الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلا بالسنة على [ ص: 522 ] الأربعة المذكورة في الآيات ، كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ، أو زيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين ، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، غير ظاهر عندي ; لوضوح الفرق بين الأمرين ; لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، في الأول ، وآية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية ، في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات ، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء ; لأن الزيادة على النص ليست نسخا له عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين ; لأن الزيادة عنده نسخ ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد ; لأنه قطعي المتن وليست كذلك ، أما زيادة محرم آخر على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية ، فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول ، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن ; لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة ، وبين الأمرين فرق واضح ، وبه تعلم أن مالكا - رحمه الله - ليس ممن يقول : بأن الزيادة على النص نسخ ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيا بالنص قبلها ، فكونها إذن ناسخة واضح ، وهناك نظر آخر ، قال به بعض العلماء : وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي ; لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل ، كما قاله جمع من أهل الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت إباحته عقلية : فرفعها ليس بنسخ حتى يشترط في ناسخها التواتر ، وعن ابن كثير في " تفسيره " هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : وكونه نسخا أظهر عندي ; لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعا ، فتكون إباحة شرعية ; لدلالة القرآن عليها ، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف ، وأشار في " مراقي السعود " إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخا بقوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا قول جمهور العلماء ، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد ، وما لا ينافي لا يكون [ ص: 523 ] ناسخا ، وهو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن مالك بن أنس - رحمه الله - اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع ، فروي عنه أنها حرام ، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في " الموطأ " ; لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع " ، ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " ، ثم قال : وهو الأمر عندنا ، وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها ، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه ، وروي عنه أيضا أنها مكروهة ، وهو ظاهر " المدونة " ، وهو المشهور عند أهل مذهبه ، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا ، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها .

                                                                                                                                                                                                                                      وما روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة من إباحتها ، وهو قول الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور : من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام ، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات ، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن ; لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قرر العلماء : أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما ; لاحتمال صدق كل منهما في وقتها ، وقد اشترط عامة النظار في التناقض اتحاد الزمان ; لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها ، كما لو قلت : لم يستقبل بيت المقدس ، قد استقبل بيت المقدس ، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ ، وبالثانية ما قبله ، فكلتاهما تكون صادقة ، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه : يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف ، أعني الإيجاب والسلب ، من زمان ، ومكان ، وشرط ، وإضافة ، وقوة ، وفعل ، وتحصيل ، وعدول ، وموضوع ، ومحمول ، وجزء ، وكل ، بقولي : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول

                                                                                                                                                                                                                                      فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراما غير الأربعة المذكورة ، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك ، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد ، فذلك لا ينافي الحصر [ ص: 524 ] الأول لتجدده بعده ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن منعه أكثر أهل الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت ذلك : فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا ، وأقوال العلماء فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك كل ذي ناب من السباع ، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها ، وتحريمها ، أما حديث أبي ثعلبة فمتفق عليه ، وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " كل ذي ناب من السباع ، فأكله حرام " .

                                                                                                                                                                                                                                      والأحاديث في الباب كثيرة ، وبه تعلم أن التحقيق : هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه ، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم : أنه لم يثبت النهي عنه - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن كل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير " . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلا منهما ذو عداء وافتراس ، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      والأصل في النهي التحريم ، وبتحريم ذي الناب من السباع ، وذي المخلب من الطير ، قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع ، وأن مشهور مذهبه الكراهة ، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها ، والحق التحريم لما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك الحمر الأهلية ، فالتحقيق أيضا أنها حرام ، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف ; لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها ، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، وعبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وأنس ، وأبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنهم - وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم ، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري ، ومسلم : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية " ، وهذا صريح صراحة [ ص: 525 ] تامة في التحريم ، ولفظ حديث أنس عندهما أيضا : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " ، وفي رواية لمسلم : " فإنها رجس من عمل الشيطان " ، وفي رواية له أيضا : " فإنها رجس " أو " نجس " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه : حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لحوم الحمر الأهلية رجس ، صريح في تحريم أكلها ، ونجاسة لحمها ، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها ، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني - رضي الله عنه - قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أصابتنا السنة ، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والجوال : جمع جالة ، وهي التي تأكل الجلة ، وهي في الأصل البعر ، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النووي في " شرح المهذب " : اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطابي ، والبيهقي : هو حديث يختلف في إسناده ، يعنون مضطربا ، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضا ; لما رواه أحمد ، والترمذي من حديث جابر ، قال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر ، لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " ، أصل حديث جابر هذا في " الصحيحين " كما تقدم ، وهو بهذا اللفظ ، بسند لا بأس به . قاله ابن حجر والشوكاني .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير " في تفسيره " : وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : " ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمر ، ولم ينهنا عن الخيل " ، وهو دليل واضح على تحريم البغال ، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعا ; لصحة النصوص بتحريمها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية