الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الرابعة : اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين ، فقال قوم : يجوز المسح على النعلين وخالف في ذلك جمهور العلماء ، واستدل القائلون بالمسح على [ ص: 342 ] النعلين بأحاديث ، منها ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبي قيس الأودي ، هو عبد الرحمن بن ثروان ، عن هزيل بن شرحبيل ، عن المغيرة بن شعبة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح الجوربين والنعلين " ، قال أبو داود : وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ، وروى هذا الحديث البيهقي .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : قال أبو محمد : رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر ، وقال أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل : لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة ، فقالوا : مسح على الخفين ، وقال : لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل ، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي ، فسمعته يقول : علي بن شيبان يقول : سمعت أبا قدامة السرخسي يقول : قال عبد الرحمن بن مهدي : قلت لسفيان الثوري : لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك ، فقال سفيان : الحديث ضعيف أو واه ، أو كلمة نحوها ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث ، فقال أبي : ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس ، قال أبي : إن عبد الرحمن بن مهدي ، يقول : هو منكر ، وروى البيهقي أيضا عن علي بن المديني أنه قال : حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة ، إلا أنه قال : ومسح على الجوربين ، وخالف الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أيضا عن يحيى بن معين ، أنه قال في هذا الحديث : الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ، ثم ذكر أيضا ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ، وقال أبو داود : وروي هذا الحديث أيضا عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بالقوي ولا بالمتصل ، وبين البيهقي مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي ، فعدم اتصاله ، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن ، قال البيهقي : والضحاك بن عبد الرحمن : لم يثبت سماعه من أبي موسى ، وعدم قوته ; لأن في إسناده عيسى بن سنان ، قال البيهقي : وعيسى بن سنان ضعيف ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 343 ] وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لين الحديث ، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين ، قالوا : أخرجه أبو داود ، وسكت عنه ، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن ، قالوا : وصححه ابن حبان ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، قالوا : وأبو قيس وثقه ابن معين ، وقال العجلي : ثقة ثبت ، وهزيل وثقه العجلي ، وأخرج لهما معا البخاري في صحيحه ، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة ، بل رويا أمرا زائدا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض ، فيحمل على أنهما حديثان قالوا : ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى ، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه ; ولأن عبد الغني قال في " الكمال " : سمع الضحاك من أبي موسى ، قالوا : وعيسى بن سنان ، وثقه ابن معين وضعفه غيره ، وقد أخرج الترمذي في " الجنائز " حديثا في سنده عيسى بن سنان هذا ، وحسنه .

                                                                                                                                                                                                                                      ويعتضد الحديث المذكور أيضا بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج قال له : يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ، قال : ما هن ؟ فذكرهن ، وقال فيهن : رأيتك تلبس النعال السبتية ، قال : أما النعال السبتية ، " فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي ، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده : ورواه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف عن مالك ، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، ورواه جماعة عن سعيد المقبري ، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري ، فزاد فيه : ويمسح عليها ; وهو محل الشاهد ، قال البيهقي : وهذه الزيادة وإن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما ، فقد يغسلهما في النعل ، ويمسح عليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب ، قال : بال علي ، وهو قائم ثم توضأ ، ومسح على النعلين ، ثم قال : وبإسناده قال : حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي ظبيان ، قال : " بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم خرج فصلى الظهر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي أيضا نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر ، ويعتضد الاستدلال المذكور [ ص: 344 ] بما رواه البيهقي أيضا من طريق رواد بن الجراح ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ، ومسح على نعليه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : هكذا رواه رواد بن الجراح ، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها ، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا ، وليس بمحفوظ ، ثم قال : أخبرنا أبو الحسن بن عبدان ، أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني ، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي ، حدثني أبي ، ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان فذكره بإسناده : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على النعلين " ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي بعد أن ساقه : والصحيح رواية الجماعة ، ورواه عبد العزيز الدراوردي ، وهشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، فحكيا في الحديث : " رشا على الرجل وفيها النعل " ، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد رواه سليمان بن بلال ، ومحمد بن عجلان ، وورقاء بن عمر ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، فحكوا في الحديث غسله رجليه ، والحديث حديث واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير ، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه ، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا بما رواه البيهقي أيضا ، أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا مسدد ، وعباد بن موسى ، قالا : ثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، قال عباد : قال : أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مسدد : إنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء ، عن أوس الثقفي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه " وهو منقطع ، أخبرناه أبو بكر بن فورك ، أنا عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود الطيالسي ، ثنا حماد بن سلمة ، فذكره .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الإسناد غير قوي ، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول ، اهـ كلام البيهقي .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج [ ص: 345 ] به ، ومنها ما معناه عنده : " أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه في النعلين " .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر ، الثابت في الصحيحين ، أنه قال : " أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها " اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر " ويتوضأ " فيها أنه يغسل رجليه فيها ، وقد علمت أنا قدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان ، عن المقبري ، وفيها زيادة " ويمسح عليها " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال البيهقي - رحمه الله - في منع المسح على النعلين والجوربين : والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة ، أو إجماع لا يختلف فيه ، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : إن الترمذي صحح المسح على الجوربين والنعلين ، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة ، وحسنه أيضا من حديث الضحاك عن أبي موسى ، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس ، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب ، عن الثوري في المسح على النعلين ، حديث جيد قالوا : وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ، ويمسح عليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقول : " كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل "
                                                                                                                                                                                                                                      ، وصححه ابن القطان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حزم : المنع من المسح على الجوربين خطأ ، لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاف الآثار . هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين ، أن [ ص: 346 ] الجوربين ملصقان بالنعلين ، بحيث يكون المجموع ساترا لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه ، والجوربان صفيقان فلا إشكال .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما ، ففي النفس منه شيء ; لأنه حينئذ لم يغسل رجله ، ولم يمسح على ساتر لها ، فلم يأت بالأصل ، ولا بالبدل .

                                                                                                                                                                                                                                      والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويل للأعقاب من النار " ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية