الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 157 ] ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون )

                          الكلام كما تقدم في سرد الأحكام العملية ، ولما فرغ من أحكام الصيام - وفيها حكم أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت - مهد لحكم أكل مال غيره بذكر الحدود العامة والنهي عن قربها ثم قال : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) الخطاب لعامة المكلفين ، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض ، واختار لفظ ( أموالكم ) وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك ; لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب ، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، كأنه قال : لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ; لأن ذلك جناية على نفس الآكل ، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها ; لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها ، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة ، فما أبلغ هذا الإيجاز ! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز ! .

                          وفي الإضافة معنى آخر قاله بعضهم ، وهو للتنبيه على أنه يجب على الإنسان أن ينفق مال نفسه في سبيل الحق ، وألا يضيعه في سبيل الباطل المحرمة ، ونظر فيه آخر بما رضيه الأستاذ الإمام فقال : إنه صحيح في ذاته ولكن فهمه من الآية بعيد لقوله : ( بينكم ) فهو صريح في أن المراد ما يقع به التعامل بين اثنين فأكثر .

                          والمراد بالأكل مطلق الأخذ ، والتعبير عن الأخذ بالأكل معروف في اللغة ، تجوزوا فيه قبل نزول القرآن ، ومنشؤه أن الأكل أعم الحاجات من المال وأكثرها ، وإن كان بعض الناس يفضل غير الأكل من الأهواء ينفق فيه المال ، فإن هذا لا ينفي أن الحاجة إلى الأكل وتقويم البنية أعظم وأعم ، وأكثر ما يستعمل أكل المال في مقام أخذه بالباطل ، وقد يستعمل في غيره .

                          وأما الباطل فهو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي ، وهو من البطل والبطلان ; أي الضياع والخسار ، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها ، ورضاء من يؤخذ منه ، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع .

                          [ ص: 158 ] قال الأستاذ الإمام : ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادا على السؤال ، ونقول : إنها كما حرمت إعطاءه حرمت عليه الأخذ إذا هو أعطاه معط ، فلا يحل لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها ، ولا للمضطر إلا إذا كان عاجزا عن إزالة اضطراره بسعيه وكسبه .

                          أقول : وأبلغ من هذا وذاك ما ذكره الفقهاء من أنه لا يجب على العاري الذي لا يجد ما يستر عورته في الصلاة أن يستعير ثوبا يصلي فيه أو يقبله صدقة ممن يبذله له ; لما في ذلك من المنة التي لا يكلفه الإسلام احتمالها ، وله أن يصلي عاريا .

                          قال : ومنه تحريم الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطي ، ومثل لذلك بما يقع في الناس كثيرا من أكل الربا أضعافا مضاعفة ، وفرق بينه وبين السلم ، وقال : إن روح الشريعة تعلمنا بمثل هذه الآية أنه يطلب من الإنسان أن يكتسب المال من الطرق الصحيحة المشروعة التي لا تضر أحدا ، وإنما أجمل وأوجز القرآن في الباطل ; لأنه من الأمور المعروفة للناس بوجوهه الكثيرة ، وحسب المسلم أن يكف عن كل ما يعتقد أنه باطل ، على أنه بين هذا الإجمال في أمور قد تخفى على الناس كالإدلاء إلى الحكام الآتي ، وكتحريم الربا ; أي : ربا الفضل المنهي عنه في الحديث دون ربا النسيئة المحرم بنص القرآن فهو لا خفاء في بطلانه ; لأنه زيادة في المال لأجل التأخير في أجل الدين الذي استهلك لا لمنفعة جديدة .

                          ويدخل في هذا الباب التعدي على الناس بغصب المنفعة ، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا ، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل ، ويدخل فيه سائر ضروب التعدي والغش والاحتيال ، كما يقع من السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس ; إذ يزينون للناس السلع الرديئة ، والبضائع المزجاة ، ويسولون لهم فيورطونهم ، وكل من باع أو اشترى مستعينا بإيهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صحة ، بحيث لو عرف الخفايا وانقلب وهمه علما لما باع أو لما اشترى فهو آكل لماله بالباطل .

                          ومن هؤلاء الموهمين باعة التولات والتناجيس والتمائم ، وكذا العزائم ، وختمات القرآن ، والعدد المعلوم من سورة ( يس ) أو بعض الأذكار ، وقد بلغ من هزؤ هؤلاء بالدين أن كان بعض المشهورين منهم يبيع سورة ( يس ) لقضاء الحاجات أو لرحمة الأموات ، يقرؤها مرات كثيرة ، ويعقد لكل مرة عقدة في خيط يحمله ، حتى إذا ما جاءه طالب ابتياع القراءة وأخذ منه الثمن بعد المساومة يحل له من تلك العقد ، بقدر ما يطلب من العدد . ذكر هذه الواقعة الأستاذ الإمام في الدرس ، وقد كنا نسمع عن رؤساء بعض [ ص: 159 ] النصارى نحو هذا في بيع العبادة التي يسمونها القداديس فنسخر منهم ، حتى علمنا أننا قد اتبعنا سننهم شبرا بشبر حتى دخلنا في جحر الضب الذي دخلوه .

                          قال الأستاذ : إن كل أجر يؤخذ على عبادة فهو أكل لأموال الناس بالباطل ، وقد مضى الصدر الأول ولم يكن أخذ الأجر على عبادة ما معروفا ، ولا يوجد في كلام أهل القرن الأول والثاني كلمة تشعر بذلك ، ثم لا يعقل أن تحقق العبادة وتحصل بالأجرة ; لأن تحققها إنما يكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته بامتثال أمره ، ومتى شاب هذه النية شائبة من حظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة خالصة لله ، والله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا من الحظوظ والشوائب .

                          أقول : وقد ورد على لسان الشارع تسمية مثل هذا العمل شركا ، ففي حديث مسلم وغيره ( ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه - إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله لملائكته : اقبلوا هذا وألقوا هذا ، فتقول الملائكة : وعزتك ما رأينا إلا خيرا ، فيقول : نعم لكن كان لغيري ، ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي ) ) وفي رواية يقولون : ( ( ما كتبنا إلا ما عمل ) ) إلخ ، وفي حديث أحمد والترمذي وابن ماجه ( ( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده ; فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) ) .

                          وإنما يظهر تأويل مثل هذا فيمن قصد العبادة والأجر معا ، بحيث لو لم يستأجر للقراءة ( مثلا ) لقرأ . وأما من لا يقصد إلا الأجرة ، فإذا لم تكن لا يقرأ تلك الختمة أو العدد من السور أو الذكر فأمره أقبح ، وذنبه أكبر ، وعمله باطل لا يعتد به شرعا ، فدافع الأجر عليه خاسر لماله ، وآخذه منه خاسر لمآله ، ومثل قصد الأجرة المالية الرياء ; فإنه منفعة معنوية .

                          وقد فرق بعض الفقهاء بين قراءة القرآن وتعليمه ، فأجاز أخذ الأجرة على تعليمه كتعليم العلم ; لأن الاشتغال بالتعليم يصد عن التفرغ للكسب من الوجوه الأخرى ، فإذا لم نجز المعلم يتعسر علينا أن نجد من يتصدى لتعليم الأولاد ، وليس زمننا كزمان السلف يتفرغ فيه الناس لنشر العلم وإفادته تعبدا لله وتقربا إليه .

                          قال الأستاذ الإمام : من علم العلم والدين بالأجرة فهو كسائر الصناع والأجراء ، لا ثواب له على أصل العمل بل على إتقانه والإخلاص فيه والنصح فيه والنصح لمن يعلمهم . وأذكر أنني سمعته في وقت آخر يقول : ينبغي للمعلم الذي يعطى راتبا من الأوقاف الخيرية أن يأخذ إذا كان محتاجا لأجل سد الحاجة لا بقصد الأجرة على التعليم ، وبذلك يكون عابدا لله تعالى بالتعليم نفسه ، وعلامته أن يستعفف إذا هو استغنى ، فلا يأخذ من الوقف شيئا .

                          [ ص: 160 ] وقالوا في المؤذن مثل ما قالوا في معلم القرآن ، ويأتي فيه من القصد والنية ما ذكر في المعلم .

                          ولا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على جواب السائل عن مسألة دينية تعرض له ; إذ الإجابة فريضة على العارفين وكتمان العلم محرم عليهم ، ولبسط هذه الأحكام موضع آخر .

                          وجملة القول أن أكل أموال الناس بالباطل يتحقق في كل أخذ للمال بغير رضا من المأخوذ منه ، لا شائبة للجهل أو الوهم أو الغش أو الضرر فيه ، ومما تعرض فيه هذه الشوائب كلها أو أكثرها قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى ، أو دفع ضرر الجن أو غيره عن الأحياء ، والذي يعطي الأجرة عليها يجهل ذلك ، ويتوهم أنها تكون سببا لنفع الميت أو الحي أو دفع ضرر العذاب في الآخرة أو الجن في الدنيا ( مثلا ) ، والجاهل بالشرع في المسألة عرضة لقبول الإيهام والغش من الدجالين والمحتالين ، وليس كذلك إقراء القرآن في البيوت لأجل اتعاظ أهلها وتقوية شعور الإيمان بسماعه ، بل هذا كتعليم العلم الذي بسطناه آنفا ، وينبغي أن يكون إكرام القراء بغير صفة الأجرة .

                          ذكر الأكل مجملا عاما ، ثم بين نوعا منه خصه بالنهي عنه مع دخوله في العام لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس ; إذ يعتقد بعضهم أن الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق ومنفذ الشرع إذا حكم لإنسان بشيء ولو بغير حق فإنه يحل له ولا يكون من الباطل فقال تعالى : ( وتدلوا بها إلى الحكام ) أي : ولا تلقوا بها إلى الحكام رشوة لهم ( لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) إبطالا لهذا الاعتقاد ; ليعلم أن الحق لا يتغير بحكم الحاكم ، بل هو ثابت في نفسه ، وليس على الحاكم إلا بيانه وإيصاله إلى مستحقه بالعدل ; بل قال الأستاذ الإمام : إن الحاكم عبارة عن شخص العدل الناطق بما لكل أحد منه ا هـ . أي : فإذا نطق بغير الحق خطأ أو اتباعا لهواه فقد خرج عن حقيقته ومعناه ، وتعريفه للمحكوم له غير ما يعرفه لا يغني عنه شيئا ، وكذلك إلزام خصمه التنفيذ . نعم ; إن كان المحكوم له بالباطل في الواقع يعتقد أنه صاحب الحق لشبهة عرضت له وحكم له الحاكم يكون معذورا فيما يأكله بحكمه ، ولا يعذر إذا كان عالما بأنه غير محق ; لأن حكم القاضي على الظاهر فقط .

                          قال الأستاذ الإمام : قد نفت الآية الاشتباه وبينت أن الاستعانة بالحكام على أكل المال بالباطل محرم ; لأن الحكم لا يغير الحق في نفسه ، ولا يحله للمحكوم له به ، ومع هذا قد اختلف علماؤنا في حكم القاضي ، هل هو على الظاهر فقط أم ينفذ ظاهرا وباطنا ويكون الإثم على القاضي وحده إن تعمد الجور دون المحكوم له ؟ فالجمهور على أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا فقط ، وأبو حنيفة على أن حكم القاضي بنحو الطلاق وعقد النكاح أو فسخه [ ص: 161 ] ينفذ ظاهرا وباطنا وإن كان الشهود زورا ، وأن حكمه بالمال لا ينفذ إلا ظاهرا فلا يحل للمحكوم له تناوله إذا لم يكن له .

                          وأزيد المسألة وضوحا بالتمثيل فأقول : يعني أن القاضي إذا حكم بفسخ النكاح أو التفريق بين الزوجين بشهادة زور حرم عليهما أن يعيشا معا عيشة الأزواج ، وإذا شهد شهود الزور بأن فلانا عقد على فلانة وحكم القاضي بصحة العقد حل للرجل المحكوم له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي الذي يعلم أنه بغير حق وقد نقل النووي في شرح مسلم أن الشافعي حكى الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ، وقد علمت أن عليه الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة فلم يخالفاه إلا لأنه ظهر لهما قوة دليل الجمهور ، ومنه حديث أم سلمة عند الجماعة : مالك وأحمد والشيخين وأصحاب السنن ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) ) وروي بلفظ آخر بمعناه . والمنتصرون لأبي حنيفة يقصرون الأمر على الأموال ; لأنها الموضوع الذي وردت فيه الآية والحديث كما تراه في لفظ الحديث ، ولبعضهم فيهما من التحريف ما لا ينبغي أن يحكى ، ورد الجمهور ذلك بالقاعدة المجمع عليها ، وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال ، فإن لم يتناولها النص بلفظه تناولها بعلته بالأولى . وفي الآية والحديث عبرة لوكلاء الدعاوى الذين يدعون بالمحامين ، فلا يجوز لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل ، ولا أن يستمر في محاولة إثباتها إذا ظهر له بطلانها في أثناء التقاضي . وإننا نراهم يعتمدون على خلابتهم في القول ولحنهم في الخطاب ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) ( 2 : 269 ) .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية أن الإدلاء بمعنى الإلقاء ، وقالوا : إنه في الأصل إلقاء الدلو ، واختير هذا التعبير لأنه يشعر بعدم الروية ، هذا ما اقتصر عليه الأستاذ الإمام ، وفي التفسير الكبير للإمام الرازي : إلقاء الدلو يراد به إخراج الماء ، وإلقاء المال إلى الحكام يراد به الحكم للملقي ، وذكر وجها آخر بعيدا . والضمير في قوله تعالى : ( بها ) قيل : إنه يرجع إلى الأموال والمعنى لا تلقوها إليهم بالرشوة ، وقالوا : إن الرشوة رشاء الحكم ، وقيل : إن المراد ولا تلقوا بحكومة الأموال إلى الحكام ، والفريق من الشيء : الجملة والطائفة منه ، والإثم : فسره بعضهم بشهادة الزور ، وبعضهم باليمين الفاجرة ، وهو أعم من ذلك ، وإن صح ما ذكروه في سبب نزول الآية ، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم من مراسيل سعيد بن جبير ( ( أن عبد الله بن أشوع الحضرمي وامرأ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة ، فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به ، فنزلت ) ) والمراد بالعلم في قوله : [ ص: 162 ] ( تعلمون ) ما يشمل الظن ، وهو احتراس عمن يأكل معتقدا أنه حقه ، ولذلك أمثلة وفروع لا تحصى ، ذكر الأستاذ الإمام في الدرس مثل ما إذا علم زيد أن أباه أودع له وديعة كذا عند فلان الذي مات فطالب ولد الميت بذلك ، وكان هذا يعتقد أن أباه تركه تراثا فمن حكم له به منهما لا يقال : إنه أكله بالإثم .

                          وذكر الأستاذ الإمام في تفسير الآية ما عليه المسلمون في هذا العصر ، ولا سيما في بلاد مصر ، من كثرة التقاضي والخصام ، والإدلاء إلى الحكام ، حتى إن منهم من لا يطالب غريمه بحقه إلا بواسطة المحكمة ، ولعله لو طالبه لما احتاج إلى التقاضي ، ومنهم من يحاكم الآخر لمحض الانتقام والإيذاء وإن أضر بنفسه ا هـ .

                          ( أقول ) : وكم من ثروة نفدت ، وبيوت خربت ، ونفوس أهينت ، وجماعة فرقت ، وما كان لذلك من سبب إلا الخصام ، والإدلاء بالمال إلى الحكام ، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون إليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم ، ويحل فيهم التراحم والتلاحم ، محل التزاحم والتلاحم ، وإنك ترى من أذكيائهم من يزعم أنهم عن هدي الدين أغنياء ، وقد عموا عما أصابهم بتركه من الأرزاء ، فهم بالفسق عنه يتنابذون ويتحاسدون ، ويتنافدون ويتناقدون ، ويحسبون أنهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية