الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا هذا رفض آخر للعود في ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد معطوف على مناسبه ، والتعبير يدل على نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي الفعل ؛ لأنه نفي له بالدليل ، وهو كونه غير مستطاع ولا جار على سنن الله في الاجتماع ، والمعنى : ليس من شأننا أن نعود فيها في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله ربنا المتصرف في جميع شئوننا ، فهو وحده القادر على ذلك لا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن أيضا ؛ لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة ضارة مفسدة ، وملتنا هي الحق التي بها صلاح الناس وعمران الأرض ، والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره ، وإنما ذلك بيد مقلب القلوب سبحانه ، ورهن مشيئته وسع ربنا كل شيء علما فعنده من العلم بأسباب الإيمان والكفر والهدى والضلال والصلاح والفساد ما ليس عندكم ، ولا عند أحد من الخلق ، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه ، ومما كان يعلمه عليه السلام من حكمته تعالى وسننه في خلقه أنه يقيم حجته بأهل الحق على أهل الباطل ، وينصرهم عليهم بالقول والفعل ما داموا ناصرين له ، وقائمين بما هداهم إليه منه ، فكأنه يقول لهم : إذا كان الأمر كذلك فلا تطمعوا إذا أن يشاء ربنا الحفي بنا عودتنا في ملتكم بعد إذ نجانا بفضله منها ، وأقام الحجة عليكم بنا ، وما كان تعالى ليدحض حجته ويبطل سنته .

                          فهذا الاستثناء موئس للملأ من قوم شعيب من عودته عليه السلام مع من آمن معه في ملتهم ؛ لأنه بعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم [ ص: 7 ] ولا مما يجيء من قبلهم في حال ما من الأحوال التي تطرأ عليهم كالترغيب والترهيب والرجاء في المنافع والخوف من المضار ، ومنها الإخراج من الديار ، واستثنى حالا واحدة وهي مشيئة الله تعالى وحده ، فدل على عموم النفي فيما عدا المستثنى ، وقد يستعمل لتوكيده من غير ملاحظة لمتعلق المشيئة هل هو ممكن يجوز أن يقع أم لا ؟ كقوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ( 87 : 6 ، 7 ) أو للتنبيه على النفي بكرم الله وفضله لا بالإيجاب عليه ، وهو الوجه الذي اختاره شيخنا رحمه الله تعالى في تفسير سورة الأعلى ، ولا يخل بتوكيد عموم النفي جواز تعلق المشيئة بالنفي في كلام شعيب عليه السلام ، والقرائن اللفظية والمعنوية تدل على عدم وقوع هذا الجائز ، وهو أنه تعالى لا يشاء عودته مع من آمن معه في ملة قومهم ، فهو قد قرر أن هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فطلبه من غيره عبث ، يؤكده ذكر الرب مضافا إلى ضمير المتكلم ومن معه ، فأفاد بدلالة الالتزام أو الاقتضاء أنه لا يشاء لهم إلا ما عودهم بحسن تربيته إياهم ، ولطفه وعنايته بهم ؛ إذ أنجاهم من تلك الملة الباطلة ، وهو تأييد عصمة رسولهم وحفظ جماعتهم من العود فيها ، فكان هذا بمعنى قول عبد أمين أراد أن يغويه بعض المغوين ، ويغريه بخيانة سيده الحفي به ، وصرف بعض ماله فيما يضره هو ، ويفسد عليه نفسه : ليس هذا من شأني ، ولا مما يدخل في تصرفي إلا أن يشاء سيدي الصالح المصلح المعتني بشأني ، وهو أعلم مني بأمري . فالتعبير ليس مسوقا لتقرير حجة الأشاعرة على جواز مشيئة الله لكفرهم بالفعل ، ولا حجة المعتزلة على وجوب رعاية الصلاح والأصلح لهم ، ولغيرهم بالعقل ، ولكنه يدل بطريق الالتزام على ما ذكرنا من عناية الرب سبحانه وتعالى برسله وأتباعهم المستقيمين على دينهم ومضي سنته ووعده بتأييدهم المصرح به في آيات أخرى كقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( 40 : 51 ) وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ( 37 : 171 - 173 ) فهو لن يشاء كفرهم بالفعل ، بل يختار لهم الأصلح بحكمته وفضله لا بإيجاب العقل .

                          وقد روى ابن جرير وغيره عن : السدي ، أنه قال في الآية : وما كان ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله إلا أن يشاء الله ربنا ، والله لا يشاء الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئا فإنه وسع كل شيء علما ا هـ ، ولعله يريد أنه لا يشاء ذلك ؛ لأنه مخالف لسنته الحكيمة وفضله العظيم على رسله ومن آمن بهم ، وإن كان لا يقع من أهل الشقاء بسوء اختيارهم إلا بإرادته ومقتضى سنته ، وسننه في الفريقين مختلفة كما شرحناه مرارا .

                          وقد سبق مثل هذا الاستثناء في سورة الأنعام ، حكاية عن إبراهيم الخليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذ قال لقومه : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ( 6 : 80 ) [ ص: 8 ] وقد اخترنا هنالك أنه استثناء من عموم الأوقات ، وأنه منقطع معناه : لكن إن شاء ربي أن يصيبني في وقت من الأوقات مكروه من قبل ما تشركون به كوقوع صنم علي يشجني ، فإنه يقع بقدرته تنفيذا لمشيئته ، لا بقدرة شركائكم ولا بمشيئتهم ؛ لأنهم لا قدرة لهم ولا مشيئة ، ثم علل ذلك بمثل ما علله به بعده شعيب عليهما الصلاة والسلام ، وعلى نبينا وآله فقال : وسع ربي كل شيء علما أي : ومعبوداتكم لا تعلم شيئا إلخ ، واخترنا هنا جعل الاستثناء من أعم الأحوال لا الأوقات ، وإن جاز الجمع بينهما ؛ لأن الوقت لا شأن له هنا ، على أن عموم الأحوال يستلزم عموم الأوقات .

                          ثم أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك كله بقوله : على الله توكلنا أي : إليه وحده وكلنا أمرنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من المحافظة على الدين الذي شرعه لنا ، فهو يكفينا أمر تهديدكم ، وكل ما لم يجعله في استطاعتنا من جهادكم ، وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل عليه كفاه : ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( 65 : 3 ) وإن من شروط التوكيل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية ، ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية ، فمن يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور ، لا متوكل منصور ولا مأجور ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن سأله أيترك ناقته سائبة ، ويتوكل على الله تعالى ؟ : اعقلها وتوكل رواه الترمذي ، وقال تعالى لرسوله بعد أمره بمشاورة أصحابه في غزوة أحد : فإذا عزمت فتوكل على الله ( 3 : 159 ) وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب ومنها مظاهرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومئذ بلبس درعين ، وقد بينا ذلك مفصلا في مواضع من هذا التفسير .

                          والخلاصة : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ جوابه للملأ من قومه بالتعجب من تهديدهم وإنذارهم وإقامة الأدلة الدينية والعقلية على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم ، وعدم استطاعة أحد على إجبارهم عليه غير الله تعالى الفعال لما يريد ، والاستدلال على أن هذا مما لا يريده ، وثنى ببيان توكلهم على الله تعالى الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه ، وهو فوق كسبه واختياره ، فتجتمع له العناية الكسبية والوهبية ، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون شرعيا مرجو الإجابة إلا بعد القيام بما في الطاقة من العمل الكسبي ، والتوكل القلبي ، فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية