الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      قد ذكرت فيما كتبته من المناسك : أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه ، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين . فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة ، كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن قال :

                                                                                                                                                                                                                                      والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين ، لم يقل أحد من أئمة [ ص: 345 ] المسلمين : إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده ، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور .

                                                                                                                                                                                                                                      إلى أن قال :

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة ، فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين ، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة ، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ، مسجده وغير مسجده ، وعند الخروج منه ; فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      والسفر إلى مسجده مشروع ، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره ، حين كره مالك - رحمه الله - أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده ، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان هذا كلامه ، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية . إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - مشروع وإن كان يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ويسلم عليه ، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد . فلا موجب لهذا النقاش ، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه ، إذ يقول في ج 27 ص 342 من المجموع ، ما نصه :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 346 ] فمن سافر إلى المسجد الحرام ، أو المسجد الأقصى ، أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء ، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أنكر هذا السفر ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا يسلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع ضال ، مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولإجماع أصحابه ، ولعلماء الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم . والثاني : أنه لا شيء عليه ، ولا أجر له .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين . إلى أن قال : وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول ، فإن كان في قوله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع . . إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن من المسلمين يجيز لمسلم : أن يشد رحله إلى المدينة ; لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ودون أن يصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      فدل كلامه أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ، ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع . والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وصرح في موضع آخر ص 346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد أربعة أقوال . الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا - عليه الصلاة والسلام - .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في التعليل لهذا القول : إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده [ ص: 347 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي ، إلى أن قال : وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم ، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد نقله لأقوال العلماء ، قال ما نصه :

                                                                                                                                                                                                                                      وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر ، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة ، يثاب عليها بالصلاة في مسجده .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نفس القصد ، فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده ، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا غاية في التصريح منه أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه ، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أكثرنا النقول عنه ; لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس ، حتى قال ابن حجر في فتح الباري فيها : وهذا أعظم ما أخذ على ابن تيمية ، فهي وإن كانت شهادة من ابن حجر أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع ، إلا أنها - بحمد الله - بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه ، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله فلم يترك جانبا إلا وبينه ، سواء في حق العالم أو الجاهل . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى المدينة المنورة للمسجد وللزيارة معا ، على التفصيل المتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة ، فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك ، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط ، أيا كانت تلك البقعة أو [ ص: 348 ] كانت تلك العبادة . وذلك لحديث أبي هريرة في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة ، قال : " خرجت إلى الطور ، فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق آدم وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس ; شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال كعب : ذلك في كل سنة يوم . فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور . فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس " يشك أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الباجي : على هذا الحديث : خروج أبي هريرة إلى الطور يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه ، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه ، إلا أن قول بصرة : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت . دليل على أن فهم منه التقرب بقصده . وسكوت أبي هريرة حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده . أقول : لقد صرح أبو هريرة أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد لأحمد عن شهر ، وقال : حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد البصرة أو الكوفة أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه ; لحديث بصرة المنصوص في ذلك ، وذلك أن النذر يكون فيما فيه القربة . ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض ، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة ; فإنها تختص بالفضيلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء [ ص: 349 ] بنذره ; لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها ، بل قد اقترن بذلك الرباط ، فوجب الوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة ، إلا ما قاله محمد بن مسلمة في المبسوط . فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو مسجد قباء ، فقال : من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل مقصد محمد بن مسلمة في إضافته مسجد قباء ، العمل بما جاء في مسجد قباء من أثر اختص به عن أنس بن مالك فيما رواه عمر بن شبة ، قال : حدثنا سويد بن سعيد ، قال : حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      وكان هذا الحكم معلوما عند العامة ، حتى قال ابن شبة : قال أبو غسان : ومما يقوي هذه الأخبار ، ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة ، قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :

                                                                                                                                                                                                                                      فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء .

                                                                                                                                                                                                                                      من اللاتي سوالفهن غيد عليهن الملاحة بالبهاء



                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      إن قول أنس ليشعر بجواز شد الرحل إلى قباء لو كان بعيدا ، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى ، فلا يتعارض مع الحديث الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين لقباء ، واجتماع الرجال والنساء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 350 ] تنبيه ثالث .

                                                                                                                                                                                                                                      يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين زيارة عموم المقابر لعامة الناس ، وخصوص زيارة القبور الثلاثة . إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها ، وتذكر الآخرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة " .

                                                                                                                                                                                                                                      أما هذه الثلاثة المشرفة ، فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها :

                                                                                                                                                                                                                                      أولا : ومن حيث الموضوع : ارتباطها بالمسجد النبوي أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها .

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيا : عظيم حق من فيها على المسلمين ، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب ، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ، وهداية الأمة ، والقيام بأمر الله ، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه ، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء ، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له .

                                                                                                                                                                                                                                      ثالثا : عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن يرد الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - روحه فيرد عليه السلام ، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر . وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية