النَّجَاةِ بِالِاسْتِعْصَامِ بِمَكَانٍ لَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ قُدْرَةُ اللَّهِ ، وَلَا بِالِاحْتِمَاءِ بِمَنْ يَسْتَطِيعُ حِمَايَتَهُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ . وَذِكْرُ هَذَا تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ .
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالَهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْحُكْمِ لِتَسَبُّبِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ .
وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=32فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ مَجَازِيَّةٌ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ تَلَبُّسِهِمْ بِالضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ فِي وِعَاءٍ هُوَ الضَّلَالُ .
وَالْمُبِينُ : الْوَاضِحُ ، لِأَنَّهُ ضَلَالٌ قَامَتِ الْحُجَجُ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ .