الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 419 ] النوع الحادي والعشرون

بلاغة القرآن معرفة كون اللفظ والتركيب أحسن وأفصح

ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع .

وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة ، وأجمعها ما جمعه الشيخ شمس الدين [ ص: 420 ] محمد بن النقيب مجلدين قدمهما أمام " تفسيره " ، وما وضعه حازم الأندلسي المسمى بـ " منهاج البلغاء ، وسراج الأدباء " .

وهذا العلم أعظم أركان المفسر ، فإنه لا بد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، من الحقيقة والمجاز ، وتأليف النظم ، وأن يواخي بين الموارد ، ويعتمد ما سيق له الكلام حتى لا يتنافر ، [ ص: 421 ] وغير ذلك . وأملأ الناس بهذا صاحب " الكشاف " ، قال السكاكي : " واعلم أن شأن الإعجاز عجيب ، يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن ، تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ، ولا طريق إلى تحصيله لذوي الفطر السليمة إلا إتقان علمي المعاني والبيان ، والتمرن فيهما " .

وقال الزمخشري : من حق مفسر كتاب الله الباهر ، وكلامه المعجز ، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه ، والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي سليما من القادح ، وإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل .

وادعى القاضي أبو الطيب في كتاب " إعجاز القرآن " أن كثيرا من محاسن هذا العلم لا يعد من البلاغة القرآنية ; بناء على اختياره في أن القرآن نزل على خلاف أساليبهم ، وسيأتي الكلام في ذلك .

فإن قلت : كيف عددت هذا من أنواع علومه ; مع أن سلف المفسرين من الصحابة والتابعين لم يخوضوا فيه ، ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ، وإنما هذا أحدثه المتأخرون ؟ .

قلت : إنما سكت الأولون عنه لأن القصد من إنزال القرآن تعليم الحلال والحرام ، وتعريف شرائع الإسلام وقواعد الإيمان ، ولم يقصد منه تعليم طرق الفصاحة ، وإنما جاءت لتكون معجزة ، وما قصد به الإعجاز لا سبيل إلى معرفة طريقه ، فلم يكن الخوض فيه مسوغا ، إذ البلاغة ليست مقصودة فيه أصلا ; لأنه موجود في الصحف الأولى ، لا مع هذه البلاغة المعينة ، وإنما كان بليغا بحسب كمال المتكلم ، فلهذا لم يتكلم السلف في ذلك ، وكان معرفتهم بأساليب البلاغة مما لا يحتاج فيه إلى بيان ، بخلاف استنباط الأحكام ، فلهذا تكلموا في الثاني دون الأول .

واعلم أن معرفة هذه الصناعة بأوضاعها هي عمدة التفسير ، المطلع على عجائب كلام [ ص: 422 ] الله ، وهي قاعدة الفصاحة ، وواسطة عقد البلاغة ، ولو لم يحبب الفصاحة إلا قول الله تعالى : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ( الرحمن : 1 - 4 ) لكفى ، والمعلومات كثيرة ، ومنن الله تعالى جمة ، ولم يخصص الله من نعمه على العبد إلا تعليم البيان ، وقال تعالى : هذا بيان للناس ( آل عمران : 138 ) ، وقال تعالى : تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) .

ولحذف الواو في قوله تعالى : ( علمه البيان ) ( الرحمن : 4 ) نكتة علمية ، فإنه جعل تعليم البيان في وزان خلقه ، وكالبدل من قوله : خلق الإنسان ( الرحمن : 3 ) ; لأنه حي ناطق ، وكأنه إلى نحوه أشار أهل المنطق بقولهم في حد الإنسان : " حيوان ناطق " .

ولا شك أن هذه الصناعة تفيد قوة الإفهام على ما يريد الإنسان ويراد منه ، ليتمكن بها من اتباع التصديق به ، وإذعان النفس له .

وينبغي الاعتناء بما يمكن إحصاؤه من المعاني التي تكلم فيها البليغ مثبتا ونافيا .

فمنها تحقيق العقائد الإلهية ، كقوله سبحانه : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( القيامة : 40 ) بعد ذكره النطفة ومتعلقها في مراتب الوجود ، وكقوله : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ( الزمر : 67 ) فمن يقرع سمعه هذا الكلام المعجز استشعر من روعة النفس واقشعرار الجلد ما يمكن خشية الله وعظمته من قلبه .

ومنها بيان الحق فيما يشكل من الأمور غير العقائد ; كقوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ( الأنفال : 61 ) ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : فمن أين يكون الشبه ؟ فانظر كيف أعطى في هذه الأحرف اليسيرة الحجة على من أنكر احتلام المرأة ، فلا أبين من هذا [ ص: 423 ] البيان ، ولا أشفى للمرتاب من هذا القول ، فإنه يرى إحدى المقدمتين عيانا ، وهو شبه الولد بأمه ، ويعلم قطعا أنه ليس هناك سبب يحال الشبه عليه غير الذي أنكر .

ومنها تمكين الانفعالات النفسانية من النفوس مثل الاستعطاف والإعراض ، والإرضاء والإغضاب ، والتشجيع والتخويف ، ويكون في مدح وذم ، وشكاية واعتذار ، وإذن ومنع ، وينضم إلى قوة القول البلاغي معنى متصل إعانة لها ; مثل فضيلة القائل وحمية النازع ، وقوة البليغ على إطراء نفسه ، وتحسين رأيه .

ومن ذلك استدعاء المخاطب إلى فضل تأمل ، وزيادة تفهم ، قال تعالى : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ( سبأ : 46 ) ، وكذلك قوله : وما يعقلها إلا العالمون ( العنكبوت : 3 ) ، وسر هذا أن السامع يحرص على أن يكون من هؤلاء المثنى عليهم ، فيسارع إلى التصديق ، ويلقى في نفسه نور من التوفيق .

ويكون هذا القول البلاغي ما يسمى الضمير ، ويسمى التمثيل ، وأعني بالضمير أن يضمر بالقول المجادل به لبيان أحد حرفيه ; كقول الفقيه : النبيذ مسكر ; فهو حرام . وكقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( الإسراء : 27 ) .

وقد يكون هذا الإضمار في القياس الاستثنائي أيضا ; كقولك : لو كان فلان عزيزا لمنع بأعنة الخيل جاره ، أو جوادا لشب لساري الليل ناره ; معولا على أنه قد علم أنه ما منع ولا شب ، فيثبت بذلك مقابله وهو البخل والذلة ، ومن هذا قوله تعالى : ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ( آل عمران : 159 ) ، وقد شهد الحس والعيان أنهم ما انفضوا من حوله وهي المضمرة ، فانتفى عنه - صلوات الله عليه - أنه فظ غليظ القلب .

ومن أحسن ما أبرز فيه هذا المضمر قول الشاعر :

[ ص: 424 ]

ولو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا

ومثال الاستمالة والاستعطاف قوله تعالى عن آدم : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ( الأعراف : 23 ) ، وحسبك إمام المتقين حين سمع شعر القائلة :


ما كان ضرك لو مننت وربما     من الفتى وهو المغيظ المحنق

قال : لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لما قتلته . وقال الآخر :


ونحن الكاتبون وقد أسأنا     فهبنا للكرام الكاتبينا

ومن الاستمالة والاسترضاء ما لا يخرق السمع أنفذ منه إلى القلوب ، وأوقع على المطلوب ، قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار وقد وجدوا في نفوسهم قسمة الغنائم في غيرهم : يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم كذا ؟ ألم أجدكم كذا ؟ ثم قال : أجيبوني . فما زادوا على قولهم : الله ورسوله أمن . فقال عليه الصلاة والسلام : أما إنكم إن شئتم لقلتم ولصدقتم : جئتنا بحال كذا وكذا فانظر ما أعجب هذا ! استشعر منهم - عليه السلام - أن إمساكهم عن الجواب أدب معه [ ص: 425 ] لا عجز عنه ، فأعلمهم بأنهم لو قالوا صدقوا ، ولم يكن هو بالذي يغضب من سماعه ، ثم زادهم تكريما بقوله : أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير ، وتنصرفوا برسول الله إلى رحالكم ثم زاد يمينه المباركة البرة على فضل ما ينصرفون به ; اللهم انفعنا بمحبته وتفضل علينا بشفاعته .

ومما تجد من هذا الطراز قول بعضهم :


أناس أعرضوا عنا     بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا     فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا     وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا     فإنا عنهم أغنى
وإن قالوا : ادن منا بع     د باعدنا من استدنى

ومن الإغضاب العجيب قوله تعالى : إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( الممتحنة : 9 ) ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( الممتحنة : 1 ) ، وقوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( الكهف : 50 ) ، ولله در القائل :


إذا والى صديقك من تعادي     فقد عاداك وانقطع الكلام

ومن قسم التشجيع قوله سبحانه : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ( الصف : 4 ) ، وكفى بحب الله مشجعا على منازلة الأقران ومباشرة الطعان ، وقوله - عز وجل - : إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ( آل عمران : 125 ) ، وكيف لا يكون والقوم صبروا ، والملك الحق جل جلاله وعدهم بالمدد الكثير ، ثم قال : وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ( آل عمران : 126 ) .

وقوله : وترجون من الله ما لا يرجون ( النساء : 104 ) .

[ ص: 426 ] وفي مقابلة هذا القسم ما يراد به الأخذ بالحزم ، والثاني بالحرب والاستظهار عليها بالعدة ، والاستشهاد على ذلك بقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( البقرة : 195 ) ، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( الأنفال : 60 ) .

ومنه الإبانة بالمدح ، وربما مدح الكريم بالتغافل عن الزلة والتهاون بالذنب ; كما أشار إليه القرآن فيما أسر سيد البشر لبعض نسائه ممن أظهره على إفشائه ، فأخبر سبحانه أنه عرف بعضه وأعرض عن بعض ( التحريم : 3 ) ; ولذلك قيل :

ليس الغبي بسيد في قومه     لكن سيد قومه المتغابي

ومنه التمثيل ، وإنما يكون بأمر ظاهر يسلمه السامع ، ويقويه ما في القرآن من قصص الأشقياء تحذيرا لما نزل بهم من العذاب وأخبار السعداء ، ترغيبا لما صاروا إليه من الثواب .

وفي الحديث : أرأيت لو مضمضت ، أرأيت لو كان على أبيك دين كيف ظهر إمكان نقل الحكم من شبه إلى شبه .

[ ص: 427 ] ومنه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار ، قال الزمخشري : " وسره إرادة التسليط لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف ; فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعذاب ، ثناه ببشارة عباده المؤمنين " .

التالي السابق


الخدمات العلمية