الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      قد اتضح من هذه الأدلة التي سقناها ، أن الظهر لا يمتد لها وقت إلى الغروب ، وأن المغرب لا يمتد لها وقت إلى الفجر ، ولكن يتعين حمل هذا الوقت المنفي بالأدلة [ ص: 292 ] على الوقت الاختياري ، فلا ينافي امتداد وقت الظهر الضروري إلى الغروب ، ووقت المغرب الضروري إلى الفجر ، كما قاله مالك رحمه الله لقيام الأدلة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت عند الضرورة ، وكذلك المغرب والعشاء ، وأوضح دليل على ذلك جواز كل من جمع التقديم ، وجمع التأخير في السفر ، فصلاة العصر مع الظهر عند زوال الشمس دليل على اشتراكها مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وصلاة الظهر بعد خروج وقتها في وقت العصر في جمع التأخير دليل على اشتراكها معها في وقتها عند الضرورة أيضا ، وكذلك المغرب والعشاء ، أما جمع التأخير بحيث يصلي الظهر في وقت العصر والمغرب في وقت العشاء ، فهو ثابت في الروايات المتفق عليها . فقد أخرج البخاري في " صحيحه " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم يجمع بينهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قوله : ثم يجمع بينهما ، أي : في وقت العصر ، وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده " ثم نزل فجمع بينهما " ، ولمسلم من رواية جابر بن إسماعيل ، عن عقيل : " يؤخر الظهر إلى وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق " وله من رواية شبابة ، عن عقيل : " حتى يدخل أول وقت العصر ، ثم يجمع بينهما " . اهـ . منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء " ، ولا يمكن حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ; لأن الروايات الصحيحة التي ذكرنا آنفا فيها التصريح بأنه صلى الظهر في وقت العصر ، والمغرب بعد غيبوبة الشفق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ، وموسى بن عقبة ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ، وعمر بن محمد بن زيد ، عن نافع ، على أن جمع ابن عمر بين الصلاتين كان بعد غيبوبة الشفق ، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع ، ثم قال بعد هذا بقليل ، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب ، فقد رواه سالم بن عبد الله ، وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار ، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب ، وقيل ابن ذؤيب عن ابن عمر نحو روايتهم ، ثم ساق البيهقي أسانيد رواياتهم ، وأما جمع التقديم بحيث يصلي العصر عند زوال الشمس مع الظهر في أول وقتها ، والعشاء مع المغرب عند غروب الشمس في أول وقتها ، فهو [ ص: 293 ] ثابت أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - وإن أنكره من أنكره من العلماء ، وحاول تضعيف أحاديثه ، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحاديث منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل في الحج " ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا " ، وكان ذلك بعد الزوال ، فهذا حديث صحيح فيه التصريح بأنه صلى العصر مقدمة مع الظهر بعد الزوال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو داود ، وأحمد ، والترمذي ، وقال : حسن غريب ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن معاذ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء ، فصلاها مع المغرب " ، وإبطال جمع التقديم بتضعيف هذا الحديث ، كما حاوله الحاكم ، وابن حزم لا عبرة به لما رأيت آنفا من أن جمع التقديم ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما " رواه أحمد ، ورواه الشافعي في مسنده بنحوه ، وقال فيه : " إذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر " ورواه البيهقي ، والدارقطني ، وروي عن الترمذي أنه حسنه .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : حديث معاذ معلول بتفرد قتيبة فيه ، عن الحفاظ ، وبأنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، ولا يعرف له منه سماع ، كما قاله ابن حزم ، وبأن في إسناده أبا الطفيل وهو مقدوح فيه بأنه كان حامل راية المختار بن أبي عبيد ، وهو يؤمن بالرجعة ، وبأن الحاكم قال : هو موضوع ، وبأن أبا داود قال : ليس في جمع التقديم حديث قائم ، وحديث ابن عباس في إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ، فالجواب أن إعلاله بتفرد قتيبة به مردود من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن قتيبة بن سعيد رحمه الله تعالى بالمكانة المعروفة له من العدالة [ ص: 294 ] والضبط والإتقان ، وهذا الذي رواه لم يخالف فيه غيره ، بل زاد ما لم يذكره غيره ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد تقرر في علم الحديث أن زيادات العدول مقبولة لا سيما وهذه الزيادة التي هي جمع التقديم ، تقدم ثبوتها في صحيح مسلم من حديث جابر ، وسيأتي إن شاء الله أيضا أنها صحت من حديث أنس .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن قتيبة لم يتفرد به بل تابعه فيه المفضل بن فضالة ، قال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره ، فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجل من المفضل ، وأحفظ لكن زال تفرد قتيبة به اهـ . منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ، قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنبأنا أبو بكر بن داسة ، حدثنا أبو داود ، ثم ساق السند المتقدم آنفا ، أعني سند أبي داود الذي ساقه ابن القيم ، والمتن فيه التصريح بجمع التقديم ، وكذلك رواه النسائي والدارقطني ، كما قاله ابن حجر في " التلخيص " ، فاتضح أن قتيبة لم يتفرد بهذا الحديث ; لأن أبا داود والنسائي والدارقطني والبيهقي ، أخرجوه من طريق أخرى متابعة لرواية قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " التخليص " : إن في سند هذه الطريق هشام بن سعد وهو لين الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : هشام بن سعد المذكور من رجال مسلم وأخرج له البخاري تعليقا وبه تعلم صحة طريق المفضل المتابعة لطريق قتيبة ، ولذا قال البيهقي في " السنن الكبرى " قال الشيخ ، وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل ، فهي محفوظة صحيحة ، واعلم أنه لا يخفى أن ما يروى عن البخاري رحمه الله من أنه سأل قتيبة عمن كتب معه هذا الحديث عن الليث بن سعد فقال : كتبه معي خالد المدائني ، فقال البخاري : كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ يعني ، يدخل في روايتهم ما ليس منها ، أنه لا يظهر كونه قادحا في رواية قتيبة ; لأن العدل الضابط لا يضره أخذ آلاف الكذابين معه ; لأنه إنما يحدث بما علمه ولا يضره كذب غيره كما هو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      والجواب عما قاله ابن حزم من أنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا [ ص: 295 ] يعرف له منه سماع من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن العنعنة ونحوها لها حكم التصريح بالتحديث عند المحدثين إلا إذا كان المعنعن مدلسا ، ويزيد بن أبي حبيب : قال فيه الذهبي في " تذكرة الحفاظ " كان حجة حافظا للحديث وذكر من جملة من روى عنهم أبا الطفيل المذكور ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ثقة فقيه ، وكان يرسل ومعلوم أن الإرسال غير التدليس ; لأن الإرسال في اصطلاح المحدثين هو رفع التابعي مطلقا أو الكبير خاصة الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل إسقاط راو مطلقا ، وهو قول الأصوليين فالإرسال مقطوع فيه بحذف الواسطة بخلاف التدليس ، فإن تدليس الإسناد يحذف فيه الراوي شيخه المباشر له ويسند إلى شيخ شيخه المعاصر بلفظ محتمل للسماع مباشرة وبواسطة ، نحو عن فلان وقال فلان فلا يقطع فيه بنفي الواسطة بل هو يوهم الاتصال ; لأنه لا بد فيه من معاصرة من أسند إليه أعني : شيخ شيخه ، وإلا كان منقطعا كما هو معروف في علوم الحديث وقول ابن حزم لم يعرف له منه سماع ليس بقادح ; لأن المعاصرة تكفي ولا يشترط ثبوت اللقى وأحرى ثبوت السماع فمسلم بن الحجاج لا يشترط في " صحيحه " إلا المعاصرة فلا يشترط اللقى وأحرى السماع وإنما اشترط اللقى البخاري ، قال العراقي في " ألفيته " : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وصححوا وصل معنعن سلم من دلسة راويه واللقا علم     وبعضهم حكى بذا إجماعا
                                                                                                                                                                                                                                      ومسلم لم يشرط اجتماعا

                                                                                                                                                                                                                                      لكن تعاصروا . . . إلخ

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية