الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال عز وجل : [ ص: 169 ] ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) .

                          وجه اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما أنه سبحانه وتعالى نهى في السياق الذي قبلهما عن تحريم ما أحله الله وعن الاعتداء فيه وإن كان التحريم تركا لمباح يلتزم بالنذر أو بالحلف باسم الله تنسكا وتعبدا مع اعتقاد إباحته في نفسه ، لا شرعا يدعى إليه ويعتقد وجوبه وبين فيه كفارة الأيمان ، وحرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، وصيد البر على المحرم بحج أو عمرة ، وبعد أن نهى عن تحريم ما أحله ، نهى أن يكون المؤمن سببا لتحريم الله تعالى شيئا لم يكن حرمه ، أو شرع حكم لم يكن شرعه ، بأن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء مما سكت الله عنه عفوا وفضلا ، فيكون الجواب عنه أن أورد تكليفا جديدا ، فناسب بعد هذا أن يبين ضلال أهل الجاهلية فيما حرموه على أنفسهم وما شرعوه لها بغير إذن من ربهم ، وما قلد به بعضهم بعضا على جهلهم ، مع بيان بطلان التقليد وكونه ينافي العلم والدين فقال :

                          ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) هذه أربعة نعوت لأربعة أنواع من محرمات الأنعام التي حرمتها الجاهلية على أنفسها .

                          ( فالبحيرة ) : فعيلة بمعنى مفعولة وهي الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا ، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا أنتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روي عن ابن عباس ، وقيل : إذا ولدت عشرة أبطن ، يفعلونه ليكون علامة على تحريم أكلها أو ركوبها أو الحمل عليها ، وهو مأخوذ من مادة ( بحر ) وهو في الأصل كما قال الراغب : " كل مكان واسع جامع للماء الكثير " ثم اشتقوا منه عدة كلمات فيها معنى السعة .

                          ( والسائبة ) : الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ، ولا يحمل عليها شيء ، ولا يجز صوفها ولا يحلب لبنها إلا لضيف ، فهي اسم فاعل من قولهم : ساب الفرس [ ص: 170 ] ونحوه : أي ذهب على وجهه حيث شاء ، وساب الماء : جرى ، فهو سائب ، وقال محمد بن إسحاق : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث ليس بينهن ذكر ، وقال مجاهد : هي من الغنم مثل البحيرة من الإبل ، وعن أبي روق والسدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها لطواغيتهم وأوثانهم .

                          ( والوصيلة ) : الشاة التي تصل أنثى بأنثى في النتاج وقيل : هي التي وصلت أخاها . قال الراغب : وهو أن أحدهم كان إذا ولدت له شاته ذكرا أو أنثى قالوا : وصلت أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها . وعن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرا وأنثى في بطن واحد استحيوهما ، وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا .

                          ( والحامي ) : اسم فاعل من الحماية ، وهو فحل الضراب أي التلقيح ، قيل : إذا أتم ضراب عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره ، وتركوه لا يحملون عليه شيئا ، وروي أنهم كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس تمييزا . وقد اختلفت الروايات في تفسير هذه الألفاظ كما ترى ، وأقواها ما رواه البخاري ومسلم وغير واحد من رواة التفسير المأثور عن سعيد بن المسيب قال :

                          البحيرة : التي يمنح درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب " قال ابن المسيب : والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه ( أي تركوه ) للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي .

                          وسيأتي في سورة الأنعام بقية ما يتعلق بهذا البحث ومن ابتدعه للعرب وغير شريعة إبراهيم عليه السلام ، وما ابتدعه المسلمون مما يضاهي ذلك .

                          أما معنى الجملة : فهو أن الله تعالى لم يشرع لهم تحريم البحائر والسوائب وأخواتهما أي لم يجعله من أحكام الدين ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) بزعمهم أن هذه الأشياء محرمة سواء أسندوا تحريمها إلى الله تعالى ابتداء أو ادعاء على سبيل الاستدلال كما حكى عنهم بقوله : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ( 6 : 148 ) أي ولكنه شاء ذلك منا ففعلناه فهو راض به أم لم يسندوه إليه . أما كون إسناد تحريمه إليه بالتصريح [ ص: 171 ] افتراء عليه فظاهر بين ، وأما إسناده إليه ادعاء واستدلالا بالمشيئة فهو افتراء أيضا لأن دليله باطل ، فإن الله تعالى لم يمنع الكفار من الكفر والفساق من الفسق ولا أكرههم عليها بمحض المشيئة والقدرة ، بل جعل لهم اختيار الترجيح في أعمالهم ولم يجعلهم مجبورين عليها ، فعدم إجبارهم على الترك أو الفعل لا يدل على رضائه تعالى بما اختاروه لأنفسهم من كفر وفسق ، وأما كونه افتراء عليه في حال السكوت عن إسناده إليه ، فوجهه أن التحريم والتحليل من شأن رب الناس وإلههم سبحانه ، فليس لأحد من خلقه أن يحرم عليهم شيئا إلا بإذنه والتبليغ عنه ، فمن تجرأ على ذلك كان مدعيا بفعله هذا ، إما الربوبية وإما الإذن من الرب تعالى ، وكلاهما افتراء ، والفعل فيه أبلغ من القول ( وأكثرهم لا يعقلون ) أنهم يفترون على الله الكذب بتحريم ما حرموا على أنفسهم ، وأن ذلك من أعمال الكفر به ، بل يظنون أنهم يتقربون به إليه ولو بالوساطة; لأن آلهتهم التي يسيبون باسمها السوائب ويتركون لها ما حرموه على أنفسهم ، ليست بزعمهم إلا وسطاء بينهم وبين الله تعالى ، تشفع لهم عنده ، وتقربهم إليه زلفى ، وهكذا شأن كل مبتدع في الدين بتحريم طعام أو غيره ، وتسييب عجل للسيد البدوي أو سواه ، وسن ورد أو حزب يضاهي به المشروع من شعائر دينه ، أو غير ذلك من العبادات التي لم تؤثر عن الشارع ، يزعم أنه جاء بما يتقرب به لله تعالى وينال به رضاه عز وجل ، والحق أن الله تعالى لا يعبد إلا بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا عبادة ولا تحريم إلا بنص عام أو خاص ، وليس لأحد أن يزيد أو ينقص برأي ولا قياس ، ولذلك قال عز وجل :

                          ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) أي وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله تعالى في القرآن من الأحكام المؤيدة بالحجج والبينات المبنية على قواعد درء المفاسد وجلب المصالح دون العبث والخرافات وإلى الرسول المبلغ لها والمبين لمجملها فاتبعوه فيها ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وأحكام وحلال وحرام . قال تعالى ردا عليهم : ( أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) أي أيكفيهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الشرائع الإلهية ، ولا يهتدون سبيلا إلى مصالحهم الدينية والدنيوية ؟ وإنما يعرف ما يكفي الأفراد والأمم وما لا يكفي بالعلم الصحيح الذي يميز به بين الحق والباطل ، والاهتداء إلى الأعمال الصالحة والفضائل ، وأين من هذا وذاك ، أولئك الأميون الجهلاء الذين كانوا يتخبطون في وثنية وخرافات ، ووأد بنات ، وعدوان مستمر ، وقتال مستمر ، وعداوة وبغضاء ، وظلم لليتامى والنساء ، على ما أوتوا من فطنة وذكاء ، وعزيمة ودهاء ، وحزم ومضاء ، وعزة وإباء ، واستقلال أفكار وآراء ، وغير ذلك من المزايا التي تؤهلهم لأن يكونوا هم الأئمة الوارثين ، والخلفاء [ ص: 172 ] العادلين ، لولا تقليد الآباء ! وكذلك كان بعد اتباعهم بتركهم مقتضى العلم وهداية القرآن .

                          هذه الآية والآية المشابهة لها في سورة البقرة ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ( 2 : 170 ) هما أظهر وأوضح ما ورد في الكتاب العزيز من الآيات في بطلان التقليد ، فقد قررنا أن التقليد خلاف مقتضى حكم العقل ودلائل العلم وهداية الدين ، ولكن خلفنا الطالح رجعوا إليه خلافا لسلفهم الصالح ، حتى عادوا وهم في حجر الإسلام ، شرا مما كانت عليه الجاهلية في حجر الأصنام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية