الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الباب الرابع في البعث والجزاء ) :

                          آيات البعث في القرآن نوعان : الأول لدعوة المشركين إلى الإيمان به والاستدلال على قدرة الخالق - تعالى - عليه ، وإزالة استبعادهم له وتقريبه إلى إدراكهم بضرب الأمثال له .

                          ( والثاني ) لتذكير المؤمنين به للترغيب والترهيب والموعظة ، والجزاء قسمان أيضا : جزاء المؤمنين والمتقين الصالحين ، وجزاء الكافرين الظالمين المجرمين ، ولكل من البعث والجزاء بقسميه ألوان من البيان الرائع العجيب ، وأساليب في التعبير البليغ ، وكل من النوعين والقسمين يجتمعان ويفترقان في التعبير عنهما والخطاب بهما بتلك الأساليب المختلفة في الآية والآيتين والآيات ، ولكل منهما تأثيره في الخوف والرجاء ، يجعل التكرار الضروري لتثبيت المعاني في النفس غير ممل للسمع ، ولا مسئم للطبع ، وهذا من أبدع ما يمتاز به كلام الرب المعجز على كلام خلقه . فتأمل ذلك وتدبره في قوله أول السورة بعد ذكر الإنذار والتبشير ، والتخويف من عذاب يوم كبير : - إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير - 4 ثم تأمل قوله بعد ذكر خلق السموات والأرض إذ كان عرشه على الماء ليبلو العقلاء المخاطبين أيهم أحسن عملا : - ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين - 7 فالآيتان من نوع الاستدلال على البعث والجزاء معا بأن الخالق القدير ، ذا الحكمة البالغة في التقدير والتدبير ، لا تظهر عظمة قدرته ، وسر حكمته في تقديره ، إلا باختبار عباده الذين وهبهم العقل والتمييز بين الحق ، الذي تتجلى به الحكمة في الخلق ، والباطل العبث بخلوها منه ، وبالجزاء على ما يعملون من خير وشر ، وحسن وقبيح ، وهذا الجزاء لا يكون تاما عاما للأفراد في الدنيا لقصر أعمالهم فيها ، فدل على أن الحكمة الربانية تقتضي أن يكون في حياة ثانية بعد هذه الحياة الدنيا ، فكل ما يدل على ربوبيته - تعالى - وحكمته وعدله يدل على البعث والجزاء لأنه من لوازمها .

                          وإن ما بعد هذا من الآيات في رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد تكرر فيه جزاء الكافرين والمؤمنين في الآخرة ; لأن مشركي العرب كانوا أكثر جدالا من كل قوم في البعث بعد الموت ، فترى بعدها كل جدال نوح وصالح لقومه في عقيدة التوحيد بعبادة الله وحده دون عقيدة البعث ، وزاد شعيب مسألة الأمر والنهي في المكيال والميزان ، وانحصر إنذار لوط في النهي عن الفحشاء والمنكر ، ثم ختم الله العبرة في هذه القصص بهلاكهم في الدنيا [ ص: 178 ] وعدم إغناء آلهتهم عنهم من شيء ، وهو دليل التوحيد ، وبعذاب الآخرة إذ عاد الكلام كما بدأ في إنذار مشركي أم القرى وما حولها من العرب ، فذكر اليوم الآخر وما فيه من الجزاء بتلك الآيات البليغة الممتازة : - إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود - 103 الآيات - ولما بين فيها جزاء كل من فريق الأشقياء والسعداء وخلودهم في النار والجنة ، استثنى بعد كل منهما استثناء لم يسبق له فيما قبله ولا فيما بعده من القرآن نظير في ذاته ولا في التفرقة بينهما ، وهو قوله في أهل النار : - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد - 107 وفي أهل الجنة : - خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ - 108 .

                          حار في هذا الاستثناء والتفرقة فيه بين الدارين المفسرون من علماء الآثار والمتكلمين والصوفية ; لتعارضه في الظاهر مع الآيات الكثيرة في خلود الفريقين ، وتأكيد بعضها بكلمة التأييد ، ولكن أكثره في المؤمنين أصحاب الجنة ، حتى في الآيات التي فيها المقابلة بين الفريقين كما تراه في سورة النساء ( 4 : 56 مع 57 و 121 مع 122 ) وفي سورة التغابن ( 64 : 9 مع 10 ) وفي سورة البينة ( 98 : 6 مع 8 ) ففي هذه الآيات يؤكد خلود المؤمنين في الجنة بالتأييد دون خلود الكافرين في النار ، كما يؤكده في آيات أخرى من سور : كالنساء والتوبة والمائدة والطلاق بدون مقابلة .

                          ومثل هذه الفروق لا تأتي في الذكر الحكيم جزافا أو عبثا أو عن غفلة ككلام البشر ، بل يتعين أن يكون لها حكمة في التشريع ، ونكتة في بلاغة التعبير ، ولا يقدر على الغوص في هذا البحر الخضم واستخراج أمثال هذه الدرر منه إلا الجامع بين أسرار العلمين - علم حكم التشريع وعلم أسرار البلاغة - ولقد كان أقرب ما يقال في تلك الآيات أنها بمعنى الاستثناء في هاتين الآيتين المتبادر منهما في ذاتهما ، وهو التفرقة بين الجزاء بالفضل فوق العدل الذي يضاعف من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف ، والجزاء بالعدل والمساواة الذي لا يظلم فيه مثقال ذرة ، وما فوقه من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، ولكن يقف في طريق هذا الفهم على وضوحه أن التأييد أكد به جزاء الذين كفروا وظلموا في أواخر سورة النساء ( 41 : 167 - 169 ) وجزاء الذين لعنهم الله منهم في سورة الأحزاب 33 : 57 و 64 ) وجزاء العصاة في سورة الجن : - ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا - 72 : 23 والقواعد تقتضي جعل العصيان هنا عاما شاملا لترك الإيمان بمعنى الشرك .

                          على أننا بينا في تفسير ما تقدم من الآيات في الخلود والتأييد معناهما اللغوي ، وأنه لم يكن عند العرب لفظ منها ولا من غيرها يدل على التأييد في الاصطلاح الشرعي ، وهو عدم النهاية في الوجود وإن قدرت بألوف الألوف وما لا يحصى من السنين .

                          [ ص: 179 ] وبينا في تفسير الاستثناء هنا وفي سورة الأنعام أن جمهور المفسرين تأولوه لموافقة المقرر في العقائد من أن خلود أهل النار كأهل الجنة ، وأن بعضهم جعله على ظاهره لأنه معارض بنصوص القرآن والحديث الصريحة في سعة رحمة الله وعدله ، وكون العقاب عنده على قدر الذنب ; لأن الزيادة ظلم وهو محال على الله - عز وجل - عقلا ونقلا ، وكنت وعدت بأن أذكر هنا كل ما قاله العلماء في هذا الموضوع ، ثم رأيت الآن أن لا حاجة إليه بعد أن وجهت تفسير الاستثناء بما يجمع بين النصوص المتعارضة الظاهر وما سبق في تفسير آية الأنعام ( 6 : 127 ص 54 - 86 ج8 تفسير ط الهيئة ) وهو ما بسطه المحقق ابن القيم من دلائل الفريقين ، وخلاصته : أن رحمة الله - تعالى - أوسع وأكمل ، وإرادته أعم وأشمل ، فلا يقيدهما شيء ولا يحيط بهما إلا علمه . وقد تعرض لهذا الموضوع من المفسرين المتأخرين القاضي الشوكاني في تفسيره ( فتح القدير ) وتبعه السيد حسن صديق خان في تفسيره ( فتح البيان ) فليراجعهما من شاء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية